الصَّدُّ الأَخِيرُ سيف الدين قطز 7

(7) بين الحقيقة والحدوتة في سيرة قطز

بعد ما خلّص "سيف الدين قطز" و"ركن الدين بيبرس" و"بدر الدين بكتوت" دراستهم الطويلة في الطباق، واتمرّسوا على ركوب الخيل والرمي والسيف، واتربّوا على الطاعة والانضباط—اللي حكّيناه بالتفصيل في الجزء السادس—جت اللحظة اللي يتحولوا فيها من صُبيان مماليك لجنود في جيش أستاذهم "الملك الصالح نجم الدين أيوب". كانوا تقريبًا في سن السبعتاشر، ولسه شايفين الدنيا صغيرة… والحياة لسه قدّامهم طويلة ومليانة أسرار.

ولأنها أول خطوة في حياتهم الحقيقة، حبّوا يحتفلوا بطريقتهم. أول خروج ليهم من قلعة الروضة من يوم ما دخلوها أطفال جايين من سوق العبيد… لابسين كسوتهم الجديدة، راكبين خيولهم، تلاتة أصحاب جمعتهم طباق واحد وخشداشية واحدة، وما بينهم ألف خبزة ولقمة وعلقة وشقاوة.

نزلوا شوارع القاهرة… أول مرة يشوفوها بعيون الحرّية. الأسواق، الروائح، الصنايعية، أصوات الدلاّلين، خرير الميّة من السقا، ضحكات العيال… كل ده كان جديد عليهم. وفي وسط الضحك والهزار، لمحوا منجّم قاعد على جنب الطريق، وعنده شوية ودع وتخت رمل. وقتها المنجّمين كانوا جزء من المشهد… زي بياع العرقسوس ولا المدّاح اللي واقف عند باب السوق.

قطز بصلّهم وقال: "إيه رأيكم نِهرّج شوية؟". ونزل من على حصانه واقف قدّام المنجّم مبتسم: "شوف لي نجمي". المنجّم قلب الودع، وخطّط الرمل، وحسب أرقام محدش منهم فاهمها، وبعدين رفع راسه وبصّ لقطز وقال بمنتهى الثبات: "انت هتملك البلاد… وهتهزم التتار." قطز ضحك ضحكة طويلة… وبيبرس وبكتوت وراه، ومحدش فيهم واخد كلمة واحدة بجد.

تقدّم بيبرس وقال: "شوف نَجمي".  المنجّم ضرب الرمل تاني، وبنفس الثبات قال: "وانت… هتملك الديار المصرية… وزيادة عليها." زاد ضحكهم… والاتنين بيزقّوا بعض هزار.

فضل بكتوت…قرب من الراجل وهو بيقول: "شوف نجمي". المنجّم حسب تالت مرة، وبعدين قال:"انت هيكون لك إمرة مية فارس." وسكت لحظة… وبعدين شاور على بيبرس وقال: "وده اللي هيدهالك"

ساعتها الضحك انقلب لقهقهة، تلات صبيان مماليك، لسه متخرجين من كام يوم، كل واحد لابس سلاح على قدّه وتقول لهم ستحكموا مصر؟! كلام بالنسبة لهم شبه المستحيل، هتروح فين يا صعلوك بين الملوك. ركبوا خيولهم ومشوا في طريقهم، وكل شوية يبصّوا لبعض ويغمزوا ويقلّدوا المنجّم، وصوت ضحكهم مالي السوق.

بكتوت حكى الحكاية دي  بنفسه… بعد ما بقى فعلًا أمير مية فارس في عهد "الظاهر بيبرس"، وبعد ما مات "قطز" اللي فعلا هزم التتار.ِِ

الحقيقة إن المصادر بتحكي أكتر من حكاية المماليك ورؤى نسبوها لقطز… كلها بتبشر إنه هيبقى سلطان مصر وهازم التتار. لكن… هل الحكايات دي حصلت فعلًا؟ الله أعلم. ليه الشك؟. هنحلل مع بعض الحكايات والروايات في اخر المقالة ونعرف ونحاول نفهم مع بعض.

وطالما جبنا سيرة الرؤى… خلينا نروح للحكاية التانية اللي حكاها "حسام الدين بركة خان"—وكان هو وقطز زي الإخوات—عاشوا طفولتهم سوا، واتعلموا سوا، ونزلوا ضرب ونوم جوع وشقاوة سوا…وكانوا وقتها تحت أمرة "الهيجاوي" من أمراء مصر.

في يوم حسام الدين كان ماسك راس قطز وبيفلّيها، وكانوا متفقين: كل قملة يطلعها  قطز يديله فلس، ولو معهوش، يبقى حسام الدين يضربه ألم هزار. وسط الهزار ده قال حسام الدين: "نفسي ربنا يرزقني أمرة خمسين فارس." قطز رد عليه ببَساطة: "طيّب قلبك… أنا أدهالك." حسام الدين ضربه وهو بيضحك وقال: "انت؟! هتدّيني إمرة خمسين؟!" لكن قطز بص له بجدية وقال: "أنا هاقود الديار المصرية… وأكسر التتار… وأدّيك اللي طلبته." ضحك حسام الدين وقال له: "إنت مجنون؟! انت يا مقمل هتملك مصر؟!" قطز قال بثبات: "نعم. رأيت النبي حقّ،  وقال لي: ستملك مصر وتكسر التتار." هنا سكت حسام الدين، لأنه كان عارف إن قطز صادق وما بيعرفش يكدب.

وفيه حكاية تالتة رواها ابن الجزري، سمعها عن أبوه اللي سمعها عن اتنين من المماليك… بيقولوا إنهم كانوا قاعدين عند قطز بعد ما المعز أيبك بقى سلطان، وقطز بقى نائب السلطان. في اليوم ده قطز قال لهم يقعدوا… ونادى المنجّم. المنجّم فرش الرمل وضرب الودع.

قطز قال له: "مين هيملك مصر بعد أستاذي المعز؟ ومين هيكسر التتار؟" الراجل قعد يحسب فترة طويلة… وبعدين قال: "تطلع معايا خمس حروف… بلا نقط." قطز ضحك وقال: "وليه مش محمود بن ممدود؟" المنجّم رفع عينه وقال: "يا خوند… مفيش غير الاسم ده اللي يركب." - "خوند" كلمة كانت بتتقال في العصر المملوكي بمعنى يا سيدي أو يا مولاي، هو لقب احترام، زي لما يقولوا: "يا خوند فلان"… يعني يا سيدنا أو يا كبيرنا - قطز ردّ: "أنا هو… محمود بن ممدود… وأنا اللي هكسر التتار… وآخد بتار خالي خوارزم شاه." المماليك بصّوا لبعض باستغراب وقالوا له بمجاملة: "إن شاء الله يا خوند." قطز قال: "اكتموا الكلام." وقام مدّي للمنجّم ٣٠٠ درهم، ومشاه.

تيجي بقى للسؤال المهم، هل الحكايات دي حصلت فعلًا؟ أول حاجة كل الحكايات اللي بتبشّر بسلطنة قطز أو بكسره للتتار ظهرت بعد موته، ومفيش ولا مصدر واحد من المعاصرين لقطز قال إن قطز بنفسه حكى أي حاجة منها. كلها: “فلان قال”، “سمعتها عن فلان”، “حكاها واحد من المماليك بعد سنين”، وده في علم التاريخ اسمه رواية متأخرة، ودي دايمًا بتكون محلّ شك.

ثاني حاجة الراوي، أغلب اللي نقلوا الحكايات دول كانوا من خشداشية قطز، ودول تحديدًا اتربّوا معاه، شافوه بيجبر، عاشوا لحظة موته المفاجئ، وشافوا البلد كلها بتتهزّ من غدّره فسيكولوجيًا طبيعي جدًا إن الجماعة دي يعملوا من ذكراه أسطورة لأن ده نوع من المواساة وتكريم البطل اللي فقدوه.

ثالث حاجة طبيعة العصر نفسه، القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي عصر منجّمين ورؤى وكرامات وحكايات شعبية، أبطال بيتحوّلوا لرموز خارقة في كلام الناس، وتاريخ بيختلط دايمًا بالوجدان الشعبي، فعادي جدًا إن شخصية زي قطز—اللي هزم أكبر جيش في العالم وقتها—تتلف حواليه نبوءات ورؤى ومنامات، مش شرط إنها حصلت، لكن الناس كانت محتاجة تصدّق إنها حصلت.

 رابع حاجة غياب الرواية الرسمية لو حاجة زي "النبي بشر قطز" كانت حصلت فعلًا، أو "منجّم تنبّأ له بكسر التتار"، كان بيبرس ذكرها، لأنه كان أكتر واحد مهتم يثبت شرعية اللي قبله،حتى المؤرخين في البلاط زي ابن أيبك الدواداري سجّلها برده عن طريق حد سمع عن حد تاني تاني سمع عن حد تالت مش مباشرة يعني، أو حتى الظاهر بيبرس نفسه كان استخدمها في دعايته السياسية عشان يثبت شرعية حكم المماليك بداية من قطز، ويوفر على نفسه البحث عن خليفة عباسي لإثبات الشرعية ـ راجع كتابي أسد المماليك - فرؤية الرسول لقطز كانت كفاية.  لكن مفيش ولا كلمة اتقالت فعلية على أرض الواقع.

خامس حاجة المحتوى نفسه مش منطقي 100%، يعني حكاية المنجّم في الشارع منجّم عادي يقعد على الأرض يقول لتلات مماليك صبيان إنهم هيحكموا مصر؟، دي بالمقاييس التاريخية حدوتة شعبية أكتر منها حدث واقعي. عندك حكاية خمس حروف بلا نقط، ده كلام “ضرْب الرمل” بتاع المنجّمين، وألف ليلة وليلة، مش أسلوب مؤرخين بيدوّنوا أحداث. والرؤى أحيانًا ممكن تكون حقيقية… لكن المؤرخ المحترم ما يعتبرهاش “دليل” لو ملهاش سند.

 الخلاصة ان اللي حصل فعلا هو أن قطز كان شاب ذكي، قوي، عنده ثقة بنفسه، وعارف أصله كويس إنه حفيد خوارزم شاه. وكان عنده طموح حقيقي ووعي سياسي، وده ظهر في تصرفاته كلها قبل وبعد توليه الحكم. واللي مش أكيد إنه حصل،أي حكاية فيها منجّم، نبوءة، رؤية، أو كلام غيبي. نسبة حصول الحكايات دي تاريخيًا ضعيفة جدًا. ممكن نعتبرها من التراث المملوكي والحكايات الشعبية مش أكتر. 

(يتبع)

مروة طلعت

2/ 12 / 2025 
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
#الصَّدُّ_الأَخِيرُ
#سيف_الدين_قطز
#عين_جالوت
المصادر:
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ج6 و ج7 - ابن تغري بردي.
قيام دولة المماليك الأولى في مصر والشام - أبو الفدا.
السلوك لمعرفة دول الملوك - المقريزي ج1.
مفرج الكروب في أخبار بني أيوب ج2 - ابن واصل.
مسالك الأبصار في ممالك الأمصار - ممالك مصر والشام - ابن واصل.
سير أعلام النبلاء الطبقة 34 - الامام الذهبي.
حسن المحاضرة في أخبار ملوك مصر والقاهرة - القلقشندي.
الدرة الزكية في أخبار الدولة التركية - ابن أيبك الداواداري.
السلطان المظفر سيف الدين قطز بطل معركة عين جالوت - د/ قاسم عبده قاسم.
السلطان سيف الدين قطز ومعركة عين جالوت - علي محمد الصلابي.
الأيوبيون والمماليك - د/ قاسم عبده قاسم.
مصر في عهد بناة القاهرة - إبراهيم شعوط.
عصر سلاطين المماليك - أ.د/ عطية القوصي.
المغول وعالم الإسلام - أ.د/ صبري عبد اللطيف سليم.
الحلقة الأولى
https://www.facebook.com/share/p/1JBArrBkeQ/
الحلقة الثانية
https://www.facebook.com/share/p/1K5LgdgDeT/
الحلقة الثالثة
https://www.facebook.com/share/p/17RLfrVUPe/
الحلقة الرابعة
https://www.facebook.com/share/p/14NhEcbjNX4/
الحلقة الخامسة 
https://www.facebook.com/share/p/17cfVTo4hB/
الحلقة السادسة
https://www.facebook.com/share/p/1YzExTrJaL/




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الليث بن سعد 5

الدكتور نجيب محفوظ باشا

لاشين، لوسيفر شيرين هنائي