رفاعة الطهطاوي
في سنة ١٢٤٢ هجرية ١٨٢٦ ميلادي، خرجت من ميناء أسكندرية سفينة محملة أول بعثة تعليمية كبيرة يبعتها "محمد علي باشا" إلى باريس فرنسا. اليعثة كانت عبارة عن 44 طالب، أغلبيتهم من خريجي المدارس الحربية والطبية اللي أنشأها "محمد علي باشا"، ولأننا بلد شرقية مسلمة، ولأنهم أول مصريين هيتعرفوا بالمعنى الحرفي على بلاد الفرنجة المختلفين عنا كليا في الدين والثقافة والتقاليد، كان لازم يكون معاهم اللي ياخد باله من الطلبة سلوكيا وأخلاقيا ويكون منبههم الديني اليقظ المعالج لأي انحراف. وده كان دور إمام الجامع خريج الأزهر الشاب الصعيدي "رفاعة الطهطاوي". خرج "رفاعة" مقيد في أوراق البعثة بمنصب (إمام البعثة)، وبعد سنتين أتغير تقييده في أوراق البعثة الى (طالب في البعثة)، وبعد خمس سنين رجع "رفاعة الطهطاوي" وهو الأبرز والأول على البعثة، وماسك في ايده كتابه الأول "تخليص الابريز في تلخيص باريز" الكتاب اللي قلب الحياة العلمية والثقافية في مصر الحديثة حرفيا.
هات الدواية والقلم... وحط خط على الورق.. واقرا اللي ما بين السطور.. ده العلم نور.. واللي سبق.. فاز بالنبأ يا محترم..
300 سنة عاشت مصر فيهم تحت ظل الحكم العثماني الثقيل اللي عمى العيون والعقول. الحكم العثماني كان أسوأ خلافة مرت على مصر حرفيا، مكنتش مجرد سنين، دي كانت قرون من الركود والسكون. كانت الحياة تحت الحكم العثماني ماشية ببطء، لا نهضة في العلم، ولا تطوّر في الاقتصاد، ولا يقظة في الصحة أو القوة العسكرية. مبدأ العثمانيين هو قيادة شعب جاهل مريض أسهل. شعب عايش كالأنعام ياكل ويشرب، ويجري مكفي على وشه على اللي يسد جوعه وجوع عياله، ينضرب ويتجلد وهو صاغر ويقبل الايادي ويشكره انه مقتلوش.
في نفس الوقت كان العالم، خصوصا أوروبا، بتشهد واحدة من أعظم نهضاتها. قامت هناك حركة فكرية وعلمية، نقلت بالناس من ظلمات العصور الوسطى إلى أنوار الحداثة والمعرفة. واتحولنا أحنا اللي كنا أصحاب نور وعلم وضياء ومعرفة حضارة العصور الوسطى، لظلام الجهل والفكر والمرض جوا مستنقع الحكم العثماني.
لكن الزمان دوار، والركود لا يدوم. ففي سنة 1798م، جاءت الحملة الفرنسية مش مجرد غزو عسكري، دي كانت هزة قوية وصحوة أيقظت الأرض الغافلة. صحيح كانت صحوة قاسية غرقت الأرض دم، لكنها كانت للأسف ضرورية. ومن اللحظة دي، بدأت مصر تفتح عينيها على الغرب، على العلم، وعلى فكرة أن العالم تغير من حواليها.
مصر سنة 1801 ميلادية، أقرب ما تكون إلى جسد منهك، خارج من معركة طويلة، تاية ومش شايف ملامح المنتصر فيها، لكن سابت عليه جروح متتنسيش. انتهت الحملة الفرنسية (1798م - 1801م)، سايبة وراها ضياع وحيرة وألم. الشوارع في القاهرة مليانة بالجنود المنهكين، بأزياء مختلفة ولهجات متنافرة، عثمانيين على إنجليز على مماليك، ووسط ده كله شعب واقف يتفرج وهو مش فاهم حاجة، كان فيه شعور عام بالضياع. الدولة مفككة، النظام غايب، والمصري البسيط مش عارف مين اللي هيصحي الصبح يلاقيه في الحكم. وبين صدمة الاحتلال، ومرارة الضرائب، كانت الأحلام غايبة.
في الوقت اللي كانت الأنظار متجهة إلى القاهرة وساحل البحر، كان الصعيد بيعيش واقع شديد القسوة، المر في القاهرة، بيشربه أهل الصعيد 10 أضعاف، بلاد نائية وبعيدة عن السلطة، محرومة من كل حاجة. الفقر والجهل والمرض والموت هم عنوانهم وأسلوب حياتهم. في الفترة اللي خرجت فيها الحملة الفرنسية، حصلت في الصعيد اضطرابات متواصلة بسبب الصراع بين بقايا المماليك والسلطة العثمانية على الحكم والسلطة، كل واحد عاوز يخطف التورتة أو حتة منها، مستغل فرصة عدم التوازن دي. بعض المدن الكبرى زي جرجا وأسيوط كانت بؤر الاضطرابات والاحتكاك. وبكدة فضل الصعيد بعيد عن أضواء السياسة، لكنه قريب من هموم الأرض والماية وصراعات القبائل والعوائل. خدوا منه التورته وسابوله الهم وشيل الطين.
الناس في الصعيد كانوا في مجملهم فلاحين أو رعاة عرب، عايشين تحت ضرائب قاسية بتتجمع منهم بالضرب والعنف والقتل اذا لزم الأمر، عايشين في ظل سلطة تقليدية يتقاسمها زعماء العائلات ورجال الدين المحليين. بالنسبة للتعليم مفيش غير الكتاتيب، واللي بيدرس فيه هم القادرين ماديا فقط، واللي عاوز ينجي بأبنه من الفقر والجهل والضياع في مجتمع الصعيد الآسن سبيله الوحيد هو الأزهر، كان هو حلقة الوصل بين المجتمع المهمش وعالم المعرفة والدين.
ومن قلب المرحلة دي، هيبرز اسم خاص جدا. شاب أزهري من مدينة طهطا، مكنش مجرد شيخ، كان عقل نابه وقلب متطلع. وسط الواقع المرير ده، في 15 أكتوبرسنة 1801م في مدينة طهطا بمحافظة سوهاج، أتولد "رفاعة رافع الطهطاوي" في بيت علم ودين - نسبه يمتد ل "محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن على بن أبي طالب" - لعائلة من القضاة ورجال الدين البارزين في المحافظة. عائلة زي دي أكيد هتهتم بتعليم ابنها، وكان أول خطوات التعليم في الكُتاب. وبسبب شغل والده أتنقل "رفاعة" مع أسرته من بلدته إلى منشأة النيدة، ومنها لفرشوط ومنها لقنا. الترحال ده كان ليه تأثير كبير في تكوين شخصية "رفاعة"، في كل بلد كان بيدخل كُتاب جديد، وكل كُتاب كان ليه طابعه الخاص. معلم هنا بيشد عليه في الحفظ، والتاني هناك بيركز على النطق والتجويد، والثالث بيهتم بالأدب والسلوك. ورغم بساطة التعليم وقتها، التنوع ده علم "رفاعة" إن العلم مش قالب واحد، وإن كل معلم ليه بصمته وفكره، وإنه لازم يكون مرن ومتقبل للاختلاف.
"رفاعة" من وهو طفل، اتعلم من ده كله. خد من كل واحد حاجة، ومن كل بلد تجربة. شاف طرق تدريس مختلفة، واحتك بأنماط بشرية متنوعة، وده خلى مخه دايما متفتح، وقلبه واسع، وفكره مستعد لأي جديد. ومن اللحظة دي، بدأت تتكون عنده فكرة إن العلم مش بس حفظ ، لكن كمان فهم، وتجربة، واختلاط. وكانت الحصيلة النهائية أنه حفظ القرآن الكريم كله، وبسبب نبوغه وذكاؤه وقدرته على الحفظ والاستيعاب وحبه للعلم وفضوله للمعرفة، قدر يحفظ كمان جميع المتون، وهو أمر لو تعلمون عظيم وخصوصا للي في سنه.
المتون ببساطة، هي النصوص المختصرة اللي بتعرض المادة العلمية بشكل مركز جدا، زي ما تكون كبسولات علم، بيحفظها الطالب عن ظهر قلب قبل ما يبدأ يفهمها أو يتعمق فيها. وده كان الأساس اللي بيتبني عليه كل شيء في الدراسة الأزهرية بعد كده. "رفاعة" بدأ رحلته العلمية بحفظ متون زي متن أبي شجاع، اللي بيعرض أحكام الشريعة باختصار في الفقة. وفي النحو اشتغل على الآجرومية، وبعدها ألفية ابن مالك، واللي كانت زي "القرآن النحوي" لكل دارس. وفي الحديث كان فيه متون زي البيقونية في مصطلح الحديث. وفي المنطق والعقيدة اتعلم متون بتشرح أصول الدين والفكر الكلامي بأسلوب رمزي محتاج لفك شفراته مع شيخ متخصص. الغاية من حفظ المتون مكنش مجرد الترديد، لكنها كانت وسيلة لبناء ذاكرة علمية متماسكة، وسعة إدراك، وقدرة على استرجاع المادة العلمية في أي وقت.
في سنة 1816م بيمرض والد "رفاعة"، وبيحس أن أجله حان، فبيقرر أنه يرجع بلده طهطا عشان يكون بين أهله في أخر لحظاته. وفعلا صدق حدسه وتوفى وأندفن في بلده، وأصبح "رفاعة" في عناية الله ثم أخواله. أخوال "رفاعة" رغم البُعد لكنهم كانوا سامعين ومتابعين تفوق "رفاعة" وتقدير معلميه له، وعشان كده قرروا أن "رفاعة" لازم يسافر القاهرة يستكمل دراسته في الأزهر الشريف. وفي سنة 1817م سافر "رفاعة الطهطاوي" للقاهرة، وعاش فيها 5 سنين درس فيهم في الازهر الشريف.
(يتبع)
مروة طلعت
تعليقات
إرسال تعليق