الليث بن سعد

بغداد عاصمة الخلافة العباسية ودرة العالم الاسلامي في  القرن التاني الهجري، داخل حجرة من حجرات قصر الخليفة العباسي "هارون الرشيد"، في يوم شكله كان عاصف جدا مابين "هارون الرشيد" وزوجته  "زبيدة بنت جعفر بن أبو جعفر المنصور"، كانوا كأي زوجين في لحظة خناق، ولحظات الخناق دي معروفة أن الشيطان فيها بيبقي واقف وبيشجع. وفي ذروة غضب "هارون الرشيد" متمالكش أعصابه وراح رامي علي "زبيدة" يمين الطلاق. 

قالها: "أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة". 

واللي ميعرفش مين "زبيدة بنت جعفر" فهي مش بس زوجة "هارون الرشيد" دي بنت عمه، بنت الخلفاء، وحب صباه، وأم ولي عهده "محمد الأمين". فلما فاق "هارون الرشيد" من فورة غضبه أكتشف الورطة اللي رماه فيها لسانه، ده كدة خلاص طلق "زبيدة". وطلاق "زبيدة" ممكن يعمل أنشقاق في البيت العباسي ويدخل فتن وصراعات كتيرة "هارون" في غني عنها في الوقت ده مع تزايد نفوذ الفرس والترك والبرامكة في البلاط.

ساعتها جمع كل فقهاء بغداد، وكل فقيه فيهم له ثقله، أحنا بنتكلم عن أزهي عصور الاسلام، اللي أتسمي بالعصر الذهبي، يعني العصر اللي كان فيه كل نواحي المجتمع الاسلامي في أعلي نقطة من القمة. وبالنسبة للفقهاء ده كان عصر الأئمة، علي سبيل المثال "الامام أبي حنيفة" و "الامام مالك"  وغيرهم كتير، كل الفقهاء والائمة الأجلاء اللي أحنا لحد الآن ماشيين علي تفاسيرهم وفتاويهم كانوا موجودين في الوقت ده.

كل فقهاء بغداد اجتمعوا مع "هارون الرشيد" اللي حكالهم بالظبط اللي حصل واللي قاله، وكلهم قالوله "زبيدة" طالق لا مفر، أصل هنعرف منين انك من أهل الجنة ولا لا. أه هم قالوا كده لخليفة المسلمين أمير المؤمنين "هارون الرشيد" اللي كان راعب قيصر الروم وجايبله تبول لا ارادي. أصل "هارون الرشيد" مكنش عنده ترزية دين، كان راجل بيحج سنة وبيجاهد في سبيل الله سنة، كان راجل بيخشي الله، والفقهاء كانوا رجال لا يخشون من قول كلمة الحق في سبيل رضا الله.

لكن من حب "هارون الرشيد" ل "زبيدة" ميأسش وكان لسه عنده أمل يلاقي فقيه يطلعه من المعضلة دي ويكون وجهة نظره برده سليمة تكون مثلا غابت عن باقي الفقهاء. راح بعت رسايل لكل الولاة علي كل البلاد الاسلامية يأمرهم بجمع  فقهاء كل بلد، ويبلغهم أن الخليفة أمير المؤمنين طالبهم في فتوي هامة.

وبالفعل أتجمع في قصر الخلافة في بغداد كل جهابزة الفقهاء من جميع البلاد  الاسلامية، وقعدوا كلهم في قاعة الحكم في صفين علي يمين وشمال الخليفة "هارون الرشيد"، وكانت "زبيدة" حاضرة المجلس في قاعة متصلة وبينها وبينهم ستارة. عرض "هارون الرشيد" عليهم المشكلة وحكالهم كل تفصيلة في المشكلة، وأهم حاجة جملة اليمين اللي قالها علي "زبيدة". بدأ "هارون الرشيد" ياخد رأي وفتوي كل فقيه بالترتيب، وطبعا كان فيه تحاور بين الفقهاء وطرح وجهات النظر وتفنيد الأراء، وكلهم أجمعوا زي ما قال فقهاء بغداد أن "زبيدة" طالق من "الرشيد" لا رجعة. 

حس "هارون" باليأس وأنه خلاص كدة خسر "زبيدة"، لكنه أخد باله أن فيه فقيه قاعد في أخر كرسي في القاعة، مشافوش قبل كده وميعرفوش، متكلمش خالص طول الجلسة ومشاركش باقي الفقهاء بأي كلمة، كان قاعد مستمع ومشاهد صامت فقط.

بصله "الرشيد" وقال: "بقي ذلك الشيخ في آخر المجلس لم يتكلم بشئ". لكن الشيخ الفقيه فضل ساكت. 

فقال خادم الخليفة للشيخ: "إن أمير المؤمنين يقول لك لماذا لا تتكلم كما تكلم أصحابك؟".

 رد الشيخ وقال: "قد سمع أمير المؤمنين قول الفقهاء وفيه مقنع". 

يعني أن الفقهاء كلهم أجمعوا علي فتوي خلاص وهي مقنعة، يعني رأيي مش هيفرق.

قال "هارون الرشيد": "لو أردنا ذلك سمعنا من فقهائنا ولم نشخصكم من بلدانكم، ولما أحضرت هذا المجلس". 

طلب الشيخ من أمير المؤمنين وقال: "يخلي أمير المؤمنين مجلسه إن أراد أن يسمع كلامي في ذلك". 

فأمر "هارون الرشيد" بأنصراف كل اللي موجودين في القاعة من فقهاء وخدام، ما عدا الغلام خادمه الشخصي. 

وبعد ما خرجوا قال "هارون" للشيخ: "تكلم". 

قال الشيخ: "يدنيني أمير المؤمنين". 

يعني يقرب منه أكتر عشان محدش يسمع. تعجب "الرشيد" وقال: "ليس بالحضرة إلا هذا الغلام ليس عليك منه عين". 

فقال الشيخ: "يا أمير المؤمنين، أتكلم علي الأمان، وعلي طرح التعمل والهيبة والطاعة لي من أمير المؤمنين في جميع ما أمر به".

 قال "هارون": "لك ذلك".

قال الشيخ ": "يدعو أمير المؤمنين بمصحف جامع".

أمر"هارون الرشيد" بأحضار المصحف اللي طلبه الشيخ، ولما وصل المصحف قال الشيخ: " يأخذه أمير المؤمنين فيتصفحه حتي يصل الي سورة الرحمن".

فتح "هارون الرشيد" المصحف زي ما أمره الشيخ علي سورة الرحمن، فقال الشيخ: "يقرأ أمير المؤمنين".

بدأ أمير المؤمنين يقرأ سورة الرحمن من أولها لحد ما وصل لقوله تعالي: ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ).

قال الشيخ: "قف يا أمير المؤمنين هنا، علي هذا وقع الشرط".

ظهر علي "هارون الرشيد" عدم الفهم، فسأله الشيخ وقال: "إنك يا أمير المؤمنين تخاف مقام ربك؟".

رد عليه "هارون" وقال: "إني أخاف مقام ربي".

قال الشيخ: "يا أمير المؤمنين، فهي جنتان وليست بجنة واحدة كما ذكر الله تعالي في كتابه".

هنا سمع الشيخ و"هارون الرشيد" تصفيق "زبيدة" من ورا الستارة من الفرح.

فرح "هارون الرشيد" جدا لأنه أخيرا لقي الحل والفتوي اللي أنقذت جوازه من "زبيدة" وجمعتهم تاني لبعض، فسأله "هارون" من أي البلاد هو وأسمه.

قال الشيخ: "الليث بن سعد المصري".....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

الإمام الفقيه والمحدث "الليث بن سعد" إمام أهل السنة المصري اللي قال عنه الإمام الشافعي:  "الليث أفقه من مالك إلا أن قومه ضيعوه، وكان أتبع للأثر من مالك". يعني لو كان تلاميذه دونوا علمه وفتاويه وتفاسيره ونشروه من بعده كان هيبقي عندنا خمس مذاهب مش أربعةوقال عنه الإمام "يحيي بن عبد الله بن بكير": "الليث أفقه من مالك، ولكن كانت الحظوة لمالك".

الإمام "الليث بن سعد" كان إمام لأهل مصر كلها، وكان محدث ثقة متخصص في علم الحديث، كثير العلم صحيح الحديث. قال عنه "الامام الذهبي" في كتابه سير أعلام النبلاء: "وكان رحمه الله طلابة للعلم، ولا يري التدليس، وقد سمع من الزهري". وقال عنه "ابن كثير" في كتابه البداية والنهاية: "الإمام الليث بن سعد كان إماما للديار المصرية بلا مدافعة، وكان رحمه الله جيد الذهن".

عن الإمام "الليث بن سعد المصري" سنتحدث ودي سلسلتنا الجديدة.

(يتبع)

مروة طلعت

3 / 4 / 2024

#عايمة_في_بحر_الكتب

#الحكاواتية

#بتاعة_حواديت_تاريخ

المصادر:-

سير أعلام النبلاء الطبقة السابعة - الامام الذهبي.

أئمة الفقة التسعة - عبد الرحمن الشرقاوي.

الرحمة الغيثية في الترجمة الليثية - ابن حجر العسقلاني.

الليث بن سعد فقيه مصر - دكتور السيد أحمد خليل.

الليث بن سعد الفقيه والمحدث والانسان - دكتور أحمد علي سليمان.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خماراويه

السلطانة شجر الدر 6

نشأة محمد علي باشا