مقامرة علي شرف الليدي ميتسي (ريفيو)

انتهيت من قراءة رواية "مقامرة علي شرف الليدي ميتسي"، للكاتب الأستاذ "أحمد المرسي"، في طبعتها الأولي، الصادرة عن داردون، بعدد صفحات 350 صفحة.

قليلة هي الروايات التي أشعر عند قراءتها بالاشباع العقلي والنفسي والعاطفي. أفضل الروايات هي التي تنبض حياة من بين سطورها، تتخلخل في خلايا عقل القارئ كالصدمة العصبية، تدعوه للتفكير وربما التساؤل عن معاني كثيرة في الحياة، ومنها قد يتغير بعض من مفاهيمه واتجاهاته، تلك هي الرواية الفلسفية. أما اذا أضفنا للحوار العقلي ما بين سؤال وجواب، الكثير من المعلومات التاريخية والعامة، كوجبة ثقافية إثراية. مع متعة الحوارالانسيابي الداعم للفكرة وروح العمل الروائي، والبناء الدرامي القوي البسيط - السهل الممتنع - فنحن هنا أمام عمل متكامل، ننحني لها احتراما ونرفع لها القبعة. 

من هذا النوع من الروايات كانت رواية "مقامرة علي شرف الليدي ميتسي". عندما تصادفت معها، رأيت غلاف عبارة عن صورة نصف طولية لأحد الرجال بزي فرسان أوائل القرن الماضي، وصورة في أعلي يمين الغلاف لمجموعة من الخيول بجانب فرسانهم، فشعرت انها رواية ربما مترجمة أو هي تقليد للروايات الغربية، ومما عزز هذا الشعور هو اسم الرواية الشبيه بعناوين الروايات المترجمة التي كنت اقرأها قديما من مكتبة الأسرة. ولأن عندي نفور من الروايات المقلدة للأسلوب الغربي، ترددت أيام في قراءتها، وعندما عزمت فوجئت برواية جذبتني من أول صفحة بها، لازمت يدي من غرفة الي اخري، تركتها فقط للنوم، ولكنها لم تتركني وعايشتها في حلمي، لأستيقظ مرتشفة سطورها مع شايي الصباحي حتي انتهيت منها، ولم انته من التفكير بها.

تدور الرواية في مصر أوائل القرن العشرين، وما بعد ثورة 1919م. في فترة التشتت والضياع، من بعد الثورة والاحساس بالعزة والكرامة. هنا أربع شخصيات رئيسية، من بيئات مختلفة حضارية وثقافية، كل منهم له حياة ومشاكل وصراعات مختلفة، بعيدة كل البعد عن بعضهم. شخصيات من الصعب جدا جمعهم في مكان واحد والربط بينهم، لكن ربطهم شئ واحد "الأمل".

الصاغ "سليم حقي" المصري، ظابط السواري، العاشق لبلده ولزوجته الجميلة المريضة التي تعتبر صمام روحه، والذي كان عشقه واخلاصه لكليهما سبب في تشتته وانهياره. ضاع حقه في بلده، ووظيفته، وحتي دوره كرب أسره مسئول. سلمه قدره للوصول لأضعف حالات النفس، وعند وصول النفس البشرية لتلك الدرجة من الهشاشة، تكون اختياراتها عبثية ضرب من التخبط وعدم التقدير، كالغريق المتشبث بالقشة.

-(كان يشعر بإنحداره بتلك الهشاشة النفسية التي تأتي بعد فقدان الأمل، تأتي بالأحلام غير الممكنة، بالإحتمالات المستحيلة، فتتضخم وتلوح في الأفق، كسراب المسافر في الصحراء).

"الليدي ميتسي" البريطانية الغريبة الوحيدة في بلدها وفي مصر، لم يكن لها موطن ولا ملجأ ولا مؤنس لوحدتها سوي ابنها الوحيد. وعندما حكم عليها فراقه، ضاعت منها روحها وانكسرت، وتقوقعت في وحدها وألمها، وكان الأمل في تحقيق حلم ابنها هو الشئ الوحيد الذي يدفعها للحياة.

- (خائفة من أن أفقد الأمل بالوصول له، أحيانا تكون أمنياتنا غير المحققة، هي ذريعتنا للإستمرار).

"فوزان" الولد البدوي، مثال الصلاح والطهر الوحيد، القلب البرئ كالوردة المتفتحة في نبتة الصبار. المقهورالمجني عليه أمام جاني عتيد، فتحول الي عبد من العبيد الذين هرستهم الدنيا في رحاها. ولكن روحه المتمردة التي تصبو الي الحرية، الأبية المليئة بالأمل في التغيير، كانت هي كنزه المتفرد به عن باقي الشخصيات، لذلك كان هو الفائز الوحيد. 

"مرعي المصري" الصورة المعكوسة من "سليم حقي"، دلال الخيول، صاحب الشخصية الغنية دراميا والمتشابكة نفسيا. شخصية يهواها قراء دوستويفسكي وتولستوي. فهو الطيب الشرير، الشهم النصاب. شخصية ذكرتني ب"رشدي أباظة" في فيلم ملاك وشيطان. "مرعي" متفق مع باقي الشخصيات في أن ظروفه وقدره هيأت له أفعاله، واختلف عنهم بأنه من أختار طريقه بإرادته الحرة، استهواه طريق الفهلوة والمخاطرة السهلة والحياة كطفيلي علي جسد الآخرين. لكن ظل به جزء آدمي، نتيجة ماضي مؤلم، وذنب لم يتخلي عنه.

كل منهم كان لديه من الهشاشة النفسية التي تدفعه للسقوط، والاندفاع وراء سراب. كل منهم لديه ماضي يطارده، وندم يلاصقه، وأمل دفعهم للمقامرة في سباقات الخيل، الذي فيه الفوز بلا قيمة، فوز يساوي خسارة فادحة. حتي تأتيهم لحظة الحقيقة، وهي أن هناك أماني ممكن تخرب حياة إنسان، فلابد من التخلي عن الشعور بالندم بعدم النظر الي الماضي، والتخلي عن الأماني المستحيلة، ونسيان الماضي المؤلم والآمال الكاذبة. فالماضي لا يعود، والوقوف علي أعتابه هلاك. 

الرواية مكتوبة بسلاسة احترافية، مابين سرد بالفصحي البسيطة وحوار بالعامية. وهنا نستوقف عند الحوار الذي كان من أهم نقاط ابداع الرواية. الرواية بسبب حوارها تحولت الي فيلم سينمائي ينطق ويتحرك في مخيلة القارئ. هنا تجد أهل البدو يتحدثوا بلغتهم البدوية، والرجل السوداني يتحدث بلهجته وطريقته، والليدي تتحدث بالفصحي كأنها مترجمة، حتي "مرعي" و"سليم" رغم كونهما قاهريين، الا ان لكل منهما طريقة كلام تعبر عن بيئته وثقافته، وتوضح الفرق مابين تعليم حياة الشوارع وتعليم المدارس. 

كذلك السرد، ينقل صورة حية، تساعد القارئ في التفاعل الوجداني مع الرواية. مشهد كرحلة سفر "فوزان" مع "مرعي" و"سليم"، أو مشهد ارتباط "فوزان" ب "عايدة" والسهر معها ورعايتها. حتي مشهد الذروة في سباق الخيل، الذي يجعل الادرينالين يتصاعد كأبطال الرواية في تلك اللحظة الحاسمة. ومشهد ادراك كل شخصية لحقيقتها وما كسبت وما خسرت.

ولا يسعنا أن نغفل مجهود الكاتب الكبير في ربط أحداث الرواية بحقبة زمنية معينة، ونقلها الي القارئ بكل أمانة ودقة تاريخية. في الرواية تجد مصر في بدايات القرن العشرين، بشوارعها وحواريها وبيوتها وقصورها محلاتها وأحداثها السياسية والمعمارية والانتقالية، فيعيش القارئ في لحظات في زمن اخر مفصل أمام ناظريه. ولزيادة الدقة التاريخية، وضع الكاتب هوامش لتوضيح المعاني او المفاهيم لبعض الكلمات القديمة التي استخدمها ولم تعد متداولة، او لبعض الاحداث لفهم وضع الحقبة تفصيلا. رواية "مقامرة علي شرف الليدي ميتسي" كانت مقامرة لي كقارئ، فزت بها.

 مروة طلعت

8 / 3 / 2023

#عايمة_في_بحر_الكتب

#ريفيوهات_مروة_طلعت



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خماراويه

السلطانة شجر الدر 6

نشأة محمد علي باشا