الصَّدُّ الأَخِيرُ سيف الدين قطز 12
(12) أيبك... سلطان الضرورة
بعد ما العاصفة هديت شوية، والبلد كانت لسه بتفوق من صدمة تنصيب "شجر الدر" سلطانة عليهم، لقى الناس نفسهم قدّام سلطان جديد على عرش مصر، ومش أي سلطان ده من المماليك مش أيوبي، "عز الدين أيبك التركماني"، اللي اتلقب بلقب "الملك المعز". الغريب إن أيبك مكنش لا أكبر المماليك سنًا، ولا أقدمهم خدمة، ولا أقواهم نفوذًا. كان فيه أمراء أتقل منه بكتير، وعلى رأسهم فارس الدين أقطاي، قائد الجيش وزعيم المماليك البحرية اللي كان اسمه مالي السمع والبصر بعد معركة فارسكور. لكن اختيار أيبك مجاش صدفة، ده كان اختيار محسوب، شجر الدر كانت عايزة سلطان تقدر تمسك زمامه، واحد يفضل محتاجها أكتر ما هي محتاجاه، وتقدر تعزله في أي وقت لو اضطرت.
وفي شهر ربيع الأول سنة 648 هجرية، الموافق مايو سنة 1250 ميلادية، اتجوزت شجر الدر من عز الدين أيبك، وبالخطوة دي تنازلت له رسميًا عن عرش مصر. تنازل جوهره سياسي بحت. ولأن فكرة خروج الحكم من البيت الأيوبي كانت لسه تقيلة على النفوس، لجأ المماليك لحل وسط، جابوا طفل من البيت الأيّوبي عمره ست سنين، ونصبوه سلطان باسم "الملك الأشرف مظفر الدين موسى". وبكدة اتطبخت الطبخة، طفل على العرش علشان الشكل، وأيبك واقف قدّامه بلقب “نائب السلطان”، حاكم فعلي من غير ما يقول إنه حاكم، وشجر الدر في الخلف، شايفة، وحاسبة، وممسكة بالخيوط.
المصادر ما ذكرتش إن فارس الدين أقطاي أعلن اعتراض صريح أو تمرد في لحظة تنصيب أيبك، وده في حد ذاته غريب، لأن اللي عملته "شجر الدر" من تخطي القيادات والكفاءات يعتبر جريمة في نظر ومفهوم المماليك، التدرج المملوكي ده عندهم شئ له قدسيته، والخارج عنه في عرفهم خاين. لكن من خلال تحليلي لشخصية فارس الدين أقطاي مع تأملي للأحداث المستقبلية، أقدر أقول ان الصمت وعدم الاعتراض ده كان له أسباب.
فارس الدين أقطاي بعد فارسكور مكنش مجرد أمير منتصر، ده بقى زعيم البحرية فعليًا، وصاحب الشعبية الأكبر وسط المماليك والجند. النوع ده من القادة غالبًا ما يستعجلش الكرسي، لأنه شايف إن السلطان اللي هييجي هيبقى محتاجه أكتر ما هو محتاج السلطان. أقطاي كان متصور إن النفوذ الحقيقي في إيده، وإن أي سلطان – أيًا كان مين – هيحكم وهو واقف في ضهره. أقطاي في اللحظة دي مكنش واخد شجر الدر على محمل الخطر، شايفها ست ذكية صحيح، لكن في النهاية هي مجرد ست محتاجة رجال يحموا الحكم ويثبتوه. فافتكر إن اختيارها لأيبك مجرد ترتيب مؤقت، وإن الدور هييجي عليه طبيعي، أو على الأقل إن أيبك هيبقى واجهة وهو القوة الحقيقية، وده كان أول خطأ كبير. أقطاي كان فارس حرب، وده بان في كل معاركه، لكن السياسة محتاجة نفس أطول، ومكر أكتر، هو كان مفتقده. أقطاي سكت لأنه كان واثق إن القوة العسكرية هتحسم أي خلاف لما يحب، وإن الوقت شغال لصالحه، مش ضده، والتاريخ أثبت إن الثقة دي كانت قاتلة. بالاضافة الى ان المماليك ماكانوش كتلة واحدة، أقطاي كان زعيم البحرية، لكن فيه فرق تانية، وأمراء كتير مش حابين يشوفوه سلطان، لأن ده معناه إنهم هيبقوا تحت رحمته مباشرة. فسكوته كمان كان نوع من تجنب صدام مبكر مع باقي المماليك، خصوصًا في لحظة البلد فيها بقايا حملة صليبية، وضغط عباسي، واضطراب داخلي، فأي انفجار ساعتها كان ممكن يضيع الدنيا. سكوت أقطاي، مش لأنه أقل من أيبك، ولا لأنه راضي، لكن لأنه كان فاكر إن الحكم هييجي له لحد عنده، وما خدش باله إن في القصر كانت بتتلعب لعبة تانية، لعبة صبرها أطول، وسكاكينها أنعم، ولما فاق وفهم، كان العرش بِعد قوي، وأقرب خطوة له بقت خطوة للهاوية.
"شجر الدر" لما اتنازلت عن العرش، كان عشان ترضي الخليفة العباسي، وتمتص غضب العلماء والأئمة، وعامة الشعب المؤمن بكلام علمائه، وأفتكرت أن كدة خلاص الجو هدي. لكن برده لا تأتي الرياح بما تشتهي السفن، من أول يوم قعد فيه المعز عز الدين أيبك على عرش مصر، بان إن الطريق قدامه مش مفروش حرير. المشاكل جات له من كل ناحية، برّه وجوّه، كأن السلطنة نفسها كانت واقفة له على بابها بتختبره. برّه مصر، أمراء بني أيوب ما اعترفوش بالحكم الجديد أصلًا. بالنسبة لهم، اللي حصل في القاهرة انقلاب على حقهم الشرعي، ومماليك جايين من سوق الرق بقوا فجأة سلاطين. واحدة واحدة، الشام انسلت من إيد مصر، دمشق، والكرك، والشوبك، والصبيبة، وغيرها. والعالم الإسلامي اتقسم نصين؛ مصر في إيد المماليك، والشام في إيد الأيوبيين، وكل طرف شايف نفسه صاحب الحق، والتاني مجرد مغتصب.
الأيوبيين ما اكتفوش بالانفصال، ده شنّوا حرب كلامية تقيلة. قالوا إن المماليك هم اللي فرّطوا في لويس ملك الفرنجة، وسابوه يخرج من مصر حي مقابل فدية، طمعًا في دهبه وفلوسه. وقالوا كمان إن جشع المماليك هو اللي خلّى الملك الفرنسي يفلت من العقاب، وإنه لما خرج راح على إمارات الفرنجة في الشام، وابتدى يزود الخلافات، ويهيّج الفتن في الشرق الإسلامي كله.
أما المماليك البحرية، فكان ليهم رواية تانية خالص. قالوا إنهم هم أصحاب الفضل الحقيقي في النصر، وإن لولا حروبهم في المنصورة وفارسكور ما كانش لويس اتكسر ولا جيشه اتدمر. وردّوا على تهمة الطمع، وقالوا إنهم ما أفرجوش عن لويس حبًا في ماله، لكن خوفًا من غضب العالم الغربي كله، لو ملك بالحجم ده اتقتل أو اتساب في الأسر. حملة صليبية جامعة كانت ممكن تقوم، وهم لسه دولتهم وليدة، ومفيش ضمان أنهم يقدروا يصدّوها. وفوق ده كله، ماكانوش ناسيين تورانشاه. لا إهاناته ليهم، ولا إساءاته لزوجة أبوه شجر الدر. شافوا إن الرجل ده لو فضل، الزمام كان هيفلت، والبطش كان جاي عليهم لا محالة. فقتلُه – من وجهة نظرهم – ماكانش جريمة، كان إنقاذ لمصر من فساده، وحماية لدولة لسه بتتولد. علشان كده المماليك شافوا نفسهم أحق بالحكم من أي حد.
وفي اللحظة اللي كان فيها الشرق الإسلامي واقف قدّام نفسه منقسم ومتوتر، كان الملك الفرنسي لويس التاسع قاعد في عكّا، بيراقب المشهد بعين الصيّاد اللي شاف فريسة بتترنح. الهزيمة اللي خرج بيها من مصر ما كانتش آخر الحكاية بالنسبة له، بالعكس، كانت بداية تفكير جديد، فرصة لتعويض الخسارة، وربما لمحاولة تانية نحو بيت المقدس. الفرنجة في المعاقل اللاتينية بسوريا، وعلى رأسهم لويس، كانوا فاهمين كويس إن مصر والشام داخلين مرحلة انتقال مضطربة. لا سلطان مستقر هنا، ولا كلمة واحدة هناك. ولويس نفسه كتب لشعبه إن الشقاق ده أنعش آماله، وفتح له باب ما كانش مفتوح قبل كده. ومن هنا، ابتدت الرسل تروح وتيجي، والسفارات تتعدد، بين أمراء مصر والشام من ناحية، وبين الملك الفرنسي في عكّا وبقية بلاد الشام المحتلة من ناحية تانية. كل طرف بيغريه بالوعود، وكل واحد عايزه في صفّه.
لويس التاسع برده ما كانش سهل. لعبها سياسة، لا استعجل تحالف، ولا قطع وعد. قدّامه أكتر من اختيار إما ينضم لمصر، أو يميل للشام، أو يقف متفرج، أو يسيب الطرفين يستهلكوا قوة بعض، لحد ما يطلع هو الكسبان الوحيد. كان حريص، متأني، بيحسبها بميزان مصلحة العالم الغربي قبل أي خطوة. ما إن استقر في عكّا، إلا وبعت له الناصر يوسف، صاحب دمشق وحلب، مبعوثين يطلبوا منه الوقوف جنبه في حربه ضد المماليك البحرية، اللي قتلوا قريبه السلطان تورانشاه. ووعده وعد تقيل، إن بيت المقدس نفسه، هيرجع له تاني لإيد الصليبيين، لو وقف معاه. عرض مغري، ما يتكررش بسهولة.
وفي القاهرة، كان أيبك متابع كل نفس. حسّ بالخطر الأيوبي بيقرب، وقرر يضغط على لويس بطريقته. بعت له إنذار وقاله أي عمل عدائي ضد مصر، معناه إن الأسرى الصليبيين اللي لسه في السجون من أيام حملة دمياط هيدفعوا التمن. وفي نفس الوقت، فتح باب الإغراء هو كمان؛ عرض تعديل معاهدة دمياط، والتنازل عن نص فدية الأسرى، مقابل تحالف صريح ضد الناصر يوسف. لويس فضل واقف في النص. قلبه ميّال لدمشق لأهميتها العسكرية والسياسية، لكن عقله مش قادر يتجاهل الأسرى اللي لسه في مصر. فضل سايب الأبواب مواربة، لحد ما الصورة توضح أكتر. ولما يأس الناصر يوسف من استقطاب الملك الفرنسي، قرر يتحرك بنفسه. جمع جيوشه وزحف ناحية مصر. ساعتها، المماليك البحرية نسوا خلافاتهم، وأدركوا إن الخطر الجاي لو دخل، مش هيفرق بين كبير وصغير. تكاتلوا ورا أيبك، لأن سقوطه كان معناه سقوطهم كلهم.
خرج أيبك من القاهرة على رأس الجيش المملوكي، متجه لمواجهة الزحف الأيوبي، لكن كان في دماغه شبح تاني: الصليبيين. خاف ليستغلوا خلو مصر من الجند ويهجموا على دمياط مرة تانية. فاخد قرار قاسي، بس محسوب، أمر بهدم ميناء دمياط بالكامل، عشان سفن الصليبيين متعرفش تقف. اتخربت المدينة، وما بقاش منها غير الجامع، وكام كوخ قش على شط النيل، ساكنينهم صيادين وغلابه، واتسمّت "المنشية".
وفي اليوم العاشر من ذي القعدة سنة 648 هجرية، اللي يوافق تالت فبراير 1251 ميلادي، اتقابل الجيشين الأيوبي والمملوكي في أرض ما بين بلبيس والصالحية. كانت لحظة فاصلة، لأن دي أول مواجهة حقيقية تحدد مين هيمسك زمام الأمور في مصر بعد كل اللي حصل. المعركة بدأت وكانت الكفة طابة ناحية الناصر يوسف، وحقق تقدم واضح في أولها، رغم المقاومة الشرسة اللي أبداها المماليك وهم بيقاتلوا كأنهم بيحاربوا على وجودهم مش بس على نصر.
لكن وسط المعركة حصلت حاجة قلبت الموازين. فرقة من جيش الناصر يوسف، وهم المماليك العزيزية، سابوا مواقعهم فجأة، وانحازوا للجيش المملوكي، مدفوعين بعصبية المماليك لبعضهم، اللي وقت الشدة بتغلب أي ولاء تاني. اللحظة دي كانت كفيلة إنها تخلخل صفوف الأيوبيين، وتزرع الفوضى في قلب المعركة.
الناصر يوسف مكنش معروف عنه الجرأة ولا الثبات في ساعات الخطر، ما استحملش الموقف، تراجع بسرعة، وولى الأدبار هاربًا ناحية الشام، وساب جيشه يواجه مصيره. أما المماليك، فاستغلوا اللحظة، وحسموا المعركة لصالحهم، ورجعوا القاهرة منتصرين، ومعاهم الأسرى، وهم حاسين لأول مرة إن دولتهم الوليدة بقى لها أنياب.
الموقعة دي مكنتش مجرد انتصار عسكري، دي كانت شهادة ميلاد حقيقية لدولة المماليك البحرية. وأيبك فهم الرسالة كويس، ومضيعش الفرصة. بعد شهر واحد بس، بعت جيش بقيادة فارس الدين أقطاي، قدر يستولى بيه على غزة، وكأنه بيعلن إن المعركة مع الأيوبيين ما خلصتش، وإن الخطوة الجاية هي الشام نفسها، مش بس الدفاع عن مصر.
(يتبع)
تعليقات
إرسال تعليق