الدكتور نجيب محفوظ باشا
"نجيب محفوظ" أسم الحظ اللي أتحفر في التاريخ أدبيا وطبيا. أديب نوبل ورائد طب أمراض النسا والولادة.
حي الجمالية مساء يوم 11 ديسمبر سنة 1911م، واقف "إبراهيم عبد العزيز الباشا" في صالة بيتهم وهو متوتر مستني أي حد يطمنه على حالة مراته اللي بتولد، ومساعدة الداية كل شوية تخرج وتدخل تجيب طلبات الداية، واللي زود قلقه أنه بعد ما كان سامع صرخات مراته، فجأة عم الصمت، لا سامع صوتها ولا صوت المولود. هنا بتخرج الداية تستنجد بيه وتقوله الولادة صعبة جدا وفيه خطر على حياة الأم والمولود، وأنها حاولت وأستخدمت كل طرقها وأدواتها وفشلت أنها تولدها، والأم دلوقتي في إغماء. "إبراهيم" ساعتها الدنيا لفت بيه، هيعمل ايه ويتصرف ازاي، لحد ما واحد من جيرانه اللي كانوا حاضرين قاله أن فيه دكتور ولادة سمع عنه أنه شاطر اوي في مستشفى القصر العيني، أسمه دكتور"نجيب محفوظ". مكدبش "إبراهيم" خبر، وطلع يجري على القصر العيني، وهو بيدعي ربنا أنه يلاقي الدكتور في الوقت ده هناك، ويشاء ربنا يحققله أمله ورجاؤه ويلاقي الدكتور في المستشفى. الدكتور أول ما يشوف "إبراهيم" وهو داخل عليه بلهفة، ميترددش لحظة أنه ياخد أدواته ويطلع معاه ع الجمالية. بيدخل دكتور "نجيب محفوظ" ومعاه الممرضة المساعدة بتاعته، و"إبراهيم" واقف على أعصابه مش بإيده حاجة غير الدعاء، لحد ما سمع فجأة صرخات أبنه الأولى في الحياة، وبعدها بشوية بيخرج الدكتور وبيطمنه على صحة الأم والمولود. فرحة "إبراهيم" مكنتش سايعاه وسجد لله شكر. تاني يوم الصبح راح "إبراهيم" مكتب الصحة عشان يقيد مولوده، ولما سأله كاتب الصحة عن أسم المولود قاله"إبراهيم": "نجيب محفوظ". أسم مركب للطفل تقدير وتعظيم لأسم الدكتور اللي أنقذ حياته وحياة أمه، وأرتبط الأسم بين الأتنين فأصبح الدكتور "نجيب محفوظ" من أعظم الأطباء ورائد تخصص النسا والولادة في مصر، وأصبح الطفل "نجيب محفوظ" من أعظم الأدباء والأديب الوحيد الحاصل على جائزة نوبل في مصر والعالم العربي.
في مدينة المنصورة الجميلة، على النيل مباشرة، عاش "ميخائيل محفوظ" تاجر من تجار القطن، حاله ميسور والحمد لله. الراجل ده اتجوز من ست طيبة، وكونوا أسرة كبيرة، سبع عيال بيجروا ويلعبوا ويهيصوا. وقبل عيد الميلاد بيومين، تحديدًا يوم 5 يناير سنة 1882م، كانت الأم بتصرخ من وجع الولادة، والجو برد، برد يقطع النفس. جابوا الطبيب والمُولدة، وفعلاً خرج الطفل… لكنه كان ضعيف هزيل ولا بيصرخ، ولا بيتنفس، ساكن تمامًا كأنه مولود ميت. سابوه على جنب، وراحوا يطمنوا على الأم، محدش افتكر الطفل، قالوا ربنا أسترد أمانته والعروض على الله. لكن ربنا كان شايله لحاجة كبيرة، لحكاية محدش كان يتوقعها. الطفل ده عاش عشان يصبح الدكتور العظيم "نجيب محفوظ باشا".
كبر "نجيب" شوية، ودخلوه مدرسة الأمريكان في المنصورة، وبعدين نقلوه للمدرسة الأميرية الابتدائية. هناك شافه الناظر "أحمد بك نجيب" ومدرس العربي الشيخ "محمد المهدي"، ولقوا فيه حاجة مختلفة، نبوغ كده من بدري، فبقوا مهتمين بيه وبيشجعوه، لحد ما خد الشهادة الابتدائية سنة 1895م. لكن الريح جت فجأة بما لا تشتهيه السفن. أبوه "ميخائيل محفوظ" مات، وبعديه بفترة قليلة جدا ماتت كمان أمه. ساعتها القدر خلى مصير الاخوات السبعة في ايد أعمام طماعة ميعرفوش ربنا، أكلوا مال اليتامى، ورموهم في الشارع. أضطر الأخ الكبير أنه يسيب دراسته، واشتغل بوظيفة صغيرة في وزارة الأشغال علشان يربي ويصرف على إخواته. ومن قلب القهر والذل والفقر، مد إيده لأصغر أخواته "نجيب"، وجابه يعيش معاه في شارع الفجالة في القاهرة.
دخل "نجيب" المدرسة التوفيقية الثانوية ـ عمار يا شبرا ـ وكان عنده موهبة مش طبيعية في اللغات، إنجليزي، فرنساوي، وعربي، فأساتذته حبوه وراعوه، خصوصا مدرس العربي الشيخ "حامد موسى". وقتها كان فيه إمكانية تنطيط السنين، يعني لو ذاكرت منهج السنة اللي بعدها وامتحنت ونجحت، تدخل الدراسة وأنت ناطط سنة زيادة. "نجيب" مستناش سنه الطبيعي، وراح يقدم على امتحان البكالوريا بدري سنتين ونجح، وطلع ترتيبه ال19 على مستوى مصر كلها. بس كانت فيه مفاجأة… ناظر المعارف قرر يعمل حفلة كبيرة ويعرض فيها أوراق أوائل الطلبة للناس. ولما كانوا بيضربوا الورق ويراجعوه لقوا إن فيه غلطة في جمع درجات "نجيب"، عادوا الجمع، عشان تظهر الحقيقة، "نجيب محفوظ" مكنش ال19، ده طلع الأول على القطر كله.
في سنة 1898م، دخل "نجيب" مدرسة الطب، وقتها كنا تحت الاحتلال البريطاني فطبيعي التعليم العالي في المدارس العليا بالإنجليزي، وكانوا دفعة صغيرة، 21 طالب بس. واللي كان ماسك المدرسة وقتها ناظرها، الدكتور "إبراهيم باشا حسن".
"نجيب" كان معاه في الدفعه دكاترة حيبقى ليهم شأن وأسم كبير بعدين وكلهم أخدوا الباشوية علي جهودهم وتميزهم لما كبروا، زي الدكتور "أحمد حلمي"، والدكتور "حافظ زكي"، والدكتور "محمد زكي". وكان فيه طالب أقدم منهم بسنة، اسمه الدكتور "علي إبراهيم". دراسة الطب وقتها كانت 4 سنين بس، كلها تعب وسهر وكتب كلها بالإنجليزي، ودي حاجة بالنسبة ل"نجيب" بسيطة لأنه كان متقن اللغات.
وفي آخر سنة دراسية، سنة 1902م، و"نجيب" كان بيذاكر ويستعد للامتحانات، يظهر وباء الكوليرا في قرية اسمها "موشا"، تابعة لمركز أسيوط. مصيبة وقعت على مصر، والكارثة إن طبيب البلد مات بالكوليرا أصلا. الناس مرعوبة، والدنيا مقلوبة. ساعتها لما الأمور استفحلت "نجيب"، اللي كان لسه متخرج بقاله شهر واحد بس، يقرر بمنتهى الشجاعة إنه يتطوع ويروح موشا يواجه الكوليرا في عقر دارها. مفكرش ولا خاف… كان حاسس إن ربنا بعته للناس دي مخصوص، وأن ده دوره الطبيعي وواجبه اللي لازم ينفذه.
الحمد لله عدت على خير، وبعدها بكام شهر، اتنقل "نجيب" لمستشفى السويس، يقضي فيها سنة امتيازه، وعلشان يفحص القادمين من الهند والحجاز، لأنهم في وقت الوباء كانوا بيخافوا من انتشار الأمراض المعدية، وطبيعي يبقى فيه حر صحي للوافدين. بعدها رجع تاني للقاهرة، للقصر العيني، وحل مكانه في السويس دكتور "سليمان عزمي"، اللي كان متخرج بعده بأربع سنين. وفي وقت شغل دكتور "نجيب" في مواجهة الكوليرا، حصلت له تجربة صعبة قوي، كانت نقطة التحول في حياته.
الدكتور "نجيب محفوظ" بدأ مسيرته بعد التخرج كطبيب تخدير، وده كان الطبيعي في بداية الطريق، لأن التخصصات وقتها مكنتش لسه مستقرة وواضحة زي دلوقتي، وكان الطبيب الشاطر ممكن يشتغل في أكتر من مجال لحد ما يلاقي ميوله الحقيقية أو يتخصص بعد خبرة.
في سنة 1902م وكيل المستشفى طلب منه يساعده في حالة ولادة متعسرة، دكتور "نجيب" وقتها كان دكتور تخدير، دوره إنه يدي المريضة حقنة البنج بس. لكن حصل اللي مكنش في الحسبان…رأس الطفل انفصل داخل الرحم، والجسم خرج لوحده في ايد الدكاترة والراس فضلت جوا الرحم....كارثة بكل معنى الكلمة…الدكتور "نجيب" جاتله صدمة عنيفة من المنظر، وفضل يومين مينامش من أثر اللي شافه. ساعتها قرر قرار مصيري، أنه هيكرس حياته لدراسة أمراض النساء والولادة، وينقذ الأمهات وأطفالهم اللي بيمروا بالمواقف اللي زي دي.
ولما خلص سنة الامتياز بتاعته في السويس – وقتها كانت العادة إن الامتياز يكون بعيد عن القصر العيني – الطبيب الأجنبي اللي كان بيشرف عليه، لما لقائه مهتم بالبحث ودراسة امراض النساء والولادة، أهداه شوية كتب نادرة عن تخصص بحثه. والكتب دي كانت المفاتيح اللي فتحتله باب تخصصه اللي بقى حياته كلها. رجع دكتور "نجيب" للقصر العيني، يشتغل كطبيب تخدير. بس هو ما اكتفاش بده، وقدم اقتراح أنهم يفتحوا عيادة خارجية للنساء والولادة الصبح، جوه المستشفى. إدارة المستشفى وافقوا على اقتراحه، وتولى دكتور "نجيب" مسؤوليتها. وبعد ما الفكرة نجحت، فتحوا قسم داخلي فيه 10 سراير مخصوص لولادة السيدات، وكان فيه طبيبتين أجنبيات، ودكتور "نجيب" اشتغل معاهم كمساعد، وهو لسه بيشتغل في نفس الوقت دكتور تخدير. وخلال سنتين، عمل القسم 320 عملية، دكتور "نجيب" لوحده أجرى 200 منهم لوحده، وكلهم نجحوا الحمد لله. في سنة 1911م، تزوج الدكتور "نجيب محفوظ" من السيدة "فايقة عزمي"، وربنا رزقه بأربع بنات وولد.
فضل الحال كده لحد ما قامت الحرب العالمية الأولى سنة 1914م، وساعتها الأطباء الأجانب راحوا يخدموا في الحرب، ودكتور "نجيب" هو اللي مسك القسم كله لوحده. وفي سنة 1919م، رجع من دبلن دكتور شاب اسمه "حافظ عفيفي" – وده اللي حيكون رئيس الديوان الملكي بعد كده – وكان متخصص زي دكتور "نجيب" في أمراض النساء والولادة، وبدأوا يشتغلوا مع بعض. دكتور "حافظ" أسس جمعية لرعاية الأطفال ومستشفى توليد في الدرب الأحمر، وكان فيها قسم توليد خارجي. وهنا، ظهرت "لادي كرومر" – زوجة المعتمد البريطاني – اللي ساهمت وأنشأت قسم توليد خارجي تاني، وأسندت الإشراف عليه للدكتور "نجيب محفوظ".
دكتور "نجيب" من خلال خبرته وتجاربه في العمليات والرعاية، أدرك أن النجاح الأمثل مش على الطبيب وبس، ده شريك نجاح العملية هي الممرضة، فلازم يكون عندها الوعي الكافي زيها زي الطبيب. ده غير أن فيه قرى ونجوع ومناطق نائية بيبقى صعب على أهلها يتواصلون مع أي وحدة صحية بسبب البعد. ساعتها فكر في تأسيس مدرسة للمولدات والممرضات، والمدرسة دي بقى يجريها ستات تتعلم من كل زاوية وركن في مصر، من البندر أو الريف والصعيد. وكتب بنفسه منهجين لتعليم فن التمريض، ودرّس في المدرسة بنفسه، وخرّج منها ممرضات ومولدات في منتهى الكفاءة.
ولأن روحه كانت دايما وطنية، اختاروه عضو في المجلس الأعلى للهلال الأحمر، وترأسه في فترة من الفترات، وكان عضو في مجلس إدارة جمعية رعاية الأطفال، وكمان في مستشفى شبرا الخيري. لكن يمكن أعظم إنجاز وطني عمله، كان دوره في إنشاء "المستشفى القبطي". شارك معاه في الحلم ده الدكتور "إبراهيم فهمي المنياوي باشا"، والدكتور "اسكندر جرجاوي"، والجمعية القبطية الخيرية اللي كان بيرأسها "جرجس أنطون باشا"، وقالوا عنها أن المستشفى دب للناس كلها، مستشفى قومي. ومن يوم ما اتفتحت سنة 1926م، وهي واحدة من أهم مستشفيات المؤسسة العلاجية في القاهرة حتى الآن.
كان الدكتور "نجيب محفوظ" طول عمره بيشتغل في صمت، مكنش بيحب الدوشة ولا بيستنى تقدير، كان بيشتغل بإخلاص، وبيخلي الشغل هو اللي يتكلم عنه.
وبرده بلده منسيتهوش، وقدرتهه واحتفت بيه.
في سنة 1929م، خد دكتور "نجيب محفوظ" درجة الأستاذية، وبعدها بعشر سنين، سنة 1939م اتعيّن مدير عام للقصر العيني. في سنة 1930م، قرر يعمل حاجة غير مسبوقة، قرر يسيب علمه وخبرته مش بس لطلابه، كمان للأجيال اللي جاية واللي بعدها. أسس متحف الدكتور "نجيب محفوظ" لعينات النساء والولادة. مكان ضخم، فيه أكتر من 3000 عينة طبية نادرة، كلها متجمعة من العمليات اللي عملها بنفسه على مدار سنين طويلة. مكانش بيجمعهم لمجرد الفرجة، ده كان بيجهز أطلس طبي، وكتب مرجعية، يقدر أي طالب أو دكتور يستفيد منها. والمتحف ده مفادش بس طلبة ودكاترة مصر، ده على مستوى العالم، والكتب دي اتكتبت وترجمت بكذا لغة، علشان علمه يوصل لأبعد مدى.
ولما جت سنة 1942م، ووصل لسن المعاش، الدولة رفضت تسيبه يتقاعد. طلعوا له قرار رسمي مخصوص بمد خدمته خمس سنين كمان، لأنه ببساطة كان لسه عنده كتير يقدمه. وفي سنة 1966م، طلع للنور كتابه الجميل "حياة طبيب". الكتاب ده مش مجرد سيرة، ده كان شهادة إن الإنسانية والعلم مكملين لبعض. والهيئة العامة للكتاب أعادت نشره في مشروع مكتبة الأسرة سنة 2013، علشان يفضل متاح لكل مصري يقرأه. والكتاب اترجم بالإنجليزي، واتنشر من خلال شركة "لفنجستون" للطباعة والنشر في إنجلترا. يعني علم دكتور "نجيب محفوظ" مش محلي بس، ده وصل للعالمية. واللي زوّد من جمال الكتاب، إن الدكتور "طه حسين" – عميد الأدب العربي – كتب له مقدمة مؤثرة، قال فيها: "هذا كتاب ممتع إلى أقصى غايات الإمتاع". ودي شهادة من أديب عن طبيب، اتقابل فيها الفكر مع الطب.
دكتور "نجيب محفوظ" أخد سلسلة من الجوائز والتقديرات، خد "نيشان النيل" سنة 1919م، واتمنح البكوية سنة 1930، واخد الباشوية سنة 1937م. والتقدير مش من الدولة بس، كمان من زملاؤه وتلامذته نفسهم اللي كتبوا عنه كتاب خاص سموه "الدكتور نجيب محفوظ كما نعرفه"، وكل صفحة فيه كانت شهادة حب وتقدير من ناس عاشوا معاه وشافوا بعينهم علمه وإنسانيته. وفي سنة 1960م، بعد الثورة، 3 هيئات علمية محترمة، الجمعية المصرية لتاريخ العلوم، والاتحاد العلمي المصري، وكلية طب قصر العيني، رشحوه لجائزة الدولة التقديرية في العلوم. ويومها وقف دكتور "نجيب محفوظ"، اللي عنده 78 سنة، وسط الحضور، وألقى كلمة الفائزين بنفسه قدام الرئيس "جمال عبد الناصر". كان يوم عظيم يليق براجل عظيم.
وفي 25 يوليو سنة 1974م، غابت شمس دكتور "نجيب محفوظ باشا" عن الدنيا، عن عمر 92 سنة.
في احتفالية يوم الطبيب المصري اللي نظمتها نقابة الأطباء سنة 1979م، الرئيس "محمد أنور السادات" قرر يكرم اسم اتنين من رموز الطب في مصر وهم المرحومين الدكتور "علي إبراهيم باشا"، والدكتور "نجيب محفوظ باشا"، وأهدى لأساميهم قلادة الجمهورية.
وسلام على جيل من الأطباء الرواد، اللي بنوا بإيديهم، وعالجوا بقلوبهم، وكانوا نور في عتمة الجهل والمرض.
مروة طلعت
تعليقات
إرسال تعليق