يعقوب صنوع

 في لقاء مع الفنان "محمود حميدة" قال أن الفن مجرد تسلية لا هو رسالة ولا حاجة، يمكن رأيه ده نابع من سياق سير الزمن اللي أحنا فيه، زمن الفن فيه أصبح نوع من أنواع المسكنات أو المخدرات، ضرره أكتر من نفعه للأسف. كانوا بيقولوا الفن مرآة المجتمع، لكني شايفة أن الفن هو اليد الخفية اللي بتوجه المجتمع مستخدمة سياسة النفس الطويل الهادي. الفن هو القوى الناعمة على حق، أداة رهيبة وخطيرة، بتبرمج العقل اللاواعي، وتهيأ العقل الجمعي لتقبل أفكار أو اتجاهات سواء ايجابية أو سلبية. قارن كده بين فن زمان وفن الآن، ومع المقارنة حط مجتمع زمان ومجتمع الآن، لو أنت صاحب بصيرة هتشوف أن الفن هو اللي بيمجد الأخلاق أو بيدمرها، هو اللي بيصحي الحس الوطني أو بيمحيه، مش العكس، يعني الفن مش بس ناقل للمجتمع، الفن هو السهم اللي بيشاور للمجتمع على الطريق اللي يمشي فيه. الفن مش بس بينقل، الفن بيصنع. وعشان أثبتلك كلامي تعالى نرجع بالزمن 180 سنة تقريبا.

القاهرة سنة 1839م، "روفائيل صنوع" وهو قاعد في مكتبه في قصر "أحمد باشا يكن" حفيد "محمد علي باشا"، جاله خبر أن زوجته بتولد، فورا قام من مكتبه وطيران على بيته في باب الشعرية. في السكة كان "روفائيل" بيدعي ربنا أنه يقوم مراته بالسلامة وينجي المولود الجديد ويخليه له من بعد ما فقد 4 أبناء له قبل كده. ولنفس السبب ده راحت زوجة "روفائيل" لشيخ جامع الشعراني أول ما عرفت بحملها تسأله يدعيلها أن وليدها المرة دي يعيش، بعد ما راحت في حملها السابق للمعابد اليهودية تصلي وتترجى ربنا فيها، فقالت المرة دي تجرب الجامع لعل وعسى.

وصل "روفائيل" بيته على صرخة الميلاد من الأم والطفل الذكر، اللي أول ما شاله "روفائيل" بصله وأبتسم وسماه "يعقوب"... "يعقوب صنوع".

مرت الأيام، يوم ورا التاني، عاش فيهم "روفائيل" ومراته في قلق أنهم يصحوا في يوم يلاقوا "يعقوب" حصل أخواته. لكن "يعقوب" كل يوم كان بيكبر قصادهم، ونسبة القلق فضلت تقل. كبر "يعقوب" وبقى في سن التعليم، فرحت أمه بيه ونسبت معجزة وجوده عايش في الحياة لدعوة شيخ جامع الشعراني، وعشان كده وهبته للجامع رغم أنهم يهود. راح "يعقوب" الجامع، ودرس وحفظ القرآن، جنب دراسته في المعبد اليهودي لتعاليم التوراه، وكمان راح ودرس الانجيل، فبقى جامع للأديان التلاتة، والتوليفة العجيبة دي أثرت جدا على شخصيته فيما بعد، أبرزها أنه مكنش متشدد لدين وشبه لامنتمي غير لوحدانية الله.

"يعقوب" أظهر نبوغ وقدرة عجيبة في الحفظ، وحب القراءة وفضول وشغف علمي كبير، يكفي أني أقولك أنه أتقن  العربية الفصحى والعبرانية والتركية والإيطالية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية واليونانية والروسية والبرتغالية، ده غير عشقه للشعر قراءة وحفظ وكمان تنظيم. في يوم حضر "روفائيل" مستشار الأمير "أحمد يكن" حفلة من حفلات سمو الأمير، وكان معاه إبنه "يعقوب" وكان عنده 13 سنة. ولما سلم "روفائيل" و "يعقوب" على البرنس، "روفائيل قاله أن "يعقوب" منظم قصيدة شعر مخصوصة عشانه وحابب يسمعهاله، فلما الأمير "أحمد يكن" سمع القصيدة من "يعقوب" أبهر بيه جدا، وكمكافأة على القصيدة أصدر الأمير أمر بأرسال "يعقوب صنوع" أوروبا للدراسة.

سافر "يعقوب" لمدينة ليفورنو في ايطاليا أحسن 3 سنين في حياته قضاهم كلهم في عمل تغذية فكرية وثقافية وبصرية، درس فيهم تاريخ الفنون الجميلة، والموسيقى والرسم، ولف ودار على مسارح البلد وشاف المسرحيات الايطالية اللي كلت عقله. فجأة بتوصله رسالة أن والده تعبان وعاوز يشوفه، فرجع "يعقوب" بسرعة على مصر، لكن القدر كان أسرع من رجوعه ووالده كان توفى. كمية حزن وأسى رهيب عاش فيهم "يعقوب"، بعدها بفترة بسيطة مات الأمير "أحمد يكن"، والخبر ده كمل عليه أكتر وعاش ليالي في بكاء عليهم ودخل في فترة اكتئاب صعبة أنعزل فيها عن العالم.

في سنة 1868م أتعين "يعقوب صنوع" مدرس في مدرسة الفنون والصناعات في القاهرة وهو عنده 29 سنة. الوقت ده كانت كان ذروة أنشاء مصر الحديثة التانية على ايد "الخديو اسماعيل"، وكان أختيار الكفاءات شئ واضح ومطلوب في كل المجالات، ده غير أن ده كان وقت تغريب مصر واهتمامها الاكبر بعلوم وأداب وفنون الدول الغربية الأوروبية. وهنا ظهر فايدة أتقان "يعقوب صنوع" ل 13 لغة، فدخل ضمن لجنة امتحان المدارس الأميرية لأختيار المدرسين ووضع المناهج، وأشتغل في ترجمة القصايد العربية للغات المختلفة، و نشر دراسات عميقة من الآداب الإسلامية وبعض المقالات في الجرايد الإنجليزية، وفي بعض المجلات الفرنسية الكبيرة. أتعجب الأوروبيين بفصاحة لسان "يعقوب صنوع" بلغاتهم، وقوة حجته، وبراعته في نظم الشعر بلغاتهم، وده زود معارفه وصداقاته مع أكبر علماء زمانه في مصر وسوريا والغرب والهند.

طول فترة شغله وقراءاته وترجماته دي كلها، مبعدتوش عن حبه وشغفه الاساسي "التمثيل"، السحر اللي أتصاب بيه في مسارح ايطاليا. في الوقت ده مكنش فيه في مصر مسارح، ممكن كان بيبقى فيه فقرات وعروض هواه كده في القهاوي حاجة متوارثة في الجينات من أيام أجدادنا القدماء، إنما حاجة بشكل المسرح الأوروبي أو بالشكل اللي نعرفه دلوقتي مكنش لسه فيه. كان "يعقوب صنوع" أول من حاول عمل مسرح مصري زي المسرح الأوروبي.

في سنة 1869م، أنشأ "يعقوب صنوع" أول فرقة مسرحية مصرية، وبدأ يعرض على خشبة المسرح في حديقة الأزبكية، مسرحيات من تأليفه وكان بيمزج فيها الاستعراض والشعر المغنى، وكان بيميزها الطابع الفكاهي الكوميدي عشان يجذب المشاهدين، سواء من الطبقة الارستقراطية اللي شافوا النوعية دي في اوروبا، أو من طبقة العوام اللي أول مرة يشوفوا مسرح. وراعى "يعقوب صنوع" العادات والتقاليد الشرقية في مسرحياته في البداية عشان ميثيرش غضب الجماهير عليه خصوصا أنها حاجة جديدة كمان ع المجتمع، ومن أهم الحاجات اللي راعاها أنه مدخلش عنصر نسائي في فرقته، وكان هو بيلبس الملابس النسائية وبيقوم بدور البطلة في المسرحية، يعني هو كان صاحب الفرقة والمؤلف والملحن والمخرج وكمان البطلة.

صيت "يعقوب صنوع" ومسرحه سمع لحد ما وصل "للخديو اسماعيل"، فطلب يشوف مسرحية من مسرحياته. وبين يوم وليلة لقى "يعقوب صنوع" نفسه بيعرض مسرحيته على خشبة مسرح قصر النيل الخاصة بالباشاوات والأمراء وفي حضور "الخديو اسماعيل"، وده شجعه أنه يخاطر بقلب جرئ ويضم لعرضه المسرحي عنصر نسائي لأول مرة، ما هو هيعرض قصاد الأمراء المتعودين على كده من أوروبا بقى، هيعرض قصاد الطبقة الأوبن مايند. على مسرح قصر النيل عرض "يعقوب صنوع" 3 مسرحيات، "آنسة على الموضة"، و"غندورة مصر"، و"الضرتان". حضر "الخديو اسماعيل" ال3 مسرحيات وعجبوه جدا، ولما قابله "يعقوب صنوع" بعد المسرحية، سلم عليه "الخديو" بحرارة وهناه على ابداعه وفنه وريادته وقاله أنت مش يعقوب صنوع أنت "موليير" مصر، نسبة لمؤسس المسرح الكوميدي الفرنسي.

لحد هنا و"يعقوب صنوع" كان ماشي في سكة واضحة ومؤثرة، وقدر يغير قليل من تفكير المصريين، وقدر يخليهم يتقبلوا المسرح والتمثيل، وكمان تمثيل النساء ودي حاجة كده كانت من الكبائر أيامها. "يعقوب صنوع كان رائد في المجال المسرحي والفني ولسه يا ما في الجراب يا حاوي. اللي يقدر يوصل بالحال لحد كده، أكيد هيقدر يوصل بالحال لأبعد من كده. ايه هو اللي أبعد من كده؟! هقولك بس مش النهاردة خليها بكرة.

(يتبع)

مروة طلعت

2/6/2025 

#عايمة_في_بحر_الكتب

#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
المصادر:
أبو نظارة إمام الصحافة الفكاهية المصورة وزعيم المسرح في مصر - د/ إبراهيم عبده.
يعقوب صنوع رائد المسرح المصري ومسرحياته المجهولة - د/نجوى عانوس.
يعقوب صنوع.. "موليير مصر" الذي هدد عرش الخديوي - مقال من موقع الجزيرة نت.
يعقوب صنوع مبدع حائر بين الصحافة والمسرح وفن الكاريكاتير - مقال من موقع إندبندنت عربية.
أبو نضارة المصري .. أول من جعل النساء تمثل على المسرح - مقال من أخبار اليوم.




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الليث بن سعد 5

"ان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فأعبدون" الجزء الأول

هل تعلم أن جدك الأكبر كان من آكلي لحوم البشر؟