رفاعة الطهطاوي 3

(3) "رفاعة الطهطاوي" كان من عيلة كبيرة من الأشراف، وكان ليهم مال وجاه واعتبار. أيام المماليك ولحد قبل حكم "محمد علي" كان الأشراف ليهم امتيازات خاصة كده، زي أراضي خاصة بيهم هبة من المماليك بيأجروها، ودخل واسع بييجيلهم كل سنة من غيرما يتعبوا فيه، عشان يتفرغوا للعلم الشرعي وتدريسه، وكانوا في نظر الناس من علية القوم. بس الزمان غدار، و"رفاعة" لحق آخر لحظات عز العيلة، وبعدين الدنيا اتغير حالها.

"رفاعة" اتولد قبل ما "محمد علي" يبقى حاكم بأربع سنين، يعني وهو لسه صغير، شاف بعينه إزاي الوالي الجديد شال الامتيازات دي من الأشراف وسحب منهم الأراضي والفلوس اللي كانوا بيعتمدوا عليها. ومن يومها وحال العيلة اتبدل من الغنى لضيقة الحال،  ومن الجاه للهبوط الحاد في المستوى الاجتماعي والاقتصادي. أبوه "الشيخ بدوي رافع" مبقاش قادر يصرف على بيته وأولاده، فاضطر ياخد أهل بيته ويسيبوا بلدهم طهطا سنة 1813م، وده لما كان "رفاعة" عنده 12 سنة بس.

وساعتها بدأت الرحلة، راحوا يقيموا عند قرايبهم في منشأة النيدة جنب جرجا، عند بيت "أبو قُطنة"، عشان يحاول الأب يدبر لقمة العيش ويلاقي سقف يأويهم. ومن بعدا فضلوا يتننقلوا بين قنا وفرشوط، كل ما باب رزق يقفل في مكان يسافر مكان تاني يطرق فيه باب رزق جديد والدنيا كانت ماشية معاهم بالزق. عيلة من الأشراف فضلوا قرون متنعمين ومستورين، فجأة بيعيشوا عيشة من الضنك عمرهم ما عرفوها ولا جربوها، عزيز قوم ذل.

وفي سنة 1817م بعد وفاة الأب، بترجع الأسرة لبلدهم الأصلية طهطا، وهناك كان ل"رفاعة" أخوال من أهل العلم والدين. خاله الشيخ "محمد الأنصاري، والشيخ "عبد الصمد الأنصاري"، والشيخ عبد العزيز عبد الصمد الأنصاري"، والشيخ فراج الأنصاري"، كلهم كانوا ناس علماء متبحرين في الفقه والنحو والشعر، وكانوا بيشرحوا ويؤلفوا العديد من الكتب. راجع الجزء الأول هتفهم معلومات أكتر اللينك أخر المقال بعد المصادر.

 "رفاعة" مكنش مجرد طالب أزهري عادي، ده كان من اللي يفكروا ويسألوا ويغوصوا في المعنى. أساتذته نفسهم كانوا شايفين فيه حاجة مميزة، كانوا بيسندوله الطلبة الضعاف اللي مش قادرين يفهموا، علشان يشرح لهم بطريقة أسهل، وأوقات كانوا يسيبوه يحل معاهم الاشكاليات الصعبة، واللي يشوفه وهو بيشرحلهم يحلف إنه أستاذ مش طالب.

بس "رفاعة" كل وقته مش بس للدروس والحفظ، ده كان ليه شخصية تانية، فيها طموح وشغف، بيحلم بمستقبل كبير. مكنش بيحفظ علشان ينجح في الامتحان وبس، كان عاوز يفهم، يوصل للعلم الحقيقي، لكن الحلم ده اتعرقل بصخرة الفقر. في عز ما كان نفسه يكمل تعليمه، وقفت المصاريف عائق. حاول يشتغل مدرس علشان يصرف على نفسه، راح يقدم في مدرسة لكن اترفض عشان مش معاه لسه تصريح الأزهر لمزاولة المهنة. فكر ساعتها يرجع لطهطا ويسيب الأزهر خالص، علشان يدور على لقمة عيش.

رجع طهطا واشتغل هناك في صناعة العباءات، وفضل يحوش من فلوسه قرش ورا التاني، علشان يقدر يرجع يكمل العلم اللي بدأه. وهنا بيظهر دور الداعم الحقيقي، الحب الصادق من غير مقابل، كانت أمه له أكبر وأهم داعم، كانت بتساعده في بيع العباءات وصناعتها عشان تقصر عليه مدة قعاده في طهطا ويرجع للأزهر تاني بسرعة. وبعد شهور من التعب والمشاوير، دخل تاني ساحة الأزهر الشريف، وفضلت أمه تشتغل على قد ما تقدر في البلد عشان توفرله مصاريف دراسته.

وفي سنة 1821م، "رفاعة" اتخرج من الأزهر، ودي كانت بداية المشوار الحقيقي. طبعا أخد تصريح الأزهر لمزاولة مهنة التدريس. "رفاعة الطهطاوي" من صغره كان عنده ميل فطري للتدريس، كان التدريس عنده مش مهنة ده كان غية ومزاج، كان بيحب يعلم الناس، وكان بيحس إن التدريس ده رسالته اللي أتخلق عشانه. وبمرور وقت قصير بدأ اسمه يتعرف وسط زمايله. من سنة 1822م لحد 1824م، الناس كانت بتقعد في حلقاته بالعشرات.

لكن التدريس وقتها في الأزهر مكنش بيدي صاحبه مرتب ولا مكانة دخل ثابت، خصوصا للوجوه الجديدة اللي لسه متخرجة، يعني اللي يدرس كان بيشتغل لله كده، يمكن ياخد دعوة حلوة، أو تبان له فرصة تانية. ماكانش فيه نظام رسمي يضمن له عيشة كريمة أو مرتب ثابت. رفاعة كان عارف ده كله، بس برضه اختار طريق التدريس، يمكن لأنه كان شايف فيه هدف أسمى من الفلوس. ومع إن حاله المادي مكنش كويسة خالص - يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف - وماكنش ليه ظهير سياسي ولا حد بيسنده، لكنه كمل، لحد ما ربنا جازاه كل الخير على كل اللي بيعمله وحطه في سكة الشيخ "حسن العطار". راجع الجزء التاني عشان تفهم الأحداث أكتر هتلاقي اللينك أخر المقال بعد المصادر.

الشيخ "حسن العطار" لما أنبهر بنبوغ "رفاعة الطهطاوي"، قدمه لطبقة الكريزة، ودخل "رفاعة الطهطاوي" القصور كمعلم للأبناء في مسائل الشريعة والفقة وكمحفظ للقرآن. وقتها الحالة الاقتصادية اتحسنت جدا مع "رفاعة" والدنيا زهزهت معاه وربنا كرمه ووسع عليه أخر كرم. مكتفاش الشيخ "حسن العطار" بتقديم تلميذه النجيب "رفاعة الطهطاوي" في القصور وبس، ده كمان رفعه للعمل في الجيش المصري اللي بيكونه "محمد على باشا"، لأن في الوقت ده كان "محمد على" بيهتم جدا بالتعليم الديني للحفاظ على عقيدة جنوده، فكان لكل فرقة في الجيش لازم واعظ ديني يأمهم في الصلاة ويديلهم درس بعده، ولو حد من العساكر او الظباط عنده استفسار يرجعله، وطبعا المهنة دي والمكانة دي كان العائد المادي فيها كبير، لأنه محسوب من كبار وجوه الجيش دلوقتي. وفي سنة 1824م، اتعين "رفاعة" إمام وواعظ في فرقة جيش "حسن بك المناسترلي"، وبعدها انتقل لآلاي "أحمد بك المنكلي".  

"محمد علي باشا"، لما بدأ مشروعه الكبير لتحديث البلد، دور على مشايخ من الأزهر متميزة تطلع من البعثات بتاعته لفرنسا. ساعتها مكنش فيه أنسب من الشيخ "حسن العطار" الراجل المتفتح المثقف الواعي، عشان يسأله ويستشيره، ساعتها من غير تفكير الشيخ "حسن العطار" رشحله "رفاعة الطهطاوي" بثقة، وكان معاه في البعثة شيخين من الأزهر تانيين مع 44 طالب علم.

مكنش سهل أبدا على أم رفاعة إنها تودع ابنها وتسيبه يسافر لبلاد غريبة. ست مصرية أصيلة، من قلب الصعيد، صرفت اللي وراها واللي قدامها علشان تعلمه، باعت دهبها، وتعبت وشقيت وأتبهدلت، عشان تشوفه شيخ أزهري له مكانته. ولما فعلا بقى إمام وواعظ في الجيش، كانت حاسة إنها جنت الثمر. لكن فجأة يقولها كده أنا مسافر باريس، أكيد صعبة على فكر أم من الصعيد في بداية القرن ال19 الميلادي. هي مكنتش ضد العلم بدليل تعبها وشقاها وسفها للتراب حرفيا عشان تعلم ابنها، هي كانت ضد الفقد، مكنتش ضد السفر، كانت ضد الغربة والبعاد الطويل لبلاد مش هتعرف لو وحشها أنها تروحله أو يجيلها بسهولة. هي مكنتش شايفة إنه هيروح يتعلم، كانت شايفة إنه هيروح منها خالص ومش هتشوفه تاني.

في الوقت ده، أي حد من الريف وخصوصا في الصعيد البعيد عن أي مظهر حضاري، كان بيشوف السفر لبلاد الفرنجة كأنه ضرب من الجنون. أول تعليق أكيد سمعه "رفاعة" كان رايح تعمل إيه عند الكفار؟!  لكن "رفاعة" كان شايف أبعد من كده. كان شايف حلم، ورؤية، وأفق مفتوح على العالم.

اللي خلى "رفاعة" يفكر بالشكل ده، هو الشيخ "حسن العطار". الشيخ ده كان سابق عصره، وفتح ل"رفاعة" باب من العلم والمعرفة كان لسه مقفول عند ناس كتير. الشيخ "حسن العطار" علمه علوم جديدة كانت محرمة عند الازهر زي الهندسة والتاريخ والفلك والطب، وحكاله عن الفرنسيين اللي اتعامل معاهم وقت الحملة الفرنسية، عرفه إزاي بيتعاملوا مع العلم والفنون. ومن كتر ما تأثر "رفاعة" بكلام وأفكار شيخه، آمن زيه إن البلد دي لازم تتغير.

في ربيع سنة 1826م، كانت فيه سفينة حربية فرنسية اسمها "لاترويت" وقفت في ميناء اسكندرية، ف"محمد علي" استغل الفرصة، وكلف قبطانها "روبيلار" ياخد البعثة دي على مرسيليا. وفي يوم الخميس 24 أبريل، الموافق 6 رمضان سنة 1241 هجري، ركب "رفاعة الطهطاوي" المركب من ميناء إسكندرية، وأبحرت السفينة لحد ما رست في ميناء مارسيليا بفرنسا بعدها بشهر تقريبا.

من أول ما "رفاعة" حط رجله على ظهر المركب من إسكندرية لفرنسا، كان واخد المسألة بجدية. قبل ما يركب المركب، كان أستاذه الشيخ "حسن العطار" واقف في وداعه وقال له وصية بسيطة في شكلها، عميقة في معناها: "كل اللي تشوفه وتسمعه هناك أكتبه". "رفاعة الطهطاوي" نفذ وصية شيخه "حسن العطار" كان بيكتب عشان يفتح أبواب العلم، والوعي، والنهضة.

(يتبع)

مروة طلعت
18/6/2025 
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
المصادر:
عجائب الآثار في التراجم والاخبار - عبد الرحمن الجبرتي.
تاريخ الحركة القومية ج3 - عبد الرحمن الرافعي.
الخطط التوفيقية - علي مبارك.
عصر إسماعيل ج1،2 - عبد الرحمن الرافعي.
البعثات العلمية في عهد محمد علي ثم في عهدي عباس الأول وسعيد - الأمير عمر طوسون.
رفاعة الطهطاوي زعيم النهضة الفكرية في عصر محمد علي - جمال الدين الشيال.
رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث - محمد عمارة.
التعليم في مصر - أمين سامي.
تاريخ التعليم في عصر محمد علي - د/ أحمد عزت عبد الكريم.
أعلام الصحافة العربية - د/ إبراهيم عبده.
تاريخ الوقائع المصرية - د/ إبراهيم عبده.
الجزء الاول 
https://www.facebook.com/share/p/15jbJ83e7Z/
الجزء الثاني 
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=pfbid0PuU5hMMNZ8LpNfjKYMPkmivEix1jhxatFBxquDyrwwE1JyJ5DpPsHRuXaQL5FiiPl&id=100070872365801&mibextid=Nif5oz


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الليث بن سعد

الليث بن سعد 5

لوكاندة بير الوطاويط وأفتح أنا نادية بين كفتي ميزان