الصَّدُّ الأَخِيرُ سيف الدين قطز 6
نيجي بقى للمرحلة التالتة، المرحلة اللي فيها المواهب العسكرية تظهر، والكفاءات تلمع زي السيف المصقول. هنا بقى خلاص المملوك ما بقاش طفل، ولا مجرد شاب بيتعلم، هنا مرحلة إثبات النفس. في المرحلة دي كانوا يعقدوا مبارزات بين المماليك، فارس ضد فارس، نظام مسابقات كده عشان يفرزوا مين فيهم الأصلح، والأقوى، والأشجع، والأذكى، ومين اللي عنده ثبات انفعالي تحت ضغط المعركة، واللي يثبت نفسه في المبارزات، ينزل بعدها على ميادين القتال الحقيقية. ومش كده وبس، ده كمان اللي يلمع اسمه في ميدان القتال، ويقف في وش العدو بجسارة ويكون له بصمة في المعركة، ده كان جايزته عظيمة، الحرية، عتق الرقّ، يبقى حر رسمي، وبصك بخط ايد السلطان.
لكن مش كلهم كانوا يُعتقوا تلقائيًا، فيه اللي كان يفضل في الرقّ لكنه يمسك مناصب كبيرة،
زي اللي اشتراهم سلطان العلماء "العز بن عبد السلام" لما لقاهم ماسكين مناصب وهما لسه مماليك. باعهم بيع شرعي قدّام الناس، وحط تمنهم في بيت مال المسلمين، وبعدها اعتقهم كلّهم، ممكن تقري حكايتهم بالتفصيل في كتابي "حدوتة مصرية".
سواء تم العتق أو بدونه، يتعيّن المملوك في وظيفة عسكرية صغيرة، ويفضل يرتقي، ويترقى، لحد ما ياخد لقب أمير، وبعضهم كان بيترقى لحد ما يوصل لأعلى منصب في الدولة، السلطنة نفسها.
ده كان بالنسبة لمراحل أعداد فرسان المماليك، لكن خلينا نشوفهم في المراحل دي بشكل أدق عن حياتهم اليومية وتعليمهم ولغتهم وتدريبهم. المملوك كان من أول ما يدخل الطباق في قلعة الروضة، لحد ما يطلع منها عتيق، مكنش مسموح له يخرج من الدور بتاعه وخاصة بالليل. حتى الحمّام - بمعنى الاستحمام لأنهم زمان الحمامات بتبقى عمومية مش في البيوت - ما يروحوش غير مرّة في الأسبوع، والموضوع ده جزء من النظام.
وكان أكلهم محسوب بدقة، لازم ياكلوا في الاسبوع، لحمة، وفواكه، وحلويات، وفول نابت مسلوق، أكل كتير صحي ومتنوع، علشان الجسم يبقى سليم، والعقل صاحي، والعضلات تتبني صح.
وكانوا كمان بياخدوا مرتب صغير، حاجة كدة زي المصروف للأنهم مش محتاجين الفلوس في حاجة أكلهم وشربهم وكسوتهم على السلطان، كانوا بيصرفولهم ٣ دنانير أو١٠ دنانير في الشهر، بالرغم من إنهم لسه بيتعلموا.
وكان السلطان "الملك الصالح نجم الدين أيوب" بنفسه، يطلعلهم فوق في الطباق يلف عليهم واحد واحد يشوفهم، يتأكد من جودة أكلهم، ويتأكد من نظافتهم، كأنهم ولاده مش جنوده. وكمان كان عامل لنفسه غرفه وسطهم، وأيام كتيرة كان بيروح روضة المنيل، يبات فيها وسطهم ومعاهم. بالذمة بعد ده كله مش عاوز يكون ليه الولاء التام منهم، دول يفدوه بالروح، ويحموه برموش عينيهم.
لما المماليك يخلّصوا تعليمهم، كان السلطان بيعملهم حفل تخرج، ومسميه "يوم الاعتاق"، كان بيبقى يوم فرح وسرور، حفلة معتبرة، اعتاق بالجملة. السلطان حاضر بنفسه، والأمراء حواليه، والمماليك واقفين صفوف، كل واحد باسمه ويستلم شهادته، شهادة إعتاقه، أوعتاقه. وبعدها يستلم كسوة الفارس الجديدة، وياخد سلاحه، و فرسه، وكمان إقطاع يعيش منه طول عمره، ويبقى اسمه عِتيق أو معتوق. ويفضل اللي اعتقه اسمه أستاذه - اللي هو السلطان - أما اللي اتعتقوا معاه، فدول يبقوا "خشداشيته"، أخواته من المماليك اللي عاش معاهم في طباق قلعة الروضة.
بعد كده يقسموهم مجموعات، كل مجموعة لها باش أو نقيب، وبعدين يبدأ كل واحد يطلع في السلم الوظيفي، زي ما شرحنا، يبدأ من وظيفة صغيرة، لحد الإمارة، والفروّد فيهم كان ممكن يوصل للسلطنة.
طيب مسألتش نفسك قبل كده المماليك كانوا بيتكلموا ازاي، بأنهي لغة؟. المماليك لغتهم الأصلية كانت التركية، مخلوطة بفارسية، وعربية، خليط كدة عجيب. بس المفاجأة إن كتير من سلاطين المماليك فيما بعد، وصلوا للسلطة وهما مش بيعرفوا عربي كويس. وبالرغم من كده، كان ليهم هيبة، والسمع والطاعة. وبرضه في مماليك تانيين أتقنوا العربية لدرجة إنهم بقوا فقهاء، عندهم مسائل صعبة يرجع لهم فيها العلماء.
لو فيه حاجة كانت بتشد المماليك لبعض، وتخليهم كتلة واحدة ما تتفكش، فهي رابطة الأستاذية. الرابطة اللي بين الأستاذ - في حالتنا هنا هو "السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب" - وبين المماليك اللي كبروا على إيده، دي كانت رابطة أقوى من رابطةالدم. الأستاذ مش مجرد مالك، ده كان الأب، والمربي، والمعلّم، واللي كان يقعد ياكل معاهم على نفس السفرة، ويسهر معاهم، ويضحك، ويشد، ويربّي، عشان يعرف كل واحد فيهم كويس، ويضمن ولاءه، ويكونوا بالنسباله سيف ودرع وحياة. كانت علاقة الاستاذ بالمملوك علاقة طردية، واجب الأستاذ يعتني، ويحتوي، ويكسيهم،و يديهم الأمان، ويربّي. فبالتالي واجب المملوك يحمي، يفدي، يحرس عرش أستاذه، ويدافع عن بيته وأولاده بروحه. ومن هنا، بقت كل مجموعة مماليك ليهم نَسَب جديد، نسبة للأستاذ اللي اشتراهم، فتلاقي، الظاهرية = مماليك الظاهر بيبرس، المعزية = مماليك المعز أيبك، الصالحية = مماليك الصالح أيوب، وهكذا. الاسم كان شرف، وكان كمان إعلان ولاء.
فيه كمان رابطة تانية مهمة ومتينة، وهي رابطة الخشداشية، يعني الزمالة. دول المماليك اللي عاشوا نفس الظروف، وعاشوا نفس الحياة. اتخطفوا صغار، واتباعوا واتهانوا في سوق العبيد، واتربوا مع بعض في معسكرات مقفولة. عاشوا سنين طفولتهم وشبابهم مع بعض، أكل واحد، نومة واحد، صراخ التدريب، وجع السلاح، خوف الليل، شدة المدرّبين. فكان طبيعي جدًا، إن الواحد ما يلاقيش أمان إلا مع اللي زيه. وده خلق بينهم رباط، أقوى من رابطة الأخوة البيولوجية.
رابطة الخشداشية دي، اتحوّلت لسلاح ذو حدّين. من ناحية، خلّت المماليك قوة عسكرية مرعبة، كتلة واحدة تتحرك كأنها جيش واحد بقلب واحد. لكن من ناحية تانية، هي اللي ولّعت صراعات الدم بين الأمراء. كل مجموعة عايزة أستاذها يوصل للسلطنة، وكل خشداشة تشد من ناحية، فبقت طريق الحكم مفروش بصراع، وغالبا بالدم.
المماليك كان عندهم قاعدة مهمة جدا، محدّش يمسك إمارة إلا لما يبقى جاهز قوي، دينًا وأدبًا وعلمًا وسيفًا، واللي يتعدى على أحقية خشداشيته فهو خاين ويستحق الموت. والقاعدة دي هي السبب في صراع "أقطاي" و"أيبك" فيما بعد، وهي برده الرئيسي والحقيقي لموت "قطز" على ايد "بيبرس"، لأن "أقطاي" كان هو الأجدر والأحق، وكذلك "بيبرس"، وده هنشرحه بالتفصيل في وقته، وتقدر تقراه في كتابي "أسد المماليك".
وفي الآخر نقدر نقول إن تربية المماليك ماكنتش مجرد تدريب عسكري وخلاص، دي كانت مصنع رجال بمعنى الكلمة. من أول ما كانوا بيشتروهم أطفال ويتربّوا في الطباق وسط نظام صارم، لأكلهم وشربهم وتعليمهم وترتيب يومهم، لحد ما يعتقوا ويتسلّموا سلاحهم وفرسهم… النظام ده هو اللي صاغ فرسان زي "قطز" الصَّدُّ الأَخِيرُ.
تعليقات
إرسال تعليق