الصَّدُّ الأَخِيرُ سيف الدين قطز 8
(8) ليلة صعود المماليك
ضفة بحر أشمون في المنصورة، ساحة معسكر جيش المسلمين، خيام الجنود منصوبة في صفوف متراصّة، نار مشتعلة في مواقد بسيطة، وجنود لابسين دروعهم نايمين على ضهرهم جنب سيوفهم.
بص قدّامك شوف السرادق السلطاني، صف كامل من الخيام الكبيرة الموصولة ببعضها زي ما يكون قصر متنقّل، أقمشة سميكة لونها أحمر غامق، ومطرّزة بخيوط دهب، ومعلّقة من فوق بخشب مصقول، حواليها حُرّاس أشداء واقفين، ما بيرمشوش.
أول خيمة هي خيمة الحرس الداخلي، تدخل بعدها خيمة صغيرة فيها الكتّاب والرسل، وبعدين خيمة تانية للجواري والخدم، لحد ما توصل لأكبرهم وأعرضهم خيمة السلطان. ستارة سميكة تقيلة بتلمع بخيط دهب، قافلة باب خيمة السلطان، تعالي نزيحها وندخل جوا.
الإضاءة قليلة، مصابيح زيت بتدي نور أصفر دافي على جوانب الخيمة اللي كلها سجاد فارسي مفروش من الأرض للسقف، ريحة بخور خفيف، وصوت نفس متقطّع، صوت آخر أنفاس السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب.
الملك الصالح - ذو الهيبة أسم على مسمى - كان نايم على سرير خشبي مرفوع، فوقه ناموسية حرير، متغطي ببطانية شامية فاخرة، وشه أصفر، وعينه مقفولة، وبيتنفّس بصعوبة. زوجته العاشقة شجر الدر قاعدة جنبه، لابسة جلباب حرير غامق، وحجاب راس، شكلها متماسك من برّه يادوب دموع حبيسة مقلتيها، بس من جوّاها منهارة وتايهة وخايفة.
مدت شجر الدر إيدها، عدّلت المخدة تحت راسه، ومسحت بمنديلها عرقه من على جبينه. يدخل الأمير فخر الدين قائد الجيش بسرعة، بعد ما أخد الأذن، والقلق على وشه، وقال بصوت واطي: يا خوند، الملك حالته ايه النهاردة.
قالت شجر الدر بصوت باين فيه رعشة القلق والخوف: أسوأ من امبارح، بس ماينفعش حد يعرف، لو الجند عرفوا دلوقتي إن الجيش كله هيتهز.
أستأذن الطبيب في الدخول، يحط إيده على النبض، وبفحص الملك المريض، وبعدها ليرفع رأسه ويبث لشجر الدر ويقول: للأسف السلطان بيحتضر، وإنا لله وانا اليه راجعون.
غصب عنها دموعها أنهارت، وأخدت ايده في حضنها، وفجأة الملك الصالح يفتح عينه بالعافية ويبص لها، كأنه شايف الدنيا من خلالها للمرة الأخيرة، وقالها بصوت مبحوح: ما تسيبيش البلد للصليبيين…
إيدها كانت بترتعش وهي ماسكة إيده. ، وقالت: مش هسيبها… ولا هسيب أمانتك يا مولاي.
وبآخر نفس قال الملك: أبعتي ل توران شاه.
وفجأة سكت الكلام وسكن الجسد للأبد
الصمت بقى خامسهم جوا الخيمة، وكأنه حضر كحارس للسر معاهم، شجر الدر زمن شفايفها وكتمت صرختها جوا صدرها، وبعد وقت طويل في صمت تقيل، مسحت شجر الدر دموعها وقامت واقفة شادة ضهرها، وقالت بصوت ثابت مليان قوة وكأنها أتحولت لشخصية تانية غير اللي كانت موجودة من دقايق: السلطان ما ماتش، السلطان مرهق من حروبه وسفره، وبيريّح في خيمته.
وبصت لفخر الدين وقالت: الطبيب هيفضل جوا الخيمة مش هيخرج، عشان بيعتني بالسلطان، وأنت يافخر الدين أختار واحد بس من أخلص رجالك، يحفظ السر، وتكون مهمتكم نقل السلطان عبر النيل لجزيرة الروضة، وتدفنه فيها، وترجع قبل ما الجنود تصحى وتحس بغيابك.
فخر الدين هزّ راسه، وخرج ينفّذ، شجر الدر خرجت من صندوق الملك ورقه وروايته وقعدت كتبت رسالة توران شاه، وكأنها مكتوبة بخط ايد السلطان، اللي بتعرف تقلده بمهارة، وطالبته بسرعة الحضور الفوري، ومضت بأسم السلطان توقيع طبق الأصل، وختمت الرسالة بالرخام السلطاني.
النور الأصفر للفتيلة ينعكس على وشها… وشها اللي نصه سلطانة في أصعب من التاريخ… ونصه ست مكسورة مقهورة على وفاة زوجها حبيب عمرها.
لما الصليبيين في حملتهم السابعة، زحفوا على مصر بنيّة إنهم يدخلوا القاهرة، الدنيا اتغير حالها فجأة جوّه معسكر المسلمين. في اللحظة دي بالذات، "الملك الصالح نجم الدين أيوب" مات عن عُمر 44 سنة. سلطان مصر والشام، قاهر الصليبيين، والمحرر التاني لبيت المقدس، ومولى المماليك وأستاذهم وأبوهم الروحي. كان موته امتحان صعب قوي على البلد والجيش والناس اللي مستنيين قرار، وبالذات على "شجر الدر".
"شجر الدر" زوجته، كانت أذكى من إنها تسيب الدنيا تبوظ. عرفت إن لو خبر موت السلطان اتذاع، الجند حيتشتّتوا والروح المعنوية حتنزل، والعدو قدّام الباب. فخبّيت الخبر بإحكام، وما عرفتش الحقيقة غير اتنين، الأولاني القائد العام للجيش "الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ" والتاني المشرف العام للجيش الطواشي "جمال الدين محسن". وقدّمت لأمراء المماليك ورقة مختومة من السلطان، إنه مدي السلطنة لابنه توران شاه، مع إنه أصلاً ماكانش في مصر .
في الوقت ده، الصليبيين ماكانوش ساكتين. نزلوا من دمياط، واتحركوا اتجاة الجنوب لحد ما وصلوا فارسكور يوم 12 ديسمبر 1249م. ومن بعدها قفزوا لشارمسّاح والبرامون، لحد ما وصلوا لبحر أشمون، وكان عبارة عن سدّ بين الجيشين _ بسبب فيضان النيل _ المسلمين شمال البحر، والصليبيين جنوبه.
الصليبيين استغلوا الشهر ونص بتوع الفيضان في أنهم يركّبوا دفاعاتهم من خنادق ومتاريس وأقاموا معسكر ضخم. بعد كده قرروا يبنوا جسر يعدّوا عليه للضفة التانية، بس المسلمين ما سابوهمش في حالهم، القذائف كانت زي المطر على الصليبيين، وفشلت محاولة بنى الجسر مرة ورا التانية.
لغاية ما واحد من العربان، طمع، ورشّوه بفلوس، وورّاهم مخاضة _ مكان ضحل في النهر مش عميق _ يقدروا يعبروا منها. كانت خطة الملك لويس التاسع أن جزء كبير من الجيش يعدّي معاه ومع أخواته للضفة التانية، واللي يفضل يحرس المعسكر، وبعد عبور الجيش يكملوا بناء الجسر، عشان هيكونوا لهوا جيش المسلمين عنهم. ولو قدروا يكسبوا المسلمين في المنصورة، يبقى الطريق مفتوح على القاهرة.
فجر يوم 8 فبراير 1250، بدأ العبور. العملية كانت بطيئة ومتعبة بسبب عمق المخاضة، لكنهم عدّوا. وكان أول واحد دخل أرض المسلمين هو الكونت "روبرت أرتو" قائد الجيش الصليبي، اللي هجم بشراسة وحقق نصر سريع على قوات المسلمين اللي قدّامه. الخبر وصل للأمير "فخر الدين" قائد جيش المسلمين، فركب فرسه وجمع الجنود، ونزل المعركة بنفسه. التحمت الصفوف، وكانت معركة عنيفة، وفي وسطها وقع الأمير "فخر الدين" شهيد.
"روبرت أرتو" اللي كان منتشي بنشوة النصر، ما سمعش كلام حد. لا ملكه "لويس التاسع"، ولا القادة، لما قالوله يتربث وميستعجلش في التحرك. افتكر إن النصر بابه مفتوح له لوحده، وقرر يدخل المعركة الجاية من غير ما يستنى باقي الجيش، وده كان في مصلحة جيش المسلمين.
المحطة التانية كانت المنصورة، شوارع ضيقة، بيوت قريبة من بعضها، ودروب لو لفّيت فيها بالغلط تلاقي نفسك في نص كمين.
وده اللي استغله قائد الجيش وقتها "بيبرس البندقداري" - أتحط مؤقتا بعد استشهاد فخر الدين لحد ما أقطاي يروح يسلم الرسالة لتوران شاه ويرجع، وده طبعا لأنه كان أكفأ واحد في الجيش كله من بعد أقطاي - كان ماسك المدينة كأنها رقعة شطرنج، وحاطط رجّالته في أماكن محدش يتوقّعها، مستخبّين جوه البيوت، فوق السطوح، وورا المتاريس، وسايبين الفرنجة يدخلوا المدينة من غير ما يحسّوا إنهم داخلين فخ معمول بإتقان.
أول ما الجيش الصليبي دخل عمق المنصورة، وافتكر إن أهلها سألوها وهربوا زي ما عمل أهل دمياط، بدأوا ياخدوا راحتهم ويستريحوا، بمنتهى الأمان، ونشوة النصر عمياهم. ساعتها "بيبرس" زأر بصيحة الأشارة.
وفجأة اتفتحت الشوارع عليهم من كل ناحية. المماليك هجّموا عليهم هجوم منظم، وكل ضربة بحساب، وكل حركة بميزان. الفرنجة حرفيًا اتخنقوا، اللي لقى نفسه محاصر في حارة، واللي اتداس تحت الخيل، واللي جرى للنيل يرمي نفسه فيه وهو فاكر إنه بينجو، فغرق هناك. واللي كان ليهرب كان أهالي المنصورة المدنيين يلحقوه بالشؤون والنبابيت. كانت معركة عظيمة أشترك فيها المماليك والعامة المصريين، إيد بإيد وقضوا سوا على الجيش الصليبي. وفي ساعات قليلة،المنصورة بقت مقبرة كاملة للصليبيين.
"لويس التاسع" لما وصله الخبر، وشاف اللي حصل لقواته، اتصدم صدمة كبيرة، لكنه تمالك نفسه بالعافية، وبدأ يرص صفوفه من جديد. عمل خط دفاعي قدام المنصورة، وبنى جسر من خشب الصنوبر على البحر الصغير، علشان لو احتاج ينسحب أو يعدّي بقية جيشه، ورصّ الرماة على الضفة التانية يحرسوا جيشه. لكن المماليك، مادولوش فرصة. هجموا على معسكره، و"لويس" بنفسه نزل يقاتل، وقدر يرجّع المسلمين ناحية المدينة، بس رغم كده، وضع الصليبيين كان بينهار كل يوم.
المؤن قربت تخلص، الفرسان في تناقص بعد اللي حصل في المنصورة، والمرض ظهر على جنود المعسكر زي النار في الهشيم. وقعد "لويس" معسكر قدّام المنصورة حوالي تمان أسابيع، مستني أي فرصة مساعدة تحصل جوّا مصر، أي انقلاب، تمرد، أي حاجة تشتت جيش المسلمين.
لكن نقله طلع على شونة، أصله ميعرفش أن مصر البلد الوحيدة لما يتواجه خطر، بترمي أي صراعات ورا ضهرها، وبتفضل متماسكة ومترابطة. وكمان المماليك واقفينله، والقدر كان بيكتب نهاية حملته خطوة بخطوة.
أخيرا وصل، ودخل "توران شاه" المنصورة يوم ١٧ من ذي القعدة سنة ٦٤٧ هـ / ٢١ فبراير ١٢٥٠م. الناس كانت لسه تحت صدمة موت "الصالح أيوب" اللي كانت شجر الدر مخبية خبره، لكن أول ما توران شاه ظهر، الناس خرجت تستقبّله، والروح رجعت للبلد. "شجر الدر" سلّمته الحكم من غير تردد، والراجل ما ضيّعش وقت، دخل على طول في الشغل.
توران شاه قعد مع كبار القادة، وفرش الخرايط، وبدأ يرسم خطة ما تخرّش الميّة. أمر فورًا ببناء أسطول خفيف وسريع من مراكب صغيرة، واتسحبت المراكب دي في فروع النيل لحد ما نزلت في القنوات اللي الصليبيين بيعتمدوا عليها في نقل المؤن. وفجأة الصليبيين صحّوا لقوا كل المراكب بتاعتهم اللي جاية من دمياط بتتقنّص وتختفي وحدة ورا التانية، والمدد اللي كانوا مستنيينه انقطع. وصل عدد السفن اللي خسروها لحوالي ٨٥ مركب. ساعتها الجوع زاد، والمرض انتشر وبقوا محاصَرين لا عارفين يتقدموا ولا عارفين يرجعوا.
"لويس التاسع"، رغم كبرياءه، فهم الحقيقة المرة أن حملته خلاص بتنتهي، وحلم الوصول القاهرة أتبخر وأصبح من المستحيلات. ابتدى يفكر في إنقاذ اللي باقي من جيشه والرجوع لدمياط. بس قبل الانسحاب حاول يعمل حركة أخيرة، بعت لتوران شاه يفاوضه، دمياط مقابل بيت المقدس. "توران شاه" ضحك بشدة من العرض، على أي أساس الباحة وأنت خلاص ملك مهزوم، وطبعا رفض العرض من غير ما يفكّر.
في صباح من صباحات محرم ٦٤٨هـ – إبريل ١٢٥٠م،
بدأ المهندسون الصليبيون يفككوا الجسر اللي كانوا عاملينه على بحر أشمون. بس المماليك ما ادّوهمش فرصة. عبروا الجسر وراهم بسرعة، وبدأت أقوى مطاردة في تاريخ الحروب الصليبية. وقتها الملك "لويس" صاحبه المرض ومش قادر يقف، لكن فضل يقود رجاله بالعافية. المطاردة فضلت لحد ما وصلوا شرمساح، نص الطريق بين المنصورة ودمياط. وهناك اتلموا عليهم المماليك من كل ناحية. وفي فارسكور المماليك هجموا عليهم هجوم شامل، ساعتها الصليبيين اتلخبطوا وحصلت هرجلة في صفوفهم، والملك فرطت الأمور من ايده، وما قدرش يكمل قتال. اتحاصر الجيش الصليبي كله، وانكسرت شوكتهم في لحظة.
القتلى كانوا بالآلاف، ١٠ آلاف في أقل التقديرات، والأسرى بالألوف، حتى الصنايعية والخدم اتأسروا. أما الغنائم، فحدث ولا حرج، خيول وبغال ودهب وعتاد. "لويس التاسع" نفسه اتقبض عليه، واتشد بالسلاسل لحد دار القاضي "فخر الدين بن لقمان" في المنصورة، والطواشي "صبيح" اتولى حراسته، واتخصص له خدم يخدموه. ومن هنا بدأت صفحة جديدة في تاريخ مصر.
نسأل بقى السؤال المهم: قطز كان فين وقت الحملة؟ في سنة 1249–1250، وقت ما طلع لويس التاسع على دمياط ومنها للمنصورة، "قطز" كان مملوك مقرّب من السلطان "نجم الدين أيوب". وكان في الجيش الأيوبي الموجود في المنصورة ضمن مماليك القصر. شارك في الدفاع عن المنصورة. وشاف الهجوم المفاجئ على معسكر الصليبيين. وشارك في أُسر الملك لويس التاسع. وده لأنه كان جزء من المماليك اللي اتربّوا على القتال في الصفوف الأولىمن الجيش.
طب ليه مفيش تفاصيل باسمه؟. لأن قطز في الوقت ده لسه مش قائد كبير، ومكانش له منصب سياسي، أسمه كان بيظهر ضمن "المماليك الخاصكية" مش كأمير مستقل. وده طبيعي… مفيش مماليك بنلاقي لهم بطولات منفردة قبل ما يبقوا أمراء.
(يتبع)
مروة طلعت
تعليقات
إرسال تعليق