الصَّدُّ الأَخِيرُ سيف الدين قطز 5
(5) صُنّاع العروش... كيف وُلدت دولة المماليك
قبل ما يبقى اسم “المماليك” علامة في تاريخ مصر، الكلمة نفسها كانت بتوصف العبيد، اتشروا واتباعوا عشان يتربوا لخدمة أغراض معينة في المجتمعات القديمة.
أول من فكر في الدولة الإسلامية يستخدم العبيد في الجندية كانوا الأمويين، هو "نصر بن سيار"، والي خراسان، اشترى ألف مملوك من الترك، علمهم يمسكوا سلاح، وركوب الخيل، وبدأ يكوّن منهم قوة عسكرية يعتمد عليها.
وأصل الحكاية إن بلاد ما وراء النهر كانت هي المصدر الكبير للمماليك الأتراك - زي ما شرحنا في الجزء الرابع - ومع الوقت، خصوصًا في العصر العباسي، بدأ استخدام الأتراك يزيد ويتنوّع، يعني شوية في الجيش، وشوية في وظائف الدولة، وشوية في أسواق النخاسة (العبيد/المماليك) اللي اتسعت جدًا. وكانت أسواق النخاسة مليانة بالعبيد الجايين من أماكن كتيرة، زي القرم، القوقاز، القفجاق، آسيا الصغرى، تركستان، وبعض بلاد أوروبا، منهم الترك، والشراكسة، والروم، والأكراد.
لكن اللحظة الفارقة فعلا كانت مع الخليفة العباسي"المعتصم بن هارون الرشيد" (218هـ - 227هـ / 833م - 842م). الخليفة "المعتصم" بنى من المماليك جيش كامل، فرق ضخمة من الأتراك، لدرجة إنه شال الجنود العرب من ديوان الجند، واعتمد على المماليك بشكل كامل. عدد المماليك اللي كانوا عنده وصل لأكتر من عشر ألاف، وامتلأت بيهم بغداد لحد ما بقى وجودهم يضايق أهل المدينة، خناقات في الطرقات، احتكاكات، وزحمة مش طبيعية. ساعتها قرر الخليفة "المعتصم العباسي" أنه يبني لهم مدينة كاملة لوحدهم وتكون عاصمة الخلافة. مدينة (سَرّ مَن رأى) أو (سامرّاء)، مدينة مخصوص تبقى عاصمة لجيوشه التركية من المماليك، ومقر للجيش الجديد اللي راهن عليه.
طب ليه الخليفة "المعتصم" أختار الأتراك بالذات من المماليك؟. "المعتصم" كان شايف إنهم أبعد عن العصبيات اللي عند العرب، وأقل طموح من الفرس اللي كانوا عايزين لهم نفوذ واسع في الحكم من بداية عهد أبوه الخليفة "هارون الرشيد"، فقرر يعتمد على ناس يقدر يشكّلهم على مزاجه، يشتريهم صغار، ويربيهم على الولاء والطاعة، ويبقى جيش كامل ولاؤه معاه. لكن ما فاتش وقت كبير، إلا والمماليك اللي اتربّوا على الطاعة والولاء بقى ليهم صوت وقرار.
شوية شوية، بقوا بيتدخلوا في كل حاجة، لحد ما الدولة نفسها بقت في إيدهم، يتصرفوا فيها زي ما يحبوا، وده كان في العصر العباسي التاني المشهور بأسم عصر الضعف. ومن يوم ما اتقتل الخليفة العباسي "المتوكل" سنة 247هـ / 861م، والخليفة اللي بعده بقى عامل زي الأسير، لو حبوا يخلعوه يشيلوه ببساطة، ولو حبوا يموتوه يعملوها من غير ما يرجعوا لحد عادي. ممكن تراجع الكلام ده وبمزيد من التفاصيل في سلسلة "أحمد بن طولون".
وبكدة اتحول المماليك من قوة تحمي الخلفاء، لقوة متمردة عليهم، والإدارة اتلخبطت، والحكم باظ، والولايات اللي حوالين بغداد قامت فيها ثورات ومحدش بقى طايق سطوتهم من الامراء والرعية. وطبيعي جدا ما دام الجيش والقادة بقوا أتراك، يبقى نفوذهم يزيد ويكبر كل يوم أكتر. وكل ما ضعف سلطان الخلافة، كل ما طمعت ولاة أطراف الدولة الاسلامية إنهم يستقلّوا ببلادهم. ورغم سطوة المماليك على الخلافة العباسية، الا أن الخلفاء مالاقوش قدّامهم غير المماليك الأتراك يسندوهم، فبقوا هم الذراع اللي يضربوا بيها أي حركة استقلالية، زي الطولونيين والأخشيديين في مصر، والصفاريين والسامانيين في خراسان، والغزنويين والغوريين في الهند.
وبعدين دخل الأتراك السلاجقة المسرح السياسي بقوة. السلاجقة كانوا جايين من قلب آسيا الوسطى، من بلاد التركمان حوالين بحر آرال. وبعدين وسّعوا دولتهم لحد ما بقوا مسيطرين على خراسان وما وراء النهر (أفغانستان وأوزبكستان دلوقتي)، إيران كلها تقريبا، والأناضول لحد ما وصلوا لتركيا الحالية وأسّسوا فيها دولة سلاجقة الروم. يعني دولتهم كانت من قلب آسيا لحد أبواب أوروبا، دولة طويلة عريضة مليانة مدن وتجّار وجيوش. وبما أن السلاجقة أصلا من نفس العنصر التركي، فطبيعي يعتمدوا هم كمان على المماليك الأتراك. وهنا يظهر واحد من أهم العقول السياسية في التاريخ الإسلامي، "نِظَام المُلك"، الوزير الكبير للسلاطين السلاجقة "ألب أرسلان وملكشاه". تقدر تعرف عنه اكتر لو قريت سلسلة الحشاشين.
"نِظام المُلك" ماكنش بس وزير، ده كان مؤسس نظام تربوي كامل خاص للمماليك. وفي كتابه الشهير (سياست نامه) يعني كتاب السياسة، شرح إزاي طريقة التعامل مع المماليك، نقدر نختصر منها أنه ما يتقلّش عليهم في الخدمة، ما يتعرضوش للظلم، يتعلّموا يجتمعوا بسرعة ويفترقوا بسرعة، وكل واحد يعرف دوره ايه، صاحب الماء، صاحب السلاح، الساقي، وكل خدم الحجاب والأمراء. وكان للسلطان السلجوقي مماليك صغار، عليهم رقباء من الغلمان الخاص، ونقباء من جنسهم ينظّموا شؤونهم.
و"نظام الملك" كان أشد الناس تمسكًا بالمماليك، أحاط نفسه بجيش كامل منهم اتسمّى بـ المماليك النظامية على أسمه. وهو اللي غيّر نظام الرواتب للجند، قبل كده الجندي بياخد مرتّبه فلوس عادي، لكن "نظام الملك" أدالهم بدل الفلوي إقطاعيات، يعني أرض يعيش منها ويزرعها. وبكده الدولة وفّرت الفلوس، والأرض اتعمّرت، والمماليك ضمنوا دخل ثابت وقوة مستقرة.
المماليك اللي أثبتوا كفاءة واترقوا بمرتبة القادة اتسمّوا وقتها بالأتابكة، واللطيف بقى إن أول واحد اتلقّب بلقب أتابك كان الوزير العبقري "نظام الملك" ذات نفسه. السلطان "ملكشاه" إدّاله اللقب سنة 465هـ /1064م لما سلّمه مفاتيح الدولة وقال له: “دبّر… وأنت أهل للتدبير.”
ومن بعدها السلاجقة خَدّوا الفكرة وبدأوا يختاروا من كبار المماليك، ناس يبقوا مربّين لأولادهم في القصر. مش مربّين بمعنى التربية العادية، دول كانوا أصحاب سلطة، ليهم إقطاعيات كبيرة، وعليهم في المقابل يرعوا الأمير الصغير، ويجهزوا للحرب وقت ما تدقّ طبولها، ويمسكوا أطراف الدولة بإيد من حديد.
لكن - كالعادة البحر بيحب الزيادة - القوة لما تكبر بتطلب أكتر. ومع تفكك الدولة السلجوقية، الأتابكة اللي كانوا “رعاة” ولاد السلاطين، بقوا هما نفسهم السلاطين!
استقلوا بالمدن اللي تحت إيديهم واحدة ورا التانية… وتكوّنت دول كاملة اتسمّت بدويلات الأتابكة.
وأقوى الأتابكة على الإطلاق كان "عماد الدين زنكي"، قدر يحكم الموصل وحلب وديار ربيعة، وبنى لنفسه دولة الزنكية القوية. وبعد ما توفى، مسك الحكم ابنه وأصبح السلطان العظيم "نور الدين محمود". "نور الدين" وسّع دولته، وضَم دمشق، ووجّه ضربة قاضية للدولة الفاطمية، لدرجة إن مصر نفسها دخلت تحت رايته، بمساعدة قائد جيوشه "أسد الدين شيركوه" وابن أخوه "صلاح الدين الايوبي". و"نور الدين محمود" برده كان بيعتمد على المماليك الأتراك اعتماد رهيب، اشتراهم بكميات كبيرة، لحد ما بقوا العمود الفقري لجيشه.
وبعد الزنكيين، جِه الأيوبيين على ايد "صلاح الدين الأيوبي". وبرضه اعتمدوا على المماليك الأتراك بشكل واسع. والجيش اللي دخل مصر مع "أسد الدين شيركوه" كان أغلبه من المماليك والتابعين ل"نور الدين محمود".
وهنا بقى ظهرت أسماء جديدة لفِرَق المماليك، زي مماليك صلاح الدين اتسمّوا الصلاحية، ومماليك أسد الدين شيركوه اتقال عليهم الأسدية، ولما جه الملك العادل أخو صلاح الدين، ظهروا العادلية. وبعد وفاة الملك العادل، ولاده الأشرف وموسى والعادل والكامل… كل واحد فيهم كان له مماليكه الخاصة، واتسمّوا الأشرفية، الكاملية… وهكذا.
وبكده المماليك في العالم الإسلامي ماكانوش مجرد “جنود”، دول كانوا نُظُم سياسية كاملة، بيتكوّن منها جيوش ودول وسلالات حاكمة. واللي جاي بعد كده — في مصر خصوصًا — هيبقى أعظم فصل في حكايتهم.
ومن هنا نخش على فصل مهم جدا في الحكاية، بمعنى أدق هو أهم فصل في حياة المماليك الطويلة على الاطلاق. فصل "الملك الصالح نجم الدين أيوب". الملك الصالح كان عارف إن الزمن بيتغيّر، وإن الدولة الأيوبية بقت محتاجة جيش جديد، دم جديد، ناشف، وشدة، وطاعة، وقوة تتحمل اللي جاى. فابتدى يعمل تشكيلات عسكرية ماحصلتش قبل كده في عهد الأيوبيين.
أول خطوة عملها، فتح باب شراء المماليك الأتراك على البحري، مش عشرة ولا مية، ده جاب أكتر من ألف مملوك تركي في المرة الواحدة على دفعة واحدة. جابهم من تركستان، وخوارزم (المكان اللي إتجاب منه قطز) ،وشمال البحر الأسود، وبحر قزوين، أي مكان فيه شباب أتراك شداد، كان يجيب منه.
يقول "ابن تغري بردي" عن "ابن واصل" مؤرخ الايوبيين: "اشترى من المماليك الترك ما لم يشتره أحد من أهل بيته حتى صاروا معظم عسكره وأرجحهم على الأكراد وأمرهم"
وبكده بقى العنصر التركي هو الأغلبية الساحقة في جيش الملك الصالح، ومش بس أغلبية، دول تحولوا بسرعة لنواة سياسية وعسكرية نشيطة، بعد ما لمس بنفسه غدر الطوائف التانية من الجند المرتزقة. والعنصر التركي من المماليك دول هم نفسهم اللي بعد وفاة الملك الصالح بسنين قليلة هتعمل انقلاب في تاريخ مصر، وتبقى الدولة اللي كلنا عارفينها بدولة المماليك البحرية.
ومع ظهورهم، بدأت العناصر القديمة اللي كانت في الجيش الأيوبي — زي البربر والسودان وغيرهم — تختفي تدريجيًا، لأن المماليك الجداد كانوا همّ اللي واخدين ثقة السلطان بالكامل. ومن أهم مظاهر التطوير اللي عملها الملك الصالح، تكوين فرقة المماليك الصالحية القوة العسكرية الجديدة اللي كلهم أتراك، واتسمّوا كده نسبة "للملك الصالح"، وبعدين بقوا معروفين أكتر باسم المماليك البحَرِيّة.
وهنا بقى يجي السؤال المهم، ليه اسمهم “البحرية”؟
السبب بسيط… "الملك الصالح" اختار جزيرة الروضة على النيل تكون مركز ومعسكر لهم. وجاب البنّائين والمهندسين وابتدى يبني هناك قلعة ضخمة، قلعة الجزيرة أو قلعة الروضة. وبناء القلعة دي كان مشروع ضخم، عشناها هَدّ بيوت وقصور ومساجد كانت في الجزيرة، وضمّها كلها داخل نطاق القلعة، وبنى حوالي ستين برج، وزرع فيها شجر من كل الأنواع، وجَهّزها بالسلاح، ومخازن الغلال، وكل ما يلزمه جيش كبير. والأهم، إن "الملك الصالح" بنفسه كان واقف يراجع الشغل، يأمُر، ويوجّه، ويهتم بكل تفصيلة.
ده غير إن أغلب البحرية دول كانوا من الأتراك القفجاق - اللي منهم كان بيبرس البندقداري - المشهورين بالجمال وقوة البدن والشجاعة النادرة، وكان ولاؤهم ل"الملك الصالح" ولاء أعمى، وده خلّاهم ياخدوا رتب عالية جدًا في الجيش.
ومن وسط الصفوف دي، كان أبرز المماليك البحرية، مقدّم البحرية "ركن الدين بيبرس البندقداري"، اللي كان ليه دور كبير في تثبيت الملك الصالح على العرش، وبعدين بقى بطل معارك ضد الصليبيين، خصوصا في معركة المنصورة اللي قلبت موازين التاريخ. وليه دور مهم وبارز جدا في حياة "سيف الدين قطز"، وهو الرجل التاني بعد "قطز" في المواجهة الفاصلة ضد المغول في معركة المصير "عين جالوت".
(يتبع)
مروة طلعت
.png)
تعليقات
إرسال تعليق