يعقوب صنوع 3

(3) "يعقوب صنوع" كان شايف إن الفن مش لعبة ولا تسلية، الفن عنده كان منبر توعية للناس اللي في الشارع، الفلاح اللي بيشق الأرض بعرق جبينه، الصنايعي اللي بيجري طول النهار عشان يجيب لقمة عيش، الست الشقيانة بين بيتها وعيالها ولقمة العيش. ومن أول لحظة بدأ فيها يكتب ويمثل، كان بيختار شخصيات شبة الناس دي، من اللي بيشوفهم بعينه كل يوم، ويسمعهم، ويحكي معاهم. أكتر شخصية كانت قريبة لقلبه كانت شخصية الفلاح المصري، اللي هو وقتها كان العمود اللي شايل البلد، لأن الزراعة كانت هي الأساس، والفلاح هو البني آدم اللي شال البلد على كتافه حرفيا.

"يعقوب صنوع" مكانش بيكتب بس عشان يضحك الناس أو يسليهم، ده كان بيخاطبهم بلغتهم، ولما المسرح اتقفل، مسكتش وحول شغله للصحافة، وبقى يكتب للناس بالعامية السهلة - أنا ربنا نصفني - عشان دي اللغة اللي تقدر توصل لكل بيت بسهولة، وكان بيستمر في نُصحه ونقده، وأوقات يعلي صوته ويشد على الناس لو لقاهم سايبين حقهم، وفي نفس الوقت، كان دايما واقف في صفهم ضد الحكومة وضد الظلم، زي ما عمل في مسرحية "الضرتين" لما فضح النظام في نقد ساخر وذكي.

"صنوع"  شاف المجتمع بيعاني من مشاكل اجتماعية، كتب عنها. لقى الناس أخلاقها بتتغير، كتب مسرحيات تنتقد ده. لقى السياسة فاسدة، راح ماسك القلم وكتب مقالات ومسرحيات وسماهم "اللعبات"، بس كانت لعبات نار مش هزار. كان بيسمي الحوار اللي بيكتبه كأنه لعبة، بس اللعبة دي كانت كرباج بيلسع الحكام والأغنياء اللي سايبين الغلابة يتعذبوا.

ولما "الخديو إسماعيل" قفله المسرح، أتحول للصحافة وبدأ يصب غضبه على الصفحات، بمقالات فيها نقد يلسع ولسان طويل. أنشأ صحيفة على نفقته مع "جمال الدين الأفغانى"، والإمام "محمد عبده"، جريدة عربية هزلية بتنقد أعمال "الخديو إسماعيل" واستقر رأيهم على أن يتولى "صنوع" إدارتها. وصدر العدد الأول في سنة 1877م.  تعتبر الصحيفة دي أول الصحف الهزلية العربية. وكانت أول صحيفة يتكتب فيها بالعامية المصرية والتركية، جنب الصورة الهزلية السياسية بين المصريين، واستمرت الجريدة في صدورها بشكل مش متعود عليه المصريون قبل كده، وعملت صدى كبير منقطع النظير، لكن بعد صدور 15 عدد، قدر "الخديو اسماعيل" أنه يخمد أنفاسها ويوقفها. 

و عشان كان بيتكلم عن المساواة والعدل وحقوق الناس، كتير من المؤرخين اللي كانوا ماشيين ورا البلاط ومحتميين بعباية الحكام، قرروا يتجاهلوه، وكأنه مكنش فيه "يعقوب صنوع" ولا حاجة، وقدّموا ناس تانيين زيه عليه، زي "مارون النقاش" مثلا، وقالوا ده هو رائد المسرح العربي. وده كان ظلم بين، لأن اتجاه "صنوع" أصلا كان مختلف تماما عنه، كان شعبي، سياسي، اجتماعي، مش بس نقل مسرحيات غربية للغة العربية.

وده اللي يفسرلنا كلام دكتور "سيد علي إسماعيل" اللي نشره في كتاب عمل ضجة، وهو "محاكمة مسرح يعقوب صنوع"، صدر عن هيئة الكتاب سنة 2001. في الكتاب جاب أدلة ومستندات، وكلها بتقول إن "صنوع" ماكانش الرائد الأول للمسرح زي ما الناس بتقول. أظن أحنا عرفنا كده المستندات دي مين كتبها وكان غرضها ايه في وقتها.

وفضلت صورة "يعقوب صنوع" غايبة، لحد ما قامت ثورة يوليو ١٩٥٢م. وبعد الثورة بدأت الأصوات الحرة تطلع، والأقلام اللي كانت متكتفة تتفك، وتكتب عن "صنوع" وتكرمه كالرائد الأول الحقيقي للمسرح المصري الشعبي.

ولحد النهارده، لسه فيه خلاف على عدد المسرحيات اللي كتبها… الدكتور إبراهيم عبده بيقول إنهم ٣٢ مسرحية، وده استنادًا لكلام صنوع نفسه، والدكتور نجم أيّده في كلامه، لكن مافيش لسه رأي قاطع. ومع كده، اكتشف الدكتور أنور لوقا مخطوط في باريس فيه ست مسرحيات كاملة بخط إيد صنوع، وده زود التأكيد إن الراجل ده كان كنز فعلاً، بس محدش كان بيدوّر عليه زي ما يستحق.

في يوم 22  يونيه سنة 1878م، سافر "يعقوب صنوع" منفي لباريس بأمر من "الخديو إسماعيل"،  سايب في مصر ذكرياته الحلوة والمرة غصب عنه. المنفى مش دايما عقاب، أوقات بيبقى البداية الحقيقية. "صنوع" في مصر كان فنان بيحاول يغير فكر المجتمع، لكن في باريس بقى محارب حقيقي بالكلمة من غير خوف. بدأ يكتب، ينشر، ويخاطب جمهوره من بعيد كأنه لسه واقف على مسرح الأزبكية. الناس بتفتكر إن اللي بيتنفي خلاص اتحكم عليه بالصمت والإبعاد والخروج من الساحة. لكن في حالة "صنوع"، المنفى كان العكس تماما. في مصر، كان بيتكلم في مسرحيات بسيطة، بيكتب، بيخطب، لكن محاصر. المسرح اتقفل، الجمعيات اتقفلت، الصحافة كانت ممنوعة عليه. لكن لما راح باريس اتحرر، مبقاش مربوط بقيود السلطة أو الرقابة، بقى يقدر يقول اللي عايزه، ينشر اللي شايفه. بقى بطل الكلمة، وبطل الصورة الساخرة، وسلاحه ورقة وقلم، وجرنال بيتسرب لمصر زي رسائل سرية بتفك الشفرة للناس وتكشف لهم اللي بيحصل.
 
في باريس فتح "يعقوب صنوع" ورشة صحافة كاملة من قلب باريس، وكل جريدة كانت طلقة ضد الظلم، وضد الاحتلال، وضد الاستبداد. وكل واحدة منهم كانت لها شخصية ولون. بدأها بجريدة اسمها "رحلة أبو نضارة زرقا"، اللي طلعت للنور يوم ٧ أغسطس سنة ١٨٧٩م. كان جورنال عامل زي المسرحية، أربع صفحات مليانين سخرية لاذعة، وضحك بطعم الكوميديا السوداء، بيهاجم فيها "الخديو" وسياسته، وبيصور فيها حال المجتمع المصري والظلم اللي عايش فيه الناس، والركود اللي خلى الناس تستسلم بدل ما تنهض. وكان بيكتب بالعامية اللي كل المصريين يفهموها بسهولة، أو بالزجل اللي يخلي الكلام يدخل القلب علطول، وكمان استعان بصحفيين مصريين كانوا منفيين زيه، أو من اللي خارجين هربانيين من قيود الخديو. وبدأ من العدد التامن يترجم المقالات للفرنساوي، عشان يوصل صوت المصريين للشعب الفرنسي، ويفهمهم إزاي الإنجليز بيتدخلوا في شؤون مصر وبيساندوا "الخديو" ضد الناس.

في ١٦ سبتمبر من نفس السنة طلع بجريدة تانية سماها "النظارات المصرية"، رسم فوقها نظارة، كأنه بيقول للناس فتح عينك وشوف الدنيا بوضوح. الجريدة دي كانت خيالها واسع، مليانة محاورات تمثيلية وأسلوب درامي كده يفتكرنا بمسرحه اللي اتقفل، كان بيرسم كاريكاتيرات تضحك، لكنه ضحك كالبكاء.

وفي سنة ١٨٨٠م، طلع بجريدة جديدة خفيفة الدم، اسمها "أبو صفارة"، وقال عليها إنها "هزلية أسبوعية لانبساط الشبان المصرية"، فيها أخبار من كل الجهات، وكان ده باب جديد خالص فتحه "صنوع" عشان يقول للناس اللي عاوز يضحك من قلبه ويفهم الدنيا، يقرأ الجورنال ده.

وفي فبراير سنة ١٨٨١م، نزل جريدة اسمها "الحاوي"، وكتب في صدرها بيت شعر لاذع بيقول فيه إن الحاوي بتاعه يقدر يطلع من البحر الداوي، ويكشف غشاشين السياسة ويحطهم في الجب الهاوي. كانت مليانة كاريكاتيرات ومقالات فيها خفة دم وسخرية، بس وراء الضحك ده كان فيه رسائل تقيلة. 

وفي سبتمبر ١٨٨٣م، ظهرت "الوطني المصري"، بعد سنة من الاحتلال الإنجليزي، كانت ست صفحات بدل الأربع المعتادة، وكان فيها مقالات مترجمة للإنجليزي، عشان يوصل صوته لأبعد مدى ممكن، ويفهم الإنجليز نفسهم هو شايفهم إزاي.

وفي سنة ١٨٩٩م، طلع بجريدة جديدة اسمها "المنصف"، وكتب في صدرها إنها "سياسية وأدبية وتجارية"، وكان بيهاجم فيها الإنجليز بمنتهى الشدة، وبيربط دايما بين كفاح الشعوب التانية زي البوير، وكفاح المصريين. كان بيشجعهم، ويقولهم قوموا، دي بلادكم، والإنجليز محتلينها، مش ضيوف. وكان دايما يقول للناس بصوا تركيا وصلت لفين في التعليم والثقافة، ليه ما نبقاش زيهم.

ومع دخول القرن الجديد، وتحديدًا في مارس ١٩٠٢م، طلع صنوع بجريدة أكبر شوية سماها "التودد"، وقال إنه سماها كده عشان إنجلترا كانت بتتودد لمصر، لكنها في الحقيقة بتخطط وتستعمر. الجريدة دي كانت بتحكي عن أخبار الزعماء، وتاريخ الملوك في الشرق والغرب، ومكنتش بتركز على أخبار مصر الحديثة، لكن دايما كانت بتلاقي فيها هجوم على إنجلترا، خاصة في حروبها الاستعمارية.

وكانت آخر محطاته الصحفية مع مجلة "العالم الإسلامي"، ودي كانت بالفرنساوي، واتميزت برسومات دقيقة وواضحة، وكانت بتركز على أحوال المسلمين والعالم العربي، وبترمز لهم برسم المساجد والقباب. بس المجلة دي مستمرتش كتير، وفسحت المجال لمحبوبته الأولى القديمة "أبو نضارة"، اللي فضلت تكافح وتقول كلمتها لحد سنة ١٩١٠م.

"يعقوب صنوع" كان واحد من الناس اللي ما بيهربوش من الكلمة، الكلمة كانت سلاحه، ورسوماته كانت رصاص في قلب كل ظالم، وورق جرناله كان ميادين كفاح، وكل عدد كان بيكتب فيه اسمه بحروف من نور، مش لأنه عاوز مجد شخصي، لكن لأنه كان بيحب مصر بصدق، وكان عاوز يشوفها واقفة، حرة، وتعيش بكرامة.

كان بيقرأ ويترجم ويكتب بلغات مختلفة، كأنه موسوعة ماشية على رجليها. كتب كتب تاريخية وأدبية بالفرنساوي والإنجليزي والإيطالي. يعني مش بس كان بيكلم العالم بلغته، ده كان بيكلمه بلغتهم هما كمان. ده كمان حاول يترجم جزء من القرآن للإنجليزي - وعشان تفهم الجزئية دي بشكل أوضح راجع الجزء الاول - بس المرض فاجئه سنة 1910م ومنعه يكمل اللي بدأه. كتب شعر بالإيطالي، وكمان ألف رسالة جميلة عن الدستور العثماني، خلط فيها بين الشعر والنثر زي ما يكون بيعزف موسيقى سياسية.

ولما عدى خمسين سنة على دخوله سكة الصحافة، اتعمله احتفال كبير سنة 1905م، بيوبيليه الذهبي، وكان وقتها أول صحفي عربي ياخد تكريم وهو لسه عايش، مش بعد ما يموت زي كتير. كمان أتكرم في حياته، وأخد وسام "النجوم التلاتة" وسام من الدرجة الاولي من سلطان زنجبار بنفسه. وأخد كمان وسام "سان ماينو" وسام من الدرجة التانية من رئيس جمهورية سان مارينو في إيطاليا. وأخد أوسمة من الدرجة التالتة والربعة والخمسة من ملوك ورؤساء كتير قوي.

توفى يعقوب صنوع سنة 1912م، وهو عنده حوالي 76 سنة، بعد رحلة كفاح طويلة مليانة مواقف ومسرحيات ومقالات، كلها كانت بتحارب الجهل والظلم والفساد. المحزن إن رغم كل اللي قدمه، مات بعيد عن بلده، واتدفن في باريس، في مقابر الغرباء اللي كتير من المنفيين المصريين كانوا بيتدفنوا فيها، لأنهم مقدروش يرجعوا مصر بسبب مواقفهم السياسية ونفيهم.

مروة طلعت
4/6/2025 
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
المصادر:
أبو نظارة إمام الصحافة الفكاهية المصورة وزعيم المسرح في مصر - د/ إبراهيم عبده.
يعقوب صنوع رائد المسرح المصري ومسرحياته المجهولة - د/نجوى عانوس.
يعقوب صنوع.. "موليير مصر" الذي هدد عرش الخديوي - مقال من موقع الجزيرة نت.
يعقوب صنوع مبدع حائر بين الصحافة والمسرح وفن الكاريكاتير - مقال من موقع إندبندنت عربية.
أبو نضارة المصري .. أول من جعل النساء تمثل على المسرح - مقال من أخبار اليوم.
يهود مصر منذ عصر الفراعنة - عرفة عبده علي.
الجزء الاول 
https://www.facebook.com/share/p/16bJ2R9ruj/
الجزء الثاني 
https://www.facebook.com/share/p/16gwa6YCp5/


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الليث بن سعد

الليث بن سعد 5

لوكاندة بير الوطاويط وأفتح أنا نادية بين كفتي ميزان