الصَّدُّ الأَخِيرُ سيف الدين قطز 6

(6) المماليك.. مصنع الجلادة والقيادة..

قبل ما نحكي عن "قطز" الطفل صغير اللي كان أمير وخاله السلطان الخوارزمي، ابن العز والحسب والنسب، اتباع وسط العبيد، وسافر لدمشق ومنها لمصر، مملوك وسط مماليك السلطان الملك الصالح "نجم الدين أيوب"، ازاي اتحول بعد سنين وقدر يوقف زحف المغول، ويكون الصَّدُّ الأَخِيرُ… لازم نرجّع الكاميرا ورا شوية.

في جزيرة الروضة، ورا الأسوار العالية، كانت بتتربى جيوش كاملة بالودّ، وبالشدة واللين، بالعلم، وبالإيمان.

الناس كانت فاكرة إن المماليك دول مجرد "عبيد" وخلاص، لكن الحقيقة كانوا أحباب وأبناء في حضن ملوك. كان "السلطان الصالح أيوب" واللي زيه من بعده، كانوا بيعاملوا كل مملوك كإنه ابنه اللي هيكبر ويبقى سند ملكه. ولو الدنيا هتجمع بين آلاف الرجال في لحظة واحدة، هتلاقي اللي أقوى من رابطة الدم، هي "رابطة التربية".

السلطان "الملك الصالح أيوب" كانوا بيقرب منه مماليكه قوي، وكأن كل واحد فيهم ابن متربي في حضن السلطان، وابنك على ما تربيه. مكنش فيه حكاية سيد وعبد. كان فيه أستاذ وتلميذ… كبير العيلة وأبنائه. حتى كلمة "السيد" مكنتش بتتقال، كان المملوك ينادي اللي اشتراه ويقوله "يا أستاذي"، وده لوحده يبينلك العلاقة كانت عاملة إزاي.

تربية المملوك كانت ماشية على ثلاث مراحل، وكل مرحلة لها قيمتها. في المرحلة الأولى المماليك كانوا بيشتروهم وهما صغيرين، ويدخّلوهم على طول طباق القلعة، كل طايفة حسب جنسها وبلدها. ومعاهم جهاز إداري محترف مسئول عن التعليم والتدريب والصلاة والقرآن. كان أول حاجة بيتعلموها هو القرآن الكريم. كل طايفة كان ليها فقيه ييجي كل يوم، يقعد معاهم، يقرأ معاهم، يعلمهم الخط، والآداب، والصلاة، والذكر. والصلاة كانت لازم تتصلى في معادها، تحت عين المراقبة، لحد ما تبقى ملكة في روح كل واحد فيهم. والخطوة دي كانت مهمة جدا، لأن زي ما ذكرنا قبل كدة كان الغالبية العظمى من المماليك مش مسلمين، فكان لازم يدخلوا الاطفال دي في الاسلام، ومش بس كدة، ده خلوا العقيدة الاسلامية راسخة بشدة في وجدان المماليك يمكن أكتر من العامة العاديين. أهم حاجة في المرحلة دي، إن الدين والأخلاق يبقوا حبّ جواهم، مش واجب وخلاص. إنهم يعرفوا يعني إيه رب، ويعني إيه قلب عامر بالايمان، ويعني إيه يقفوا يصلوا ودماغهم وفؤادهم صافي لله.

العلماء والفقهاء اللي كانوا في آخر عهد الأيوبيين اشتغلوا على الإعداد الربّاني، بهدوء، بالتدرّج، من غير قسوة ولا تشدد، يعلموهم قرآن، وسنة، يطهّروا قلوبهم من أمراضها، ويهيّأوهم إنهم يشيلوا مسئولية الجهاد والدفاع عن المسلمين. ومع الأيام غرست التربية دي جواهم قيم زي الإخلاص، الصبر، التوكل، الثبات، الخوف من ربنا، الدعاء، وضبط النفس. وكانت النتيجة إن أطفال وشباب المماليك طلعوا متعلمين أكتر من ناس كتير من زمانهم، فاهمين الدين كويس جدا ، بيحترموا ويجلوا العلماء، وعندهم خلفية قوية عن الفقه والشريعة. وده كان واحد من أسرار النهضة اللي حصلت في الوقت ده، النهضة اللي في الآخر هتطلع منها شخصية زَي "قطز" اللي لسه الحدوتة هتكشفهولك خطوة بخطوة.

في المرحلة التانية لما المملوك يكبر ويدخل سن البلوغ، هنا يبدأ الجدّ، دي مرحلة صناعة الفارس اللي يوقف قدّام جيش لوحده ومايرمش جفن. المرحلة دي كلها سلاح وخيل ونار، يتعلم فيها يرمي السهم بإيد ثابتة، يمسك الرمح ويثبت على الحصان، يضرب بالسيف كإنه امتداد لذراعه، ويركب الخيل لحد ما يبقى هو والفرس روح واحدة.

ان كان اللين والمسايسة هي أساس المرحلة الاولى عشان كانوا لسة صغيرين، فالمرحلة التانية الشدة والقواعد الصارمة والحزم عنوانها. مرحلة صناعة الوحوش، مفيش دلع، مفيش حاجة أسمها ما قصدتش يا أستاذي. لو المملوك غِلط يتحاسب، ولو بان عليه انحراف أو سوء خلق العقاب يبقى قاسي، لأنهم عارفين إنه بكرة هيبقى جندي مسئوا أو قائد، والقائد لو اتردد لحظة او غلط هيضيع مصير جيش كامل.

كانوا بيقسموا المماليك لفرق، كل فرقة ليها معلم، وكل فرقة مع معلمها بيقوموا بتدريبات عسكرية ورياضات عنيفة شبه مستحيلة، وفي ظروف في غاية القسوة والشدة، زي السباحة لمسافات طويلة، المبارزة، ولعب الكرة راجلين أوراكبين خيولهم، لعبة شكلها بسيط، لكن في الحقيقة هي تدريب مهم للسرعة، واللياقة، ورد الفعل. وفي أوقات الفراغ بيسيبوا المملوك يمارس هوايته اللي يحبها على راحته، يعني اللي عنده هواية علمية يتعلم، اللي بيحب الشعر يقول، اللي ميال للفقه يقعد بين العلماء، وعلشان كده شفنا مماليك طلعوا فقهاء وشعراء وكتّاب، مفيش حاجة تمنعهم، همّا اتربوا على إنهم بشر كاملين الانسانية، مش عبيد أو حتى مجرد جنود.

وكان على رأس كل مجموعة  واحد وظيفته "رأس النوبة"، ده كان بمثابة الحاكم عليهم، مهمته يفحص كل واحد فيهم فحص دقيق من حيث تصرفاته، خطواته، اتجاهاته الفكرية، صلاته، أسلوبه وطريقة كلامه، ولو واحد قصر في أدب من آداب الدين أو الدنيا، بيبلغ عنه، والعقاب بيبقى فوري، عشان كدة الجيل ده بالذات اللي اتربى واتأسس على ايد السلطان "الملك الصالح نجم الدين أيوب" طلعوا فرسان أصلب من الحديد. ولما كبروا بقوا سادة يديروا المُلك، وقادة يجاهدوا في سبيل الله، وأساتذة في ألاعيب ومكر السياسة،يعرفوا يحسّنوا للي يستاهل، ويردعوا اللي يتعدّى.

نيجي بقى للمرحلة التالتة، المرحلة اللي فيها المواهب العسكرية تظهر، والكفاءات تلمع زي السيف المصقول. هنا بقى خلاص المملوك ما بقاش طفل، ولا مجرد شاب بيتعلم، هنا مرحلة إثبات النفس. في المرحلة دي كانوا يعقدوا مبارزات بين المماليك، فارس ضد فارس، نظام مسابقات كده عشان يفرزوا مين فيهم الأصلح، والأقوى، والأشجع، والأذكى، ومين اللي عنده ثبات انفعالي تحت ضغط المعركة، واللي يثبت نفسه في المبارزات، ينزل بعدها على ميادين القتال الحقيقية. ومش كده وبس، ده كمان اللي يلمع اسمه في ميدان القتال، ويقف في وش العدو بجسارة ويكون له بصمة في المعركة، ده كان جايزته عظيمة، الحرية، عتق الرقّ، يبقى حر رسمي، وبصك بخط ايد السلطان.

لكن مش كلهم كانوا يُعتقوا تلقائيًا، فيه اللي كان يفضل في الرقّ لكنه يمسك مناصب كبيرة،
زي اللي اشتراهم سلطان العلماء "العز بن عبد السلام" لما لقاهم ماسكين مناصب وهما لسه مماليك. باعهم بيع شرعي قدّام الناس، وحط تمنهم في بيت مال المسلمين، وبعدها اعتقهم كلّهم، ممكن تقري حكايتهم بالتفصيل في كتابي "حدوتة مصرية".

سواء تم العتق أو بدونه، يتعيّن المملوك في وظيفة عسكرية صغيرة، ويفضل يرتقي، ويترقى، لحد ما ياخد لقب أمير، وبعضهم كان بيترقى لحد ما يوصل لأعلى منصب في الدولة، السلطنة نفسها.

ده كان بالنسبة لمراحل أعداد فرسان المماليك، لكن خلينا نشوفهم في المراحل دي بشكل أدق عن حياتهم اليومية وتعليمهم ولغتهم وتدريبهم. المملوك كان من أول ما يدخل الطباق في قلعة الروضة، لحد ما يطلع منها عتيق، مكنش مسموح له يخرج من الدور بتاعه وخاصة بالليل. حتى الحمّام - بمعنى الاستحمام لأنهم زمان الحمامات بتبقى عمومية مش في البيوت - ما يروحوش غير مرّة في الأسبوع، والموضوع ده جزء من النظام.

وكان أكلهم محسوب بدقة، لازم ياكلوا في الاسبوع، لحمة، وفواكه، وحلويات، وفول نابت مسلوق، أكل كتير صحي ومتنوع، علشان الجسم يبقى سليم، والعقل صاحي، والعضلات تتبني صح.

وكانوا كمان بياخدوا مرتب صغير، حاجة كدة زي المصروف للأنهم مش محتاجين الفلوس في حاجة أكلهم وشربهم وكسوتهم على السلطان، كانوا بيصرفولهم ٣ دنانير أو١٠ دنانير في الشهر، بالرغم من إنهم لسه بيتعلموا.

وكان السلطان "الملك الصالح نجم الدين أيوب" بنفسه، يطلعلهم فوق في الطباق يلف عليهم واحد واحد يشوفهم، يتأكد من جودة أكلهم، ويتأكد من نظافتهم، كأنهم ولاده مش جنوده. وكمان كان عامل لنفسه غرفه وسطهم، وأيام كتيرة كان بيروح روضة المنيل، يبات فيها وسطهم ومعاهم. بالذمة بعد ده كله مش عاوز يكون ليه الولاء التام منهم، دول يفدوه بالروح، ويحموه برموش عينيهم.

لما المماليك يخلّصوا تعليمهم، كان السلطان بيعملهم حفل تخرج، ومسميه  "يوم الاعتاق"، كان بيبقى يوم فرح وسرور، حفلة معتبرة، اعتاق بالجملة. السلطان حاضر بنفسه، والأمراء حواليه، والمماليك واقفين صفوف، كل واحد باسمه ويستلم شهادته، شهادة إعتاقه، أوعتاقه. وبعدها يستلم كسوة الفارس الجديدة، وياخد سلاحه، و فرسه، وكمان إقطاع يعيش منه طول عمره، ويبقى اسمه عِتيق أو معتوق. ويفضل اللي اعتقه اسمه أستاذه - اللي هو السلطان - أما اللي اتعتقوا معاه، فدول يبقوا "خشداشيته"، أخواته من المماليك اللي عاش معاهم في طباق قلعة الروضة.

بعد كده يقسموهم مجموعات، كل مجموعة لها باش أو نقيب، وبعدين يبدأ كل واحد يطلع في السلم الوظيفي، زي ما شرحنا، يبدأ من وظيفة صغيرة، لحد الإمارة، والفروّد فيهم كان ممكن يوصل للسلطنة.

طيب مسألتش نفسك قبل كده المماليك كانوا بيتكلموا ازاي، بأنهي لغة؟. المماليك لغتهم الأصلية كانت التركية، مخلوطة بفارسية، وعربية، خليط كدة عجيب. بس المفاجأة إن كتير من سلاطين المماليك فيما بعد، وصلوا للسلطة وهما مش بيعرفوا عربي كويس. وبالرغم من كده، كان ليهم هيبة، والسمع والطاعة. وبرضه في مماليك تانيين أتقنوا العربية لدرجة إنهم بقوا فقهاء، عندهم مسائل صعبة يرجع لهم فيها العلماء.

لو فيه حاجة كانت بتشد المماليك لبعض، وتخليهم كتلة واحدة ما تتفكش، فهي رابطة الأستاذية. الرابطة اللي بين الأستاذ - في حالتنا هنا هو "السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب" - وبين المماليك اللي كبروا على إيده، دي كانت رابطة أقوى من رابطةالدم. الأستاذ مش مجرد مالك، ده كان الأب، والمربي، والمعلّم، واللي كان يقعد ياكل معاهم على نفس السفرة، ويسهر معاهم، ويضحك، ويشد، ويربّي، عشان يعرف كل واحد فيهم كويس، ويضمن ولاءه، ويكونوا بالنسباله سيف ودرع وحياة. كانت علاقة الاستاذ بالمملوك علاقة طردية، واجب الأستاذ يعتني، ويحتوي، ويكسيهم،و يديهم الأمان، ويربّي. فبالتالي واجب المملوك يحمي، يفدي، يحرس عرش أستاذه، ويدافع عن بيته وأولاده بروحه. ومن هنا، بقت كل مجموعة مماليك ليهم نَسَب جديد، نسبة للأستاذ اللي اشتراهم، فتلاقي، الظاهرية = مماليك الظاهر بيبرس، المعزية = مماليك المعز أيبك، الصالحية = مماليك الصالح أيوب، وهكذا. الاسم كان شرف، وكان كمان إعلان ولاء.

فيه كمان رابطة تانية مهمة ومتينة، وهي رابطة الخشداشية، يعني الزمالة. دول المماليك اللي عاشوا نفس الظروف، وعاشوا نفس الحياة. اتخطفوا صغار، واتباعوا واتهانوا في سوق العبيد، واتربوا مع بعض في معسكرات مقفولة. عاشوا سنين طفولتهم وشبابهم مع بعض، أكل واحد، نومة واحد، صراخ التدريب، وجع السلاح، خوف الليل، شدة المدرّبين. فكان طبيعي جدًا، إن الواحد ما يلاقيش أمان إلا مع اللي زيه. وده خلق بينهم رباط، أقوى من رابطة الأخوة البيولوجية.

رابطة الخشداشية دي، اتحوّلت لسلاح ذو حدّين. من ناحية، خلّت المماليك قوة عسكرية مرعبة، كتلة واحدة تتحرك كأنها جيش واحد بقلب واحد. لكن من ناحية تانية، هي اللي ولّعت صراعات الدم بين الأمراء. كل مجموعة عايزة أستاذها يوصل للسلطنة، وكل خشداشة تشد من ناحية، فبقت طريق الحكم مفروش بصراع، وغالبا بالدم.

المماليك كان عندهم قاعدة مهمة جدا، محدّش يمسك إمارة إلا لما يبقى جاهز قوي، دينًا وأدبًا وعلمًا وسيفًا، واللي يتعدى على أحقية خشداشيته فهو خاين ويستحق الموت. والقاعدة دي هي السبب في صراع "أقطاي" و"أيبك" فيما بعد، وهي برده الرئيسي والحقيقي  لموت "قطز" على ايد "بيبرس"، لأن "أقطاي" كان هو الأجدر والأحق، وكذلك "بيبرس"، وده هنشرحه بالتفصيل في وقته، وتقدر تقراه في كتابي "أسد المماليك".

وفي الآخر نقدر نقول إن تربية المماليك ماكنتش مجرد تدريب عسكري وخلاص، دي كانت مصنع رجال بمعنى الكلمة. من أول ما كانوا بيشتروهم أطفال ويتربّوا في الطباق وسط نظام صارم، لأكلهم وشربهم وتعليمهم وترتيب يومهم، لحد ما يعتقوا ويتسلّموا سلاحهم وفرسهم… النظام ده هو اللي صاغ فرسان زي "قطز" الصَّدُّ الأَخِيرُ.

(يتبع)
مروة طلعت
27/ 11 / 2025 
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
#الصَّدُّ_الأَخِيرُ
#سيف_الدين_قطز
#عين_جالوت
المصادر:
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ج6 و ج7 - ابن تغري بردي.
قيام دولة المماليك الأولى في مصر والشام - أبو الفدا.
السلوك لمعرفة دول الملوك - المقريزي ج1.
مفرج الكروب في أخبار بني أيوب ج2 - ابن واصل.
مسالك الأبصار في ممالك الأمصار - ممالك مصر والشام - ابن واصل.
سير أعلام النبلاء الطبقة 34 - الامام الذهبي.
حسن المحاضرة في أخبار ملوك مصر والقاهرة - القلقشندي.
الدرة الزكية في أخبار الدولة التركية - ابن أيبك الداواداري.
السلطان المظفر سيف الدين قطز بطل معركة عين جالوت - د/ قاسم عبده قاسم.
السلطان سيف الدين قطز ومعركة عين جالوت - علي محمد الصلابي.
الأيوبيون والمماليك - د/ قاسم عبده قاسم.
مصر في عهد بناة القاهرة - إبراهيم شعوط.
عصر سلاطين المماليك - أ.د/ عطية القوصي.
المغول وعالم الإسلام - أ.د/ صبري عبد اللطيف سليم.
الحلقة الأولى
https://www.facebook.com/share/p/1JBArrBkeQ/
الحلقة الثانية
https://www.facebook.com/share/p/1K5LgdgDeT/
الحلقة الثالثة
https://www.facebook.com/share/p/17RLfrVUPe/
الحلقة الرابعة
https://www.facebook.com/share/p/14NhEcbjNX4/
الحلقة الخامسة 
https://www.facebook.com/share/p/17cfVTo4hB/


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الليث بن سعد 5

الدكتور نجيب محفوظ باشا

لاشين، لوسيفر شيرين هنائي