الصَّدُّ الأَخِيرُ سيف الدين قطز 13

(13) المماليك والفرنج: حروب الغيرة والتحالف

في الوقت اللي كان فيه العالم الإسلامي مشغول بصراعاته الداخلية، كان لويس التاسع واقف بعيد شوية بيراقب، ويحسبها صح. الصدام بين المماليك والأيوبيين كان فرصة دهبية بالنسبة له، واستغلها أحسن استغلال. ضغط على السلطان المعز أيبك، والضغط ده جاب نتيجة؛ خرج الأسرى الصليبيين من السجون، وبعدين اتفتح باب التحالف.

سنة 650 هـ / 1252م اتعملت معاهدة بين أيبك ولويس، ظاهرها سياسي وباطنها مقامرة. أيبك وافق يفرج عن باقي الأسرى، ويتنازل عن بقية فدية لويس، ووعده كمان بإعادة مملكة بيت المقدس كلها للصليبيين. الاتفاق كان واضح في هدفه، ضرب الناصر يوسف صاحب دمشق وحلب، وإقصاء الأيوبيين من الشام.

 ممكن الناس تشوف  الكلام ده غريب، إزاي يسيب بين المقدس بسهولة؟ لكن لو فهمت الجو اللي كانوا عايشينه المماليك في مصر هتستوعب الموضوع. الحكاية مش جشع أو طمع، لكن أيبك كان عارف إنه لازم يحسب كل خطوة صح. مصر كان لسة مشتتة بعد صراعات تورانشاه، والمماليك مش مستقرين قوي، والناصر يوسف من الشام بيهددهم في كل لحظة. وكمان خبر المغول كان بيقرب للشرق، وكل المنطقة في حالة قلق رهيب. أيبك شاف إن التنازل عن بيت المقدس كأنه ورقة لعب، يقدر بيها يخلي الصليبيين على وضع ثبات، ويضمن سلام مؤقت، ويقدر يركز كل قوته على تهديد الناصر يوسف في الشام بدل ما يغرق نفسك في حروب من كذا اتجاه.

يعني المعاهدة كانت حركة محسوبة، مخاطرة كبيرة، بس هدفها واضح وهو الاستقرار الداخلي والمواجهة الحاسمة للأعداء الحقيقيين. بيت المقدس كان وسيلة لضبط التوازن، مش غنيمة مستحيلة. وهنا كان واضح ذكاء أيبك السياسي، حتى لو ظاهر الخطوة شكلها تنازل، لكن باطنها خطة لمواجهة المخاطر الكبيرة اللي كانت محيطة بمصر والمماليك.

خطة التحالف كانت مرسومة بدقة، لويس يتحرك وياخد يافا، وأيبك يبعت جيشه ناحية غزة، وبعدها يلتقي الطرفين ويبدأ الهجوم المشترك. وفعلاً لويس خرج على رأس حوالي ألف وخمسمية مقاتل، ودخل يافا من غير مقاومة تُذكر، لأنها كانت تحت حكم أيوبي ضعيف مهتز. وفي نفس الوقت، الجيش المملوكي بقيادة فارس الدين أقطاي تحرك ناحية غزة، وعسكر في الصالحية.

لكن الناصر يوسف مكنش غافل. الأخبار وصلتله بدري، وفهم إن التحالف ده لو اكتمل، هيقضي عليه. تحرك بسرعة، وبعت قوة كبيرة، حوالي أربعة آلاف مقاتل، نزلوا عند تل العجول قرب غزة، وسيطروا على المدينة، وبعدها لفّوا راجعين على يافا علشان يستردوها من لويس. بكده اتقطعت الطرق بين الحليفين، والمماليك فضلوا واقفين في الصالحية، لا قادرين يتقدموا ولا ينسحبوا بسهولة، وكل طرف واقف للتاني على الشعرة.

أكيد سألت نفسك إزاي المماليك، اللي هزموا لويس التاسع على ضفاف النيل، وكسروا حملته، وأسروه، يرجعوا يتعاملوا معاه؟ وإزاي يوصل الأمر إنهم يفاوضوه، ويتكلموا عن تحالف، ويقدّموا تنازلات، وهو عدو غاصب، وطامع، ومش بعيد يرجع يهاجمهم تاني؟

الإجابة مكنتش في الخيانة، ولا في الضعف، لكن في واقع أعقد بكتير. المماليك وقتها كانوا كسبوا معركة عظيمة، بس لسه ما كسبوش الدولة. الحكم في مصر كان لسه هش، زي زرعة جديدة طالعة من أرض محروقة. لا الخليفة العباسي مطمّن لهم، ولا العلماء راضيين عنهم، ولا الأيوبيين في الشام ساكتين. بالعكس، الشام كلها كانت واقفة لهم بالمرصاد، شايفة إن اللي حصل اغتصاب حكم، وإن مصر لازم ترجع لحضن البيت الأيوبي.

أما لويس التاسع، فبعد فارسكور ما بقاش هو العدو اللي يخوّف. كان ملك مهزوم، مكسور الهيبة، قاعد في عكّا يلمّ جراحه، بلا جيش حقيقي ولا قدرة على فتح حرب جديدة لوحده. فالمماليك شافوه ورقة ممكن تتلعب بيها.

العدو الحقيقي في اللحظة دي مكنش الصليبيين… كان الأيوبيين. خطر قريب، وجيش حاضر، وشرعية أقدم، ولو دخلوا مصر كانت الدولة المملوكية كلها هتتقلب في أيام. قدّام المعادلة دي، فضّل أيبك والمماليك إنهم يحالفوا لويس مؤقتًا، ويكسبوا وقت، ويخفّفوا الضغط من ناحية الغرب، وهم بيواجهوا الخطر الأقرب من الشام.

والتنازلات اللي اتقالت؟ معظمها كان وعود أكتر منها أفعال. وعود في الهوا، واتفاقات قصيرة النفس، لأن أيبك نفسه كان حاكم قَلِق، بيحاول يثبّت حكمه بأي وسيلة، حتى لو دفع تمن سياسي كبير. هو كان عارف إن لويس مش هيقدر ينفّذ طموحه، ولا يقود حملة جديدة من غير دعم أوروبي واسع مش متوفر. كان تحالف اضطراري، هش، معمول علشان يكسبوا وقت، مش علشان يبيعوا أرض.

لكن المرحلة دي، بكل تناقضاتها، كانت درس قاسي. درس علّم المماليك إن المساومة مع الغزاة عمرها ما تبني دولة، وإن اللعب على الحبال خطره أكبر من فايدته. ومن هنا، ومع تصاعد الخطر المغولي، هيتغير التفكير، وهتطلع قيادات جديدة بعقل مختلف، ما تعرفش المواربة، ولا تقبل أنصاف الحلول.

الأجواء كانت مشتعلة، والمواجهة المباشرة قربت. لكن فجأة المشهد كله اتغير بسبب خطر أكبر من الجميع، المغول. الطوفان الجاي من قلب آسيا. ماشيين زي الجراد والدين في وشهم، العراق اتدمرت، وطلائع المغول بقت قريبة من بغداد، والعالم الإسلامي كله دخل حالة رعب. ساعتها فهم المماليك والأيوبيين إن استمرار العداوة بينهم رفاهية ما بقتش متاحة. الخليفة العباسي المستعصم بالله بعت رسوله نجم الدين البادرائي، عشان يصلح العلاقة بين الطرفين، مش بسبب معزتهم عنده مثلا، ده عشان عارف أن مصر والشام هم الحامي الوحيد له من المغول. ونجح رسول الخليفة العباسي في جمع الطرفين على صلح اضطراري، صلح الخوف من المغول قبل صلح السياسة.

اتفقوا على أن الناصر يوسف يعترف بسلطة أيبك، وبسيادة المماليك على مصر وبلاد الشام لحد نهر الأردن، على أن تكون غزة وبيت المقدس ونابلس والساحل الفلسطيني كله من نصيبه. وفي المقابل، يعترف المماليك بسيادة الأيوبيين على باقي الشام. الرعب من المغول خلّى الكل يوقّع من غير جدال طويل… السيوف كانت محتاجة تتعاون وتتوجه ناحية واحدة.

أيبك شاف إن ده الوقت المناسب اللي لازم يستغله ويحسم فيه أمر ملكه. الخليفة العباسي مش فاضي مرعوب من الخطر اللي داخل عليه، والأيوبين والتصالح معاهم، بكدة الشراكة الشكلية في الحكم مع الطفل الأيوبي الأشرف موسى ما بقتش لها لازمة. فشال اسمه من الخطبة، وقبض عليه، وسجنه في قلعة الجبل سنة 650 هـ / 1252م، وأعلن نفسه السلطان متفرد من غير وصاية، ولا ظلّ أيوبي، ولا شريك في الحكم.

طيب شجر الدر كانت فين وسط كل ده؟ بعد ما اتنصّب أيبك سلطان، شجر الدر رسميًا بقت “زوجة السلطان” مش “السلطانة”، يعني اسمها اختفى من الخطبة والسكة، بس نفوذها جوّه القلعة لسه موجود. كانت موجودة في قلعة الجبل، في قلب مركز القرار، بتراقب، وبتتدخل أحيانًا، وبتتفرج على أيبك وهو بيعلى ويتحكم أكتر يوم عن يوم.

في الصراعات الكبيرة — حرب الشام، مناوشات الصليبيين، تحالفات أيبك، خطر المغول — شجر الدر مكنتش هي صانعة القرار المباشر زي أيامها الأولى، لكن كانت العقل الحذر اللي شايف إن أيبك بيكسب سلطته خطوة خطوة، وبيحاول يثبت نفسه وسط عالم كله نار.

كمان لازم نفتكر إن شجر الدر كانت أقرب لفكرة تثبيت الحكم في مصر أكتر من المغامرات الخارجية. هي جرّبت الحكم، وشافت قد إيه الكرسي ده خطر، فكانت شايفة إن أي تهور سياسي ممكن يرجّع البلد للفوضى أو يفتح باب لصراع داخلي أخطر من الصليبيين نفسهم.

وعشان كده ما شفناش ليها دور علني في تحالف أيبك مع لويس التاسع. وما شفناش توقيع باسمها ولا سمعنا أن فيه أوامر صادرة منها. لكن ده مش معناه سكوت ضعف، قد ما هو سكوت ترقّب، سكوت واحدة فاهمة إن اللحظة دي مش لحظتها، واحدة بتحاول تفهم الوضع الجديد اللي هي فيه، لأنها كانت حاسة بالخطر من ازدياد قوة ونفوذ وسيطرة أيبك - اللي أفتكرته موسى طلع فرعون - وبتتهيأ للضربة الجاية اللي لازم تبقى محسوبة

في الوقت ده الملك لويس التاسع بدأ يفهم الحقيقة، إن المسلمين في مصر والشام، لو اتحدوا فعلًا، هيقدروا يقفلوا الطريق قدّام أي خطر صليبي، وكمان يضيقوا عليهم الخناق. عشان كده كان الصلح اللي تم بين الناصر يوسف والمعز أيبك في صفر سنة 651 هـ، ضربة تقيلة نزلت على قلب المشروع الصليبي كله، وضربة مباشرة للويس التاسع شخصيًا، لأنه فجأة لقى نفسه قدّام جبهة إسلامية بدأت ترجع متماسكة من تاني.

الصلح ده فكّ القيود من ايد الناصر يوسف، وبعد ما خلّص كل اللي كان شاغل باله، قرر يوجّه نظره للفرنج. خصوصًا إن لويس التاسع كان خلاص كشف عن نواياه، وبان بوضوح إنه حاول يستخدم أمراء مصر كحلفاء ليه ضد خصومه في الشام، وهو تصرّف خلّى الصدام يبقى مسألة وقت. وزاد التوتر أكتر مع وجود قوات صاحب حلب رابطة قدّام غزة، قريبة جدًا من المعسكر الصليبي في يافا.

الصدام اللي حصل مكنش معركة فاصلة، ولا مواجهة تحسم كل حاجة في يوم وليلة، لكنه كان بداية طريق طويل من الهجمات القاسية اللي القوات الناصرية هتشنها بعد كده على الصليبيين وممتلكاتهم، بعد ما استقر الصلح بينها وبين مصر.

وفي النهاية، لويس التاسع اضطر يعترف بالفشل. مقدرش يستفيد من الانقسام اللي كان حاصل بين مصر والشام، ولا يحقق اللي كان بيحلم بيه. فجمع جراحه، وقرر يرجع على بلده، وغادر فلسطين في ربيع الأول سنة 652 هـ، أبريل 1254م، وهو مجروح في كرامته وكبريائه، بعد الهزيمة اللي شافها في مصر وما لحقش يمسح أثرها. وكانت لحظة رحيله بمثابة إعلان هادي، إن الروح العسكرية الفرنجية بدأت تدخل مرحلة الأفول.

(يتبع)

مروة طلعت
25/ 12 / 2025
المصادر:
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ج6 و ج7 - ابن تغري بردي.
قيام دولة المماليك الأولى في مصر والشام - أبو الفدا.
السلوك لمعرفة دول الملوك - المقريزي ج1.
بدائع الزهور في وقائع الدهور - ابن ياس.
مفرج الكروب في أخبار بني أيوب ج2 - ابن واصل.
مسالك الأبصار في ممالك الأمصار - ممالك مصر والشام - ابن واصل.
سير أعلام النبلاء الطبقة 34 - الامام الذهبي.
حسن المحاضرة في أخبار ملوك مصر والقاهرة - القلقشندي.
الدرة الزكية في أخبار الدولة التركية - ابن أيبك الداواداري.
السلطان المظفر سيف الدين قطز بطل معركة عين جالوت - د/ قاسم عبده قاسم.
السلطان سيف الدين قطز ومعركة عين جالوت - علي محمد الصلابي.
الأيوبيون والمماليك - د/ قاسم عبده قاسم.
مصر في عهد بناة القاهرة - إبراهيم شعوط.
عصر سلاطين المماليك - أ.د/ عطية القوصي.
المغول وعالم الإسلام - أ.د/ صبري عبد اللطيف سليم.
الجواري والغلمان في مصر - نجوى كمال.
شجر الدر قاهرة الملوك - نور الدين خليل.
شجر الدر - د/ يحيى الشامي.
الحلقة الأولى
الحلقة الثانية
الحلقة الثالثة
الحلقة الرابعة
الحلقة الخامسة
الحلقة السادسة
الحلقة السابعة
الحلقة التامنة
الحلقة التاسعة
الحلقة العاشرة
الحلقة الحادية عشر
https://www.facebook.com/share/p/1GdgjCgXjV/
الحلقة الثانية عشر
https://www.facebook.com/share/p/1Z7Cj9Xcx3/

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الليث بن سعد 5

الدكتور نجيب محفوظ باشا

لاشين، لوسيفر شيرين هنائي