الصَّدُّ الأَخِيرُ سيف الدين قطز 11
القاهرة صحيت اليوم ده على حاجة مش شبه أي يوم عدّى قبل كده. الخبر خرج من القلعة ونزل زلزل الشوارع، المنادي بيلف شوارع المحروسة، بينادي ويعلن: (شجر الدر بقت السلطانة!!).
في قاعة الإيوان، قلب القصر النابض، كانت الصورة مهيبة. الأعمدة العالية مكسوّة بالرخام والآبنوس، والنقوش الذهبية بتلمع مع ضوء الصبح اللي داخل من الشبابيك الواسعة. الفرش التقيل مفرود، الزرابي والطنافس متراصة، والأرائك مستنية أصحاب القرار. على دست الحكم، جلست شجر الدر، هادية، ثابتة، لابسة هيبة اللحظة أكتر ما لابسة تاج.
واحد ورا التاني، دخل الأمراء والقادة. خطوات محسوبة، عيون مترقبة، وانحناءات فيها اعتراف قبل ما يكون فيها احترام. لا هتاف، ولا صخب جوّه القاعة، بس صمت تقيل، صمت بيقول إن اللي بيحصل ده غير عادي، وإن التاريخ بيغيّر سِكّته قدّام عينيهم.
برا القصر، المشهد كان مختلف. الباحة اتملت عن آخرها. ناس واقفة، ناس بتتزاحم، ناس فرحانة وناس مصدومة مش مستوعبة. صنايعية سايبين شغلهم، تجّار قافلين دكاكينهم، فلاحين جايين من أطراف القاهرة، جند واقفين بسيوفهم، مغنّيين وراقصين جايين بدافع الفضول أو الفرحة. المدينة كلها واقفة على أطراف صوابعها.
وشجر الدر ساكتة. ما بتتكلمش كتير. عينيها من ورا حجابها بتتفحص الوجوه، عارفة إن كل عين في المكان، ورد على باله السؤال ده: إزاي جارية سابقة تبقى ملكة مصر؟ بس اللحظة ما كانتش محتاجة إجابة، كانت محتاجة حضور، وكان حضورها الطاغي وكاريزمتها وقوة شخصيتها كفاية.
وفي اللحظة دي، ومع أول دعاء يُرفع باسمها، وأول انحناءة تتاخد قدّامها، كان واضح إن مصر دخلت زمن جديد، صورتُه هتفضّل محفورة في ذاكرة التاريخ.
في لحظة فارقة من تاريخ مصر، اختلف المؤرخين: هل كانت شجر الدر أولى سلاطين دولة المماليك البحرية؟ ولا كانت آخر سلاطين بني أيوب؟ والحقيقة إن الخلاف نفسه كاشف عن مكانتها، لأنها وقفت بالظبط على العتبة بين دولتين دولة بتموت، ودولة بتتولد.
﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ صدق الله العظيم.
شجر الدر في الأصل كانت جارية مملوكية، جارية أرمينية، ودخلت قصر "الملك الصالح نجم الدين أيوب"، ومع الوقت بقت محظيته الأقرب، وبعدين زوجته، وأم ابنه الخليل اللي مات طفل صغير. ومن اللحظة دي، ما بقتش مجرد واحدة من الحريم، لكن بقت صاحبة كلمة، الملك الصالح نفسه كان بيثق في رأيها وحكمتها، وكانت مستشارته في الحكم، ونائبته على الحكم لما كان بيخرج في حروب برا مصر، والمماليك البحرية الصالحية كانوا بيحترموها ويوقروها، بيأتمروا بأمرها، ويحسبوا حسابها، كرامة لأبوهم الروحي "الملك الصالح" ولأنها كانت جوه دايرة الحكم، شايفة وسامعة وفاهمة كل حاجة.
علشان كده، في مؤرخين شافوا إنها أولى سلاطين المماليك، باعتبار إنها مملوكية صالحية، وفي نفس الوقت زوجة سلطان أيوبي، فبقت حلقة الوصل اللي نقلت الحكم من بيت أيوب ليد المماليك من غير فراغ ولا فوضى. وفي مؤرخين تانيين اعتبروها آخر سلاطين الأيوبيين، لأنها زوجة الصالح وأم وريثه، وكأن الدولة الأيوبية أغلقت بابها عليها.
لكن اللحظة اللي حسمت كل شيء كانت لحظة وفاة "الملك الصالح نجم الدين أيوب"، في وقت كانت فيه البلاد في حرب، ودمياط في إيد الصليبيين، والجيشين في اشتباك مباشر. لو خبر الوفاة اتعلن وقتها، كان ممكن الجيش ينهار، والبلد تضعف، والقيادة تضيع، لكن "شجر الدر" فهمت إن مصير البلد ساعتها أهم من الحزن الصراخ، وإن الكتمان فرض.
الملك مات وهي حاضرة، بس ما أعلنتش. أمرت العبيد يشيلوه في محفة، ومن غير ما يعرفوا شايلين ايه، واتنقل في مركب لقلعة الروضة. وفي نفس الوقت، كانت بتدير المشهد كله من ورا الستار، توصي الأمير "فخر الدين" بقيادة الجيش، وتنفخ في الجنود روح الجهاد والعزيمة، وتأكد إن الحرب لازم تكمل لحد ما دمياط ترجع.
وجوه القصر، كانت المسرحية ماشية بإتقان. كبار الموظفين والأطباء يدخلوا على السلطان بحجة إنه تعبان، والأوامر والمراسيم تطلع بتوقيعه، توقيع كانت "شجر الدر" بتقلده بإيد خبيرة، من غير ما حد يشك. لا الجيش حس إن ظهره انكشف، ولا الدولة وقعت في صراع، ولا العدو عرف إن السلطان مات.
بالحنكة دي، وبالهدوء ده، حافظت "شجر الدر" على وحدة الجيش، ومنعت تصدع الصفوف، وخدت الحرب لحد نهايتها، وسلمت السلطة بهدوء وسلمية لـ"تورانشاه" بيضة مقشرة، وانتهت بأسر الملك لويس التاسع، وعودة دمياط، ونصر ما كانش سهل على أي حاكم، فما بالك بامرأة في عصر ما كانش بيقبل نهائي إن الست تمسك زمام الحكم.
علشان كده، لما قُتل "تورانشاه"، كان رصيد "شجر الدر" السياسي والعسكري حاضر بقوة. المماليك ما شافوهاش مجرد زوجة سلطان، لكن شافوها قائدة حكيمة وحازمة، حافظت على الدولة وحمتها في عز الأزمة، وخرجت بيها من عنق الزجاجة. وفضل السؤال مطروح: هل رضوا المماليك البحرية بيها سلطانة عليهم عشان نسبها للصالح وابنها الخليل؟ ولا علشان كفاءتها؟ ولا علشان كانوا محتاجين حاكم شرعي يغطّي انتقال الحكم؟
يمكن كل ده مع بعض، المهم إنهم رفعوها على العرش، ولقبوها بـ "أم الخليل"، وبقت سلطانة مصر، يُخطب لها على المنابر، ويُدعى لها بعد الدعاء للخليفة العباسي. الجارية اللي دخلت القصر مملوكة، خرجت منه ملكة، وسابت بصمتها في لحظة انتقال تاريخي.
في الأيام اللي تربعت فيها "شجر الدر" على عرش مصر، الأئمة والمصلّين في المساجد كانوا بيرفعواالدعاء لها ويقولوا: "اللهم احفظ الجهة الصالحة، ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين، أم الخليل، أم أمير المؤمنين، المستعصمة، صاحبة السلطان الملك الصالح".
والخطباء على منابر مصر وأعمالها، بعد الدعاء للخليفة العباسي، كانوا بيذكروا اسمها جهارًا، ويقولوا: "اللهم احفظ الجهة الصالحية، ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين، ذات الحجاب الجليل، والستر الجميل، والدة المرحوم الخليل".
اسم "شجر الدر" أتسك واتنقش على النقود اللي بتلف في إيدين الناس، من السوق للغيط، ومن القصر للحارة، وعليها مكتوب: "المستعصمة الصالحية، ملكة المسلمين، والدة المنصور الخليل". عملة بتتداول، واسم امرأة عليها، في زمن ما كانش سهل يتقبل الفكرة دي.
ومجرد ما اتعلن خبر توليتها، اتحرك القصر. كبار الأمراء والقادة راحوا يفدوا عليها، وهي قاعدة على دست الحكم في قاعة الإيوان اللي بناها "الملك الصالح"، وسط الأعمدة الشاهقة، والنقوش المذهبة، والرخام والأبنوس، والفرش الفاخر والطنافس والزرابي. المشهد كان مهيب، إعلان رسمي إن السلطة انتقلت، في ايد "شجر الدر أم الخليل الأيوبي".
برّه القصر، الدنيا كانت هايصة، باحة القصر الخارجية ضاقت بعامة الناس، ناسجاية مذهولة من الخبر، وناس جاية تتفرج. مواكب الصناع والتجار، والفلاحين والجند، ومعاهم المغنيين والراقصين والخدم والحشم… خليط غريب من الدهشة والفضول والاحتفال. لأول مرة في العصر الاسلامي، مصر تحكمها سلطانة، والناس مش عارفة تفرح ولا تقلق.
"شجر الدر" ما ضيعتش وقت. مسكت زمام الحكم بإيد قوية، ووجهت نظرها على طول لبقايا الحملة الصليبية السابعة، وبدأت تكمّل شغلها اللي بدأته أيام الحرب. وفي نفس الوقت، حاولت تقرّب من العامة والخاصة، تطمّن الناس، وتكسب القلوب، وتثبت إن الحكم في ايد أمينة.
لكن الرياح لا تأتي كما تشتهي السفن. الرفض كان أوسع وأقسى مما توقعت. الخليفة العباسي في بغداد رفض حكمها، وكبار علماء المسلمين رفضوها، وقطاع واسع من الناس ما قبلش الفكرة من أصلها. موجة غضب ضربت مصر، وخرجت مظاهرات في القاهرة من شرقها لغربها، والعلماء والخطباء ابتدوا ينددوا بالأمر على المنابر، وفي الدروس، وفي كل محفل. وكان في مقدمة الغاضبين سلطان الفقهاء، الشيخ الجليل "العز بن عبد السلام"، اللي أعلن رفضه الصريح. وزاد الطين بلة لما بعث الخليفة العباسي رسالة للأمراء في مصر بيقول لهم فيها: "أعلمونا إن كان ما بقى في مصر عندكم من الرجال من يصلح للسلطنة، فنحن نرسل إليكم من يصلح لها، اما سمعتم في الحديث عن الرسول صل الله عليه وسلم أنه قال لايفلح قوم ولوا أمورهم امرأة".
ساعتها، الدنيا اتلخبطت أكتر. الفقهاء والمتعلمين عارضوا، والشارع غلي، و"شجر الدر" وزعماء المماليك فهموا الحقيقة الصعبة، إنهم واقفين قدّام تيار عارم، مهما حاولوا يجمّلوه أو يلتفوا عليه، لو كملوا ضده، ممكن يغرقهم كلهم. وهنا قررت "شجر الدر" تطاطي للريح وتسمع لنصيحة القاضي "تاج الدين ابن بنت الأعز" اللي قال لها تختار ليها زوج تسلمه الحكم بشكل سلمي بدل ما تتطور الأمور لصراعات ويخشوا في بحر دم. وهنا أختارت "شجر الدر" بعد تفكير، تتجوز "عز الدين أيبك" مقدم العساكر و أتابكها، لأنه كان باين عليه أنه مكنش قوي الشكيمة، ومستضعف، وكان وجوده في منصبه كمقدم للعساكر في الأصل تحصيل حاصل فالرأي الأول والأخير كان ل "شجر الدر" ومكنش يقدر يتصرف ولا يصدر قرار من غير الرجوع ليها، يعني أختارته عشان كانت عارفة أنه لابيهش ولا بينش، وده كان أختيارها عشان يبقى مجرد صورة في الوش تقطع بيه الألسنة، وفي نفس الوقت تبقي الحاكم الفعلي وهي من وراه.
أختيار "شجر الدر" ريحها شخصيا وريح المدافعين عن الحكم الشرعى للبلاد، لكنه مريحش "فارس الدين أقطاى" قائد الجيش، ده خلى نار حقده تغلي وتشتعل، عشان كان هو الأحق ب"شجر الدر" وبالحكم بما أنه قائد الجيش، لكنه كان شخصية قيادية قوية عكس "أيبك" تماما، مكنتش كسلطانة قوية الشخصية وعاشقة للسلطة، هتقدر تسيطر عليه ولا حتى تفتح بقها قصاده، وده اللي مكنتش عاوزاه "شجر الدر"، وهنا قامت أعاصير من نوع أخر.
وفي زحمة اللحظة دي، وسط المماليك، كان فيه مملوك شاب، ما اتذكرش اسمه في دواوين الحكم، ولا اتقال قدّام المنابر، لكنه كان حاضر في الميدان، شايف كل حاجة، سامع كل همسة، وبيتعلّم من الفوضى قبل ما يتعلّم من النصر.
المرحلة دي خدمت "سيف الدين قطز" خدمة عمره اللي كان بيحلم بيها، في الوقت ده "قطز" كان من المماليك المعزية، يعني من مماليك "عز الدين أيبك"، وكان من أقرب مماليك "أيبك"، كان حارس سره ودراعه اليمين وصديقه الصدوق وناصحه الأمين. ولما تزوج "عز الدين أيبك" من السلطانة "شجر الدر"، رفع معاه مملوكه الأمين "سيف الدين قطز"، وكان دي المرة الأولى اللي يدخل فيها "قطز" دهاليز الحكم في قلعة الجبل. وكان له دور مؤثر جدا، دور مهم خفي في كل الأحداث الجاية.
تعليقات
إرسال تعليق