الصَّدُّ الأَخِيرُ سيف الدين قطز 2

(2) ريح الشرق العاتية... لعنة جنكيز خان...

قبل ما نتكلم عن بطولات "السلطان المظفر سيف الدين قطز" ونعرف حكايته وازاي اتحول من أمير لعبد ومن بعدها سلطان، لازم الأول نتأمل ونعرف مدى هول الكارثة اللي أصابت العالم الإسلامي في الوقت ده. كان المغول أو التتار الخطر القادم من الشرق مش مجرد جيش عادي، ده كان قوة بشرية غير طبيعية رهيبة. كانوا جايين من وسط قارة آسيا، عايشين على هضبة منغوليا جنوب سيبيريا شمال التبت، مابين منشوريا وتركستان، المنطقة دي كانت طبيعتها المناخية شديدة القسوة، كان الثلج فيها طول السنة، والرياح بتضرب في الوش زي السكاكين، والجو جاف جدا يجفف حتى المشاعر والأحاسيس. وفي الظروف البيئية القاسية الرهيبة دي كانوا بيعيشوا في خيام متنقلة، وأكلهم وشربهم مربوط بظهر الخيل، يعني في الأصل كانوا مجموعة قبائل رحالة.

طبيعة بيئتهم وحياتهم القاسية هى اللي جعلتهم يتشكلوا بشكل مختلف عن باقي البشر. تشوف الواحد منهم تقول عليه مخلوق من صلب متين ومطروق بالحديد. هما قِصار شوية، بس جسمهم كله عضلات وكتلة قوية تستحمل أي مرض أو تعب أو جوع. وشوشهم صفرا وعريضة من كتر التعرض للبرد، وعينيهم صغيرة ومائلة، تحسها عيون متحجرة ميتة، ونظرتهم فيها غلظة وحدة وقسوة، أو كأنهم باصين لك من تحت حاجب مقفول. دقنهم ولِحيتهم كانت يا دوبك باينة، كأنها مش موجودة أصلاً. كانت طريقة أكلهم مرعبة، تحس إنهم مش بياكلوا عشان يعيشوا، بياكلوا عشان يفضلوا آلة قتل شغالة، كانوا بياكلوا أي حاجة، الأخضر واليابس حرفيا.

الجندي المغولي بيتربى من وهو طفل صغير على ضهر الخيل. الخيل بالنسبة لهم مش مجرد ركوبة، ده شريك حياة؛ ينام جنبه، ويشرب من حليبه المتخمّر (الكُومَس) عشان ما يجوعش. وإذا اضطر في عز المعركة وزاده خلص، ومالقاش لقمة ياكلها، يقوم يجرح فَرسه ويشرب من دَمه عشان ياخد منه قوة وطاقة يكمل بيها القتال! ناس وصلوا لدرجة من الصبر على الجوع والتعب ما وصلهاش أي جيش غيرهم.

وده كله عشان إيه؟ عشان دخل في دماغهم فكرة غريبة، جعلتها عقيدة راسخة عندهم، إنهم شعب الله المختار، وإن "جنكيز خان" (أبوهم الروحي) نزل عليه أمر من السما إنهم يملكوا الأرض كلها. في حروبهم وغزواتهم مبيشوفوش البلاد اللي قدامهم دي أنها بلاد محتلّة، هما بيشوفوها بعقيدتهم انها "ميراثهم المسروق" اللي لازم ياخدوه غصب عن الكل. عشان كده، نفسيتهم عبارة عن نفسية غرور قاتل، معندهمش رحمة ولا شفقة، ولا يعرفوا لغة إلا لغة الأمر والتهديد والقتل. حاجة مأمورين بيها أمر سماوي بقى. مش عارفة ليه حاسة ان الأمر ده له حاجة شبيهة أيامنا.

أما عن قوتهم في الحرب، فدي حكاية تانية خالص. كانوا بيعتبروا القتال فن، فن قائم على استغلال الأرض والمناورة السريعة. مايهمش عددهم ولا عدد اللي قدامهم. بيعتمدوا على خلق الرعب في القلوب قبل الضرب بالسيوف. أسلوبهم في الحرب كان قاطع وحاسم، بيعتمدوا على الإقدام الصريح والمخاطرة المُتعَمّدة. لكنهم مش أغبياء؛ كانوا بيستخدموا الخداع في تكتيكاتهم الحربية. يبدأوا الحرب بالخيل، يضربوا بالسهام في كل اتجاه، وبعدين يعملوا كَمِين، أو يمثلوا الهروب عشان يجرّوا الجيش اللي بيطاردهم، ويلاقوا نفسهم في لحظة متطوقين.

حتى في حصار المدن، كانوا بيستخدموا قسوة فوق الوصف. لما يلاقوا مدينة صعبة عليهم، وبيدافعوا بقوة، كانوا يأسروا أهل المدن المنهارة قبلها، ويحطوهم دروع بشرية في الصفوف الأولى، عشان ياخدوا الضرب والموت بدالهم، ويدخلوا بيهم المدن التانية!

بالرغم من كل القسوة دي، كانت فيهم صفات غريبة، عكس قسوتهم، أساسها من عيشتهم القديمة كرُعاة. يعني كانوا بيتصفوا بالكرم، وده كرم جاي من ضرورة البادية، إن الواحد لازم يساعد التاني عشان يعيشوا في البيئة الصعبة دي. وكمان كانوا بيتصفوا بالصراحة، ميعرفوش اللف والدوران في الكلام ولا حتى في القتال، يا أبيض يا أسود. كل حاجة عندهم صريحة وقوية زي السيف، يا إما معانا أو علينا اللون الرمادي ميعرفوش. لكن الصراحة دي كانت زي حدّ السيف، ممكن تجيب النصر وممكن تجيب الموت.

المغول كانوا مش بس بيغزو عشان السُلطة، دول كانوا مصابين بالعنصرية المطلقة. المغول اعتقدوا بكل جوارحهم إنهم أفضل من كل البشرية، إنهم سُلالة ربنا خلقها مخصوص عشان تحكم وتسود. كانوا شايفين الناس التانية (سواء مسلمين أو أي جنس غيرهم ع الأرض) مجرد خدم أو عبيد لازم يكونوا تحت أمرهم. الغرور العنصري ده، هو اللي خلى التهديد بتاعهم مش مجرد تهديد سياسي، ده تهديد بإزالة كل الحضارات اللي سبقتهم. لما الواحد فيهم بيشوف ملك أو سلطان، مش بيشوفه ندّ، كان بيشوفه واحد مُحتال قاعد على مُلكه اللي هو ورثه من "جنكيز خان".

عشان كدة لما وصلت رسالة "هولاكو" القاهرة، زي ما حكينا في الجزء الأول، مكنتش مجرد رسالة حربية، دي كانت حكم بالإعدام الأبدي على كل واحد بيعتبر نفسه حر. وده اللي خلى "السلطان قطز" يعرف إن المواجهة دي مش هتكون بس بالجيش، دي هتكون مواجهة عقيدة بعقيدة.

بعض المؤرخين المسلمين، زي "ابن الأثير"، قالوا إن المغول من الأتراك، عشان في شبه كبير بينهم وبين قبائل الترك اللي عاشت في المنطقة. والامام "السيوطي" قال أن المغول والأتراك وشهم عريض وصدرهم واسع وأطرافهم صغيرة وحركتهم سريعة ودمهم حامي زي بعض. أما "الهمزاني" قال أن الشبه بين المغول ولأتراك مش معناه الأصل واحد. غالبا وجهة النظر دي سببها أن العرب كانوا شايفين أن أي حد مش عربي سواء فارسي، صيني، منغولي، كلهم من الترك، خصوصا أن الترك كان عنصر مسيطر على الحكم في البلاط العباسي من يوم ما قتلوا الخليفة "المتوكل على الله العباسي" سنة 247 هـ / 985م، كله عند العرب صابون يعني. 

"جنكيز خان" وأجداده ليهم أصلهم، وهو السلالة الصفرا أو المغولية. لكن الحقيقة اللي اتفق عليها العلماء هي إن المغول والترك عاشوا جنب بعض مُدّة طويلة، واتخالطوا في المنطقة دي، وكل واحد منهم أخذ من طبيعة التاني في الكلام والعادات. عشان كده، هما والترك فيهم شبه في الشكل؛ الاتنين بيتميزوا بـ عُرض الوش وسعة الصدر، وصغر الأطراف والسرعة في الحركة. تحس إنهم ولاد عم تربوا في بيئة واحدة قاسية، بيئة بتنتج رجال أشداء، قُساة، حياتهم كلها على ظهور الخيل.

الجيش ده يا سادة هو اللي كان بيقرب على مصر. جيش لا يعرف التراجع، ولا يخاف الموت، ولا يؤمن بالرحمة. قوة اتخلقت من الصِفر، وتشكّلت بالصبر والعنصرية والقسوة، وحطّت في دماغها إنها هتملك الدنيا كلها. وهو الخطرواجهه "السلطان قطز"، ومكنش أمامه غير أن يواجه الريح العاتية دي بكل ما أوتي من صبر وإيمان، خلت مواجهتهم مع قائد زي "السلطان قطز" تكون هي الصَّدُّ الأَخِيرُ حرفيا.
أستنوني وحلقة جديدة نتكلم فيها عن بداية الخطر المغولي في الشرق (يتبع)
مروة طلعت
13 / 11 / 2025 
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
#الصَّدُّ_الأَخِيرُ
#سيف_الدين_قطز
#عين_جالوت
المصادر:
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ج6 و ج7 - ابن تغري بردي.
قيام دولة المماليك الأولى في مصر والشام - أبو الفدا.
السلوك لمعرفة دول الملوك - المقريزي ج1.
مفرج الكروب في أخبار بني أيوب ج2 - ابن واصل.
مسالك الأبصار في ممالك الأمصار - ممالك مصر والشام - ابن واصل.
سير أعلام النبلاء الطبقة 34 - الامام الذهبي.
حسن المحاضرة في أخبار ملوك مصر والقاهرة - القلقشندي.
الدرة الزكية في أخبار الدولة التركية - ابن أيبك الداواداري.
السلطان المظفر سيف الدين قطز بطل معركة عين جالوت - د/ قاسم عبده قاسم.
السلطان سيف الدين قطز ومعركة عين جالوت - علي محمد الصلابي.
الأيوبيون والمماليك - د/ قاسم عبده قاسم.
عصر سلاطين المماليك - أ.د/ عطية القوصي.
المغول وعالم الإسلام - أ.د/ صبري عبد اللطيف سليم.
الجزء الأول
https://www.facebook.com/share/p/1JBArrBkeQ/



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الليث بن سعد 5

الدكتور نجيب محفوظ باشا

هل تعلم أن جدك الأكبر كان من آكلي لحوم البشر؟