الصَّدُّ الأَخِيرُ سيف الدين قطز 3
قبل ما نبدأ كلام عن المغول، لازم نرجع للوراء، لحد سهول آسيا المفتوحة، المكان البارد القارس، شديد القسوة، فخلق رجال قلوبهم أقسى من الحجارة أو أشد قسوة.
"يسوغي بن خابول خان" زعيم أسرة بورجيقن الأسرة الحاكمة لعشيرة قيات المغولية، كان في حرب مع قبيلة من قبائل التتار، وقتل زعيمهم "تيموجين"، وده كان مابين سنة 1155 و1162م. أصل المغول في الوقت ده كانوا قبائل كتيرة متفرقة، وبما أن الجو برد وصقيع، فكانوا بيدفوا نفسهم بالحركة، ماهي الحركة بركة، وأحلى رياضة ليهم كانت القتل وسفك الدماء، فكانوا بيدفوا نفسهم في القتال، بيقاتلوا مين، بيقاتلوا بعضهم طبعا. القبائل المغولية تهجم على القبائل التترية، والتترية تهجم على القبائل التركية اللي ساكنين جنبهم وهكذا، نشاط اجتماعي.
ملحوظة: نتيجة الحروب القبلية دي، كانت حرب قبائل المغول لقبائل القفجاق التركية، واللي أدت لسبي "بيبرس البندقداري" وهو صغير وبيعه كعبد. راجع كتاب أسد المماليك.
"يسوغي" بعد ما خلص معركته، رجع منتصر لبلده ديليون بولدوغ جنب جبل برخان خلدون ونهر أونون كارولين في منغوليا. لما وصل فوجئ بمراته اللي كان سايبها حامل، ولدت ولد. فرح "يسوغي" بالخبر، وشال ابنه بين ايديه، فلاحظ أن المولود قابض على حاجة في كف ايده، ولما فتحها اكتشف انه كان قابض على كتلة دم متجلطة. ورغم أن المولود ده هو الابن التالت ل"يسوغي"، لكنه بسبب الدم المتجلط اللي كان في كف ايده، أصبح الابن المفضل له، لأنها بالنسبة لهم كانت علامة أنه هيصبح قائد ذو شأن.
"يسوغي" سمى مولوده "تيموجين" على أسم زعيم القبيلة اللي انتصر عليها، و"تيموجين" معناها "الصلب الخالص". لكن لما كبر "تيموجين" وحقق نبوءة أبوه، وأصبح قائد مهاب، وقدر يركع كل القبائل المغولية والتترية تحت سيطرته، بالحروب والقتال الدامي المستمر، ووحدها، غَيّر أسمه وسمى نفسه "جنكيز خان" يعني "ملك ملوك العالم".
عجبتكوا الحدوتة، أحب بس أوضح أن حكاية النبوءة والميلاد دي غالبا أسطورة، مش حقيقية، مفيش أي مصادر بيها غير كتاب "التاريخ السري للمغول"، ودي مخطوطة كتبها المغول نفسهم وفيها تمجيد لأبوهم الروحي "جنكيز خان". لو بتتفرج على أفلام هندي هتحس أن فيلم "باهوبالي" واخد نفس التيمة الأسطورية، ماهم نفس الثقافة الأسيوية.
المغول كانوا زي أي بدو في الدنيا، بدو عايشين في التلج مش في الصحرا، عاشوا عيشة صعبة قوي متوافقة مع البيئة بتاعتهم في هضبة منغوليا القاسية. حياتهم في الداخل كانت صدى لحياة البادية، ومن هنا جت قوتهم. لكن المشكلة لما طلعوا يغزوا العالم، ماسابوش خصائص بيئتهم دي وراهم، خدوها معاهم في الغزو وبعد الغزو. عشان كده، لما يدخلوا على أي بلد حضاري، وهم جهلة همج، كان الصدام بتاعهم مُروّع ودموي، لأنه صدام بين الوحشية المنظمة والتحضر الغافل. عُمر الشرق والغرب ما شافوا مصيبة زي دي قبل كده.
السر اللي خلى الغزو الخارجي ينجح مش بس في إنهم مقاتلين وبيعرفوا يركبوا الخيل ويلعبوا بالسيوف كويس، السر كان في النظام العسكري بتاعهم اللي كان قوي لدرجة لا تُضاهى ولا يُعقل إنه يكون موجود. بس مع كل القوة دي، كان نسيجهم الاجتماعي بيعاني كتير من النقص والتخلف، مجرد قبائل بتتخانق مع بعضها طول الوقت.
لما ظهر "جنكيز خان" (أبوهم الأعظم) بعبقرية محدش يتخيلها، قال: "أنا هعالج النقص ده، وهخليهم قوة واحدة". فاعتمد على علاج المشكلة دي على 3 محاور أشتغل عليهم مع بعض: أول حاجة إنه فضّ المنازعات القبلية القديمة بين الناس اللي بتطيعه، ومبقاش فيه مجال للتنازع الداخلي نهائي. وتاني حاجة، ما استكبرش وقرر أنه يستفيد من خبرة اللي الناس اللي أحسن منهم، فاستعان بخبرات الناس المتحضرة اللي غزاها، بالذات المستشارين اللي جابهم من الصين والأويغور وكمان من المسلمين. ثالث حاجة والأهم، أجبر كل الناس اللي تحت إيده إنهم يلتزموا بقوانين صارمة سماها "اليَاسَا"، ودي قوانين صارمة ثابتة مفيهاش هزار ولا لف ودوران، واللي يخالفها جزاؤه القتل.
ملحوظة: في عهد "بيبرس البندقداري" لما تحالف مع بعض القبائل التتارية، وجم منهم مسلمين وعاشوا في القاهرة، واشتركوا في جيش المسلمين، أصروا برده رغم اسلامهم وولاءهم أن ميطبقش عليهم أي قوانين غير قوانين الياسا في أي خلافات بينهم وبين بعضهم. تقدر تراجع كتاب أسد المماليك.
نجح "جنكيز خان" نجاح كبير بعد صراع ومكايدات ومتاعب، في إنه يجمع القبائل دي حواليه؛ لأن القبائل المغولية والتركية اللي خضعت له أيْقَنِت إن طاعة "جنكيز خان" تحت الراية دي أحسن مليون مرة من إنهم يتشاحنوا ويتخانقوا أو يعصوه. ومن هنا، خرجت هذه الجموع تحت رايته ناحية الشعوب المجاورة، وهو قدَر إنه يسيطر عليهم سيطرة عجيبة، يكبَح جماحهم، ويمنعهم من إنهم يتخانقوا مع بعض، ويوجه كل طاقتهم دي لأعدائه أو على اللي لسه ما خضعش لِحكمه.
في سنة 616 هـ / 1219م، كانت أمبراطورية المغول وأتسعت من أول شواطئ بلاد الصين في الشرق لحد حدود الدولة الخوارزمية. الخوارزميون أصلهم من الأتراك وكانوا بارعين في الفروسية، وقوتهم ابتدت تكبر من سنة ٤٧٧هـ على أنقاض دولة السلاجقة. في عهد السلطان "علاء الدين محمد بن خوارزم شاه تكش" وصلت الدولة لأقصى نفوذ ليها، أملاكهم امتدت من بلاد ما وراء النهر (بخارى وسمرقند) لحد شرق خراسان وأفغانستان، وكمان سيطروا على أجزاء من إيران. كانت القوة دي عظيمة لدرجة إنها وصلت للحدود اللي كانت بتحكمها الدولة العباسية قبل كده. السلطان "علاء الدين محمد" كان شايف نفسه ملك الأرض لدرجة إنه قرر يخلع الخليفة العباسي نفسه، ويجيب واحد تاني غيره!
لكن كان فيه تسوس في أساس الدولة الخوارزمية، وده اللي خلاها تنهار بسرعة وده بسبب أن الخليفة العباسي في بغداد، "الناصر لدين الله"، مكنش ليه حماية حقيقية للمسلمين، وده سهّل على الطامعين إنهم يعملوا فتن. "علاء الدين محمد" كان شايف الخليفة العباسي عدوه اللدود، وكان عايز يخلعه، وده عمل فتنة وانقسام في وقت كان لازم فيه يتحدوا. لما المغول بدأوا يضغطوا على الحدود الشرقية في سنة 612هـ /1215م، بدل ما السلطان "علاء الدين محمد" يجمع جيشه، بدأ يوزع قواه وإضعاف حاشيته القوية، وده عمل ضغط رهيب على حدود الدولة الخوارزمية الضعيفة. "علاء الدين محمد" مكنش فاهم ولا مقدر مدى قوة "جنكيز خان"، كان بيعتبر المغول مجرد قبائل سهلة، فتصرف بغرور ورفض يتخلص منهم في وقت مبكر.
كان أول صدام حقيقي بين السلطان "علاء الدين محمد خوارزم شاه" والمغول بسبب حادثة حصلت بسبب التحفز والتوتر اللي مابينهم. المشكلة بدأت لما أمر السلطان "علاء الدين محمد" بإعتقال قافلة تجارية كبيرة جاية من بلاد المغول، وكان فيها حوالي 450 تاجر، أفتكروهم أنهم جواسيس. السلطان عمل فيهم إيه؟ قتلهم كلهم!. لما وصل الخبر ده ل"جنكيز خان"، الغريب أنه متصرفش بعنف في الأول، وبعت رسالة بضبط نفس بيطلب فيها إن السلطان يسلّم المسؤول عن قتل التجار دول عشان يتقتل قصاصاً. لكن "علاء الدين محمد"، الغرور قوى قلبه أوي، وأتمطع كده وأهان الرسول بتاع "جنكيز خان" وقتله. ومن اللحظة دي، سَيفُ الحرب صار واقعاً لا محالة، والمغول قرروا إنهم مش هيقفوا إلا لما يقتلوا السلطان نفسه.
السلطان "علاء الدين محمد" بدأ يستعد للحرب، فنصحه الشيخ "شهب الدين أبي سعد بن عمران الخيوقي الشافعي" وقاله: "في عساكرك كثرة، وتكاتب الأطراف وتجمع العساكر، ويكون النفير عاما، فإنه يجب على المسلمين كافة مساعدتك بالمال والنفس، ثم تذهب بجميع العساكر الى جانب نهر سيحون فتكون هناك فإذا جاء العدو، وقد أسفر مسافة بعيدة لقيناه ونحن مستريحون وهو وعساكره قد مسهم النصب والتعب". لكن السلطان "علاء الدين" مسمعش لنصيحة الناصح الأمين، وسمع لرأي الجهلة من حاشيته، اللي شاروا عليه وقالوله قسم جيشك على حاميات متفرقة ورا أسوار أترار وبخاري وسمر قند.
وفي سنة 617هـ / 1220م، دخل "جنكيز خان" بجيش المغول على مدينة أترار وخدوها ودمروها وسبوا وقتلوا أهلها بعد 3 أيام. مخدوش نَفَسهم وهم حاميين كده طلعوا على بخاري ودمروها وقتلوا أهلها وسبوا نسائها وأطفالها. ووراها سمر قند، أكبر مدن ما وراء النهر، ونفس اللي حصل في أترار وبخاري حصل في سمر قند. السلطان "علاء الدين محمد" لما جيشه انهزم مرتين، وشاف الرعب والهلع على ايد المغول، وسمع صريخ الأبرياء في المذابح الوحشية، خاف وهرب وأختفى تماما.
المغول مستخدموش القوة العسكرية بس، كانوا بيبعتوا رسائل تهديد مُبالغ فيها للسلطان، وفي نفس الوقت كانوا بيستخدموا الحيل والوعود الكاذبة عشان يخلوا الناس اللي في الأقاليم البعيدة تفكر إن الهروب أحسن من المقاومة، حرب نفسية وتدمير أعصاب.
وفي سنة 1221م، وصل المغول لخوارزم العاصمة وحاصروها، لكن السلطان الجديد "جلال الدين بن علاء الدين محمد بن خوارزم شاه" تصدى ليهم، وقاوم مقاومة شديدة، خلت المغول يفكوا الحصار وينسحبوا. مكتفاش "جلال الدين" بكده، ده طلع بجيشه ورا المغول وخاض معاهم حروب يحاول فيها يسترد المدن اللي احتلوها. لما اتهزمت جيوش الخوارزميين في الأول، المغول سابوا وراهم دمار شامل. ده خلّى محاولة "جلال الدين خوارزم شاه" إنه يعمل صدّ أخير صعبة جداً؛ لأن الجيش الخوارزمي اتهدّ حيله في مطاردة طويلة ما بين تركستان وجنوب روسيا.
في سنة 622 هـ / 1225م زاد الخلاف بين السلطان "جلال الدين خوارزم شاه" و الخليفة العباسي "الناصر لدين الله"، وأتطور الخلاف لدرجة خلت "جلال الدين" يقسم جيشه، نص يحارب المغول، ونص يهاجم أراضي الخليفة العباسي. وكان رد الخليفة الضعيف المتخاذل هو أنه بعت رسالة ل"جنكيز خان" يطلب منه المساعدة والتحالف ضد "جلال الدين خوارزم شاه". شوف الدماغ البرالانط، ع العموم هو عمل عملته ومات بعدها على طول.
فضلت الحرب سجال مابين "جنكيز خان" و "جلال الدين خوارزم شاه"، ومدينة ورا التانية تقع في ايد المغول، والمذابح تزكم الأنوف، والدماء مغرقة الأرض والجو، لحد اغسطس سنة 1227م، لما مات "جنكيز خان" زعيم المغول ومرشدهم وأبوهم الروحي..
في سنة 1230م كانت سنة نهاية الدولة الخوارزمية، دخل المغول مدينة خوارزم، وهرب السلطان "جلال الدين خوارزم شاه" بأهل بيته، وهرب الأمراء والوزراء والمستشارين، وطاردهم المغول في هروبهم، فاللي أتقتل أتقتل، واللي ضاع ضاع، واللي اتمسك وأتباع في سوق العبيد، وكان من اللي أتمسكوا وأتباعوا الأمير الطفل "محمود بن ممدود" ابن أخت السلطان "جلال الدين خوارزم شاه"، واللي عرفناه فيما بعد بالسلطان "المظفر سيف الدين قطز" أو "الصَّدُّ الأَخِيرُ".
(يتبع)
.png)
تعليقات
إرسال تعليق