رفاعة الطهطاوي 2
"محمد علي باشا" كان شايف إن مصر وقت ما استلمها كانت بلد مدمرة اقتصاد منهار، شعب جاهل، قوى متفرقة (مماليك، عثمانيين، طوائف، زعامات محلية)، مفيش جيش حقيقي يحميها، ولا صناعة تقوم بيها. ومن اللحظة الأولى، حدد لنفسه هدف كبير أنه يعمل من مصر دولة عصرية تنافس أوروبا. من وجهة نظر "محمد علي" النهضة مش هتقوم والسلطة متفرقة، فكان لازم يتخلص من المماليك، ويحجم دور علماء الأزهر والمقاومة الشعبية، ويمسك الحكم بيد من حديد. هو كان شايف إن الإصلاح مش هيمشي بالمشاركة ولا التفاوض، لازم يكون فيه إرادة مركزية قوية، حتى لو ده كان على أساس من العنف والقسوة في الاول عشان كل قرد يلزم شجرته.
"محمد علي باشا" كان شايف إن لازم كل المؤسسات تشتغل في خدمة مشروع نهضة مصر، ومشي فعلا في مشروعه ببراعة، وعلى ايده مصر شافت النور. حتى لما اختلف مع السلطان العثماني، أو دخل حروب، كان دايما بيبرر ده إنه لخدمة قوة مصر.
"محمد علي باشا" كان عارف أن بداية رفعة الأمم من التعليم، كان على عكس السلاطين العثمانيين، كان شايف أن قوته وقوة ملكه في شعب متعلم يقيموا الدولة على أكتافهم بشكل علمي زي بلاد أوروبا. "محمد علي" مكنش جاي مصر يسرق ويجري زي غيره من الولاة، كان جاي يقعد عمره وعمر أولاده ويبني مجده ببلد قوية الاركان تحميه قبل ما يحميها، والاركان دي عشان تبقى صلبة لازم يبقى اساسها التعليم. بس هيعمل ايه في بلد كان أساسها الجهل والخرافات والشعوذة، الناس في مصر كانت بتبص للتعليم غير الديني نظرة فسق وفجور. حاول أنه يتكلم مع الناس ويتيح المدارس العسكرية ويغري الناس تتعلم، لكن النتيجة كانت برده عزوف الناس وبعدهم عن التعليم - الواد يتعلمله صنعة تجيب فلوس احسن ما يتعلم ويشغل نفسه بكلام فاضي مش جايب همه - وبكده الناس مسابتش فرصة تانية ل"محمد علي" غير الشدة.
"محمد علي" مكنش بيدور على رفاهية، كان عايز بُناة مشروع. وعارف إن الطبقة العليا مش هتبعت ولادها يتبهدلوا في مدارس شبه عسكرية، فقرر يخلق طبقة جديدة، من أطفال الشوارع، يكونوا ولاد المشروع، مطيعين، متعلمين، ومش مرتبطين بمصالح غيره.
في يوم فوجئ الناس في الحواري والاسواق برجال السلطة والعسكر، بيدخلوا الكتاتيب، ويتكلموا مع الشيوخ، ويسألوا عن الولاد الشطار الأشطر في الحفظ واللي عندهم نباهة. وفجأة علي الصراخ والهرج والمرج، صراخ الاطفال اللي أخدهم العساكر بالغصب ولموهم في عربيات، وصراخ الأهالي والامهات وهي بتترجى في العساكر يسيبوا أطفالهم، وهم مش فاهمين واخدينهم على فين وليه. المشهد ماكانش فيه دموع وصراخ بس، كان فيه حيرة، وخوف، واندهاش. لكن "محمد علي" مكنش شايف المشهد بنفس العين، كان شايف إن مصر مريضة، ولازم تتعالج بالبتر والكي، وإن العيال دول هم الأمل، مفيش وقت للإقناع، ولا رفاهية الاختيار. المهمة لازم تبدأ، وهتبدأ بأي تمن.
العيال أتجمعوا في معسكرات تعليمية في الصعيد، من كل محافظات مصر، عاشوا بعيد عن أهاليهم وبيئتهم، أتربوا على الصرامة والحزم والقوة، أخدوا تدريبات عسكرية مدروسة مع خبراء فرنسيين، مع التعليم الاساسي سواء ديني أو علمي. أتربوا من صغرهم على خطط وأهداف وأفكار مشروع "محمد علي"، فكبروا على ولائهم للبلد وللوالي، لحد ما وصلوا للسن اللي يسمح لهم الدخول في جامعات فرنسا، ودي كانت الخطوة التانية من المشروع الحضاري ل"محمد علي".
في سنة 1822م، لما تم "رفاعة الطهطاوي" 21 سنة، أتخرج من الأزهر، وبقى مدرس فيه. ولما كان يرجع طهطا يزور أهله، كان يقعد يشرح للناس هناك في جامع البلد."رفاعة الطهطاوي" من أول يوم في التدريس كان مميز، صوته واضح، وأسلوبه سهل، وما يحبش اللف والدوران، ولا الغموض اللي يخلي الطلبة تطلع من الدرس تايهة. تلميذه "صالح مجدي" بيحكي عنه وبيقول انه كان حسن الإلقاء، واللي يسمعه لازم يستفيد، مكنش فيه حد ياخد عنه درس إلا ويفهم ويستوعب، ويمكن كمان يتفوق فيه.
كان "رفاعة الطهطاوي" بيدرّس كتب في الحديث، والمنطق، والبيان، والبديع، والعروض، يعني خلط العلوم العقلية بالنقلية، ودي كانت حاجة مش شائعة قوي وقتها. وحلقات العلم بتاعته كانت دايما مليانة طلبة، ومشايخ، وناس كانت بتيجي مخصوص تسمع منه. وكان مشهور عنه انه بيعرف يقول المعنى الواحد بأكتر من طريقة، يعني لو واحد مفهمش من أول مرة، تاني مرة هيفهم، ولو مفهمش بالشرح، هيفهم بالمثال، ولو مفهمش بالمثال، هييجيبله المعنى بطريق تاني، كان عنده مقدرة في توصيل المعلومة والاقناع خارقة.
بس السر مش في رفاعة لوحده، السر الحقيقي كان في شيخه، "الشيخ حسن العطار".
"العطار" مكنش شيخ عادي، ده كان راجل سابق زمنه، لف بلاد، وشاف الناس بتتقدم حوالينا واحنا واقفين مكانا. سافر الشام، وقعد في الآستانة، واتعامل مع علماء الحملة الفرنسية لما كانت في مصر، واتعلم منهم زي ما علمهم. شاف الفرق بين علوم الأزهر وعلوم أوروبا، بين الحفظ والتلقين، والمعرفة اللي بتفتح أبواب التفكير. "العطار" قرر أن لازم حال بلادنا يتغير، ولازم المعارف تتجدد.
ومن هنا بدأ بنفسه، قرأ في التاريخ، وفي الجغرافيا، والطب، والفلك، والرياضيات. لكن الأزهر في الوقت ده مكنش مستعد للتغيير. الكتب دي كانت شبه محرمة، واللي يقرب منها بيتقال عليه خرج عن الطريق وممكن كمان يتكفر. بس "العطار" ما ستسلمش، لم حواليه تلاميذ مختلفين، عقولهم بتفكر، وقلوبهم بتدور على الجديد، وكان أقرب تلاميذه لقلبه هو "رفاعة الطهطاوي". شاف فيه مشروع عالم، ومشروع مصلح، فقربه، وفتحله باب العلم اللي مكنش مسموح بيه غير للي عنده شجاعة.
فلما "محمد علي باشا" بدأ نهضته، واحتاج شيخ مثقف يشتغل إمام في فرق الجيش الجديد، وسأل "الشيخ حسن العطار" عن الأنسب،مترددش "العطار" لحظة، ورشح "رفاعة الطهطاوي". وسنة 1824م، اتعين "رفاعة" إمام وواعظ في فرقة جيش "حسن بك المناسترلي"، وبعدها انتقل لآلاي "أحمد بك المنكلي". ومن هنا كانت أول خطوة في طريق "رفاعة الطهطاوي" للنهضة.
تعليقات
إرسال تعليق