الجاسوس علي العطفي 2
(2) "علي العطفي" دخل القصر في لحظة غفلة وتقصير رهيب من المخابرات العامة المصرية، لكنها اتلحقت بالجواسيس المزروعة في جهاز الموساد ذات نفسه، واللي الجهاز هناك مكنش يعرف عنهم حاجة. وبهمة وذكاء ومثابرة قلب الأسد "العميد محمد نسيم"، وقع "علي العطفي" في شر أعماله. ده من كتر ثقة "العطفي" في نفسه ومكانته وتأثيره، تخلى عن حذره بعد حرب أكتوبر، وخالف تعاليم الموساد، وبقى يبعتلهم رسايله اللاسلكية من بيته ومن القصر الجمهوري ذات نفسه - يا بجاحتك - وبرده من كتر ثقة الموساد فيه معترضوش، وكمان بقى يروحلهم سفارتهم في امستردام يطلع ويدخل كأنه بيت خالته عادي، لا ويتمشى مع ضباط الموساد في الشارع عادي، ما هو مفيش مبرر بالنسبة لهم لشك المصريين فيه، ميعرفوش بقى ان جهازهم أصلا مخترق من المصريين.
لما أكتمل الملف وأكتملت المعلومات، طلع مدير المخابرات العامة على القصر الجمهوري، مستغل سفر "علي العطفي" هولندا، وقدم ملفه للرئيس "السلدات، اللي كانت المفاجأة رسمت على وشه ملامح الصدمة والذهول، لدرجة أنه كدب المعلومات أصلا في الأول. وبعد ما تخطى مرحلة الانكار وأدرك مدى فداحة الموقف، طلب من مدير المخابرات القبض على "العطفي" في سرية شديدة عشان الفضيحة، ده جاسوس طالع من اوضة نوم رئيس الجمهورية بنفسه.
رجع مدير المخابرات على الجهاز وكلف العميد "محمد نسيم" بالقبض على "علي العطفي" بهدوء وبأقصى درجات السرية. بعت "نسيم" ضابط مخابرات مصري على هولندا يراقب "العطفي" وكلفه بمراقبته، وأنه يركب معاه نفس الطيارة وهو راجع، ويقبض عليه أول ما عجل الطيارة يلمس أرض مصر بهدوء ومن غير شوشرة، عشان في الوقت ده مكنش فيه مع هولندا اتفاقية تسليم مجرمين، ولو كان عرف "العطفي" أو حس بأي حاجة كان هيهرب ومحدش يقدر يمسكه.
فعلا فضل ضابط المخابرات يراقب "العطفي"، وأول ما حجز تذكرة الطيارة، راح حجز معاه على نفس الطيارة في نفس الميعاد، وقبل ما يركب الطيارة أتأكد تاني أن أسم "العطفي" من ضمن الركاب، وأول ما وصلت الطيارة مصر، أتكلم ضابط المخابرات مع كابتن الطيارة وعرفه على نفسه ومهمته وطلب منه ميفتحش الباب الا لما يقبض على "العطفي". راح الضابط لكرسي "العطفي" فوجئ أنه فاضي، يدور عليه في سلقط في ملقط فص ملح وداب. نزل ضابط المخابرات جري من الطيارة يتصل بالعميد "محمد نسيم"، فلقاه بيرد عليه ويقوله ان "علي العطفي" في بيته في مصر بقاله يومين، وأنه وقع في خدعة وهمية بيعملها "العطفي" دربه عليها الموساد عشان لو فيه احتمالية القبض عليه زي ما حصل كده.
وهنا قرر "محمد نسيم" أنه يقبض على "علي العطفي" بنفسه من بيته، بس كان عندهم مشكلة. "العطفي" كان عنده كلب شرس جدا في حديقة بيته، ولو اقتحموا الكلب ده هيخرب الدنيا ويعملهم فضيحة رهيبة في قلب الزمالك وسط حي السفارات اللي ساكن فيه "العطفي"، يعني هتبقى فضيحة دولية، لكن أكيد قلب الأسد مش هيغلب.
تاني يوم بيتصل ب"علي العطفي" صحفي كبير من مجلة أخر ساعة بيطلب منه عمل حوار صحفي، وده كان عادي لأن "العطفي" شخصية عامة ومشهورة وبيعمل ندوات ومؤتمرات ولقاءات اعلامية كتيرة. رحب "علي العطفي" بيه، وحدد معاه ميعاد في نفس اليوم، بس الصحفي طلب منه يدخل الكلب في أوضته عشان بيخاف من الكلاب، وافق "العطفي" ودخل فعلا الكلب.
الساعة 8 ونص مساء يوم 23 مارس1979م، في ميعاد وصول الصحفي، وصلت كام عربية دبلوماسية سودة، وده مكنش ملفت للنظر لأن "العطفي" كان بيروح رئاسة الجمهورية في عربيات شبهها. خرج من العربيات العميد "محمد نسيم" ومعاه رجالته، رنوا الجرس، الشغالة فتحت، افتكرتهم اللي عندهم ميعاد عادي، فدخلتهم الصالون، واول ما خرجت قام "نسيم" واقتحم مكتب "العطفي" اللي كان قاعد فيه.
رغم المفاجأة اللي كانت تقيلة ومفاجئة، حاول الراجل يبان ثابت ومايتأثرش، لكن العميد "محمد نسيم" مدالوش فرصة ياخد نفسه، وأمر رجاله ينتشروا في الشقة. طلع أمر النيابة وقال له بكل هدوءإحنا جايين نقبض عليك بتهمة التخابر مع دولة أجنبية. "علي العطفي" عمل فيها مصدوم، فتح عينه باندهاش مصطنع وابتدى يتكلم بصوت عالي بنبرة تهديد، كأنه بيخوف العميد! لكن "نسيم" مهزوش الكلام ده، وكمل تفتيش.
وفجأة دخل "شريف علي العطفي" طالب في كلية الهندسة، واتصدم من المنظر، وقال لأبوه بالألماني - لغة أمه الهولندية - هكلم جمال السادات، وأبلغه باللي بيحصل. بس ضابط منهم فهم الحوار وقال ل"محمد نسيم".
"نسيم" قال له بهدوء حاسم، يا دكتور عطفي انت متهم بالتخابر، ورئيس الجمهورية نفسه عارف بكل تفصيلة، ومستني يسمع خبر القبض عليك بنفسه. وقبل ما يرد "العطفي، "نسيم" طلع صورته قدام السفارة الإسرائيلية في هولندا. وهنا "العطفي" وقع من طوله وقعد على أقرب كرسي منهار وقال أنا هقول كل حاجة بس أنا كنت ناوي أتوب الأسبوع الجاي - مش فاهمة بصراحة الجملة العجيبة دي لزمتها ايه اشمعنى يعني الاسبوع الجاي - وسافرت أمستردام مخصوص علشان أقولهم مش عاوز أكمل معاهم. كنت ناوي أحج السنة دي، وضابط الموساد عرض عليا آخد مراتي وعيالي وأسافر على تل أبيب، بس أنا كنت بفكر أساعد مصر وأنا هناك.
العميد "محمد نسيم" ابتسم بسخرية وقال له عرض محترم جدا، طب ما احنا فيها واتعاون معانا نشتغل سوا، كنت بتتواصل مع الموساد ازاي بقى؟. "علي العطفي" قاله إن التواصل مع الموساد بيتم بخطابات مشفرة على ورق كربون، يكتبها ويبعتهالهم بالبريد. وقام من مكانه وجاب بلوك نوت عليه شعار المعهد العالي للعلاج الطبيعي - اللي هو كان العميد بتاعه - وكان في ورقة مكتوب فيها "بسم الله الرحمن الرحيم" دي كانت الورقة السحرية الكربونية اللي بيستخدمها كحبر سري - هعيط من كتر التقوى والإيمان - راح كمان مد إيده بين الكتب وسحب كتاب وقال ده كتاب الشيفرة.
العميد "محمد نسيم" مسك الكتاب وقلبه في ايده، وبحسه وبخبرته المخابراتية، عرف إن ده مش الكتاب الحقيقي، فسأله بحدة فين الكتاب الأصلي؟. خاف "العطفي" من حدة قلب الأسد المفاجأة وأرتبك، فقام وراح جاب الكتاب الحقيقي من مكان تاني. في الوقت ده، رجالة "نسيم" بدأوا يفتشوا البيت كله.
لما رجالة المخابرات دخلوا غرف البيت يفتشوا، أنتبهت زوجة "العطفي" للي بيحصل، فخرجت مذعورة، وراحت ع المكتب ومعاها الابن التاني "عمر"، وأول ما عرفوا الحقيقة، الزوجة انهارت واتصدمت، وصرخت فيه وشتمته وقالتله بتخون بلدك يا خسيس. على الرغم أنها هولندية ملهاش في التور ولا الطحين، لكنها كانت ست شريفة عندها مبادئ. وابنه كمان قاله كلام تقيل، أما "علي العطفي" فدخل في نوبة بكاء مستمرة لحد الساعة 7 الصبح.
الساعة 9 الصبح، خرجت عربية المخابرات وفيها "علي العطفي"، راكب وهو مكسور ومنكس الراس. وفي نفس الوقت، كان فيه فرقة تانية وصلت للمعهد العالي للعلاج الطبيعي، مكان شغله كعميد، وفتشوا مكتبه. وهناك لقوا جهاز إرسال لاسلكي متطور جدا مخبيه في مكان سري محدش غيره يعرفه. وخرجت الفرقة من المكتب بعد ما شمعوه.
من ساعة ما خرجت فرقة الضباط رايحة على بيت "علي العطفي"، ورئيس جهاز المخابرات قاعد في مكتبه مش بيقوم، بيتابع بالتليفون مع "محمد نسيم" كل لحظة بلحظة. الصبح دخل "محمد نسيم" مكتب رئيس المخابرات، وأدى التحية العسكرية بكل هدوء وقال تمت المهمة يا فندم، العطفي بقى في ايدينا. رئيس جهاز المخابرات مسك التليفون على طول وكلم الرئيس "محمد أنور السادات"، اللي كان قاعد برده مستني التليفون على نار. بس من المدهش أن الرئيس "السادات" قال له هات نسيم، وعاوزكم تيجوا على استراحة الهرم دلوقتي.
راحوا لأستراحة الهرم وقعد العميد "محمد نسيم" يحكي للرئيس "السادات" كل التفاصيل إزاي "العطفي"، الراجل اللي كان بيشتغل مدلك خاص للرئيس نفسه، طلع بيشتغل للموساد، وازاي أكتشفوه، وازاي بحث عنه، وازاي ثقته الزايدة عن اللزوم وقعته وكشفته، وإزاي لقوا عنده أجهزة وأدلة تثبت الخيانة.
"السادات" فضل يسمع كل التفاصيل ووشه كل شوية بيتغير، لسه مصدوم في انسان مقرب جدا منه، وبعد ما خلص "نسيم" عرض كل التفاصيل والمستندات وملف "العطفي"، قال "السادات" بحسم القضية دي تتقفل بكتمان تام، ولا كلمة تطلع للصحافة.
التحقيق استمر حوالي 20 يوم، وكتبوا اعترافاته في أكتر من 1000 ورقة فلوسكاب. في الأول "العطفي" حاول يخفف من اللي عمله، وقال أنا ما بدأتش أشتغل معاهم غير من 1976 - على أساس أن كده الخيانة تبقى خفيفة وحلوة وبسمسم - لكن المخابرات كانت مجهزة معلوماتها الدقيقة، وجابت تقرير بيقول إنه شغال مع الموساد من سنة 1972م، وإن جهاز اللاسلكي اللي كانوا راصدين تردده من وقتها طلع بتاعه هو، وكان بيبعت منه رسائل مشفرة. من ضمن الأحراز اللي لقوها عنده كان جهاز عرض ميكروفيلم، وكارت بوستال فيه جيب سري للميكروفيلم، وكل ده كان مستخدمه في نقل المعلومات.
في يوم 3 أبريل 1979م، المدعي العام الاشتراكي أصدر قرار بمنع "علي العطفي" وزوجته وولاده من التصرف في أي ممتلكات. القضية دخلت محكمة أمن الدولة العليا، القضية رقم 4 لسنة 1979، والمحكمة حكمت عليه حضوريا بالإعدام شنقًا. لكن "السادات" أتدخل وخفف الحكم لـ 15 سنة أشغال شاقة.
رغم الضغوط اللي جات له من مناحم بيجن، رئيس وزراء إسرائيل، وقت مفاوضات السلام… السادات رفض يفك الحصار عن العطفي أو يبادله. وفي مارس 1981م، محكمة القيم حكمت بمصادرة كل أمواله لصالح الدولة، وقتها كانت ثروته تقدر بـ 2 مليون و200 ألف جنيه، مبلغ كان مهول وقتها.
نيجي هنا لسؤال مهم، ليه الرئيس "أنور السادات"، رغم الغضب والخيانة الكبيرة، خفف الحكم من الإعدام للأشغال الشاقة 15 سنة على "علي العطفي".
فيه 3 تفسيرات رئيسية من مصادر قريبة من الملف الأمني والسياسي وقتها. التفسير الأول أن السادات كان عايز يظهر قدام العالم كزعيم إنساني، وكان السادات بيحاول يثبت للعالم إنه مش بيحكم بالانتقام، وده متماشي مع مبادئ السلام اللي عمله في كامب ديفيد، فتخفيف الحكم كان ممكن يظهره في صورة القائد المتسامح العادل، خصوصا إنه كان عارف إن مصير "العطفي" في السجن هيكون أتعس من الشنق نفسه. التفسير التاني عشان يحافظ على سرية العملية ويمنع إثارة الرأي العام. إعدام شخص كان قريب من رئاسة الجمهورية، وممكن يكون ليه صور أو أسرار، كان هيعمل فضيحة ضخمة، وتخفيف الحكم وسجنه في صمت كان أنسب للمخابرات من الضجة اللي هتحصل لو اتعدم. التفسير التالت أنهم يستفيدوا منه كمصدر معلومات بعض المصادر بتقول إن "العطفي" بعد ما انهار بدأ يعترف، لكن حواراته كانت مليانة لف ودوران، ممكن "السادات" والمخابرات شافوا إنهم يستفيدوا منه أكتر وهو حي، فيقدروا يحققوا معاه على فترات، ويستخرجوا منه خيوط لعمليات تانية.
بعد الحكم على "علي العطفي"، ابنه الكبير "شريف" نشر إعلان كبير في الجرايد بيقول فيه: "أنا بريء من والدي… واستنكر خيانته لمصر". وكذلك ابنه التاني ومراته اتبروا منه.
في أوائل التمانينات، حصلت مفاجأة مدوية… اسم "علي العطفي"، اللي كان وقتها في السجن بتهمة التخابر مع الموساد، طلع تاني فجأة في النور، لكن المرة دي مش كجاسوس، كمتهم في قتل الرئيس "جمال عبد الناصر" بنفسه.
ده اللي هو إزاي؟ 🤯 فيه كتاب مجهول ظهر فجأة يُقال أن "علي العطفي" كتبه في السجن، كاتب فيه أنه كمان كان المدلك الخاص ل"عبد الناصر"، وإنه قتله بكريم مسموم دهنه له بيه على جسمه، والسم دخل ببطء، وقتله.
طبعا الكلام ده إشاعة، لو راجعت الجزء الأول من الحكاية، هتلاقي فيه تحليل نفسي ل"علي العطفي" وأنه كان مهووس شهرة وظهور، حاجة كدة زي فيلم الفنان "حسن يوسف" لما أعترف على نفسه بالكدب أنه قاتل وعرض نفسه للإعدام عشانن يتكتب عنه في الجرايد ويتشهر.
بس الإشاعة دي ربكت الناس، وفيه منهم صدقوها، خصوصا لما ربطوا الحكاية بكلام غامض قاله الزعيم الصيني وقت زيارة وفد مصري بعد وفاة "جمال عبد الناصر"، وكان على رأس الوفد "حسين الشافعي". الزعيم الصيني قال لهم: "كان عندكم راجل ثروة… وفرطتوا فيه!". الكلام ده ظهر في مذكرات "الشافعي" بعد أكتر من 20 سنة… وقتها الناس بدأت تستخدم نظرية المؤامرة وتقول ان "عبد الناصر" كان بيتعالج في مصحة في الاتحاد السوفيتي سنة 1966م، وكانوا هناك بيدلكوه ويستخدموا كريمات علاج. لكن لما ظهر اسم "علي العطفي" في الكتاب ده، رجحوا إنه هو اللي دس السم بإيديه… وإنه كان أداة الموساد، وقتل "عبد الناصر". الجرايد كمان مكدبتش خبر واصطادوا في الماية العكرة، وبدأت تتكلم وتنشر وتحلل، والناس بقت بين مصدق ومكذب…
الاشاعة دي فضلت الناس بتتناقلها لحد يوم 9 ديسمبر سنة 2004م، لما نشرت جريدة الوفد رد رسمي من "سامي شرف"، مدير مكتب "جمال عبد الناصر" ووزير شؤون الرئاسة، وقال الكلام ده كدب، "علي العطفي" عمره ما اشتغل مع "عبد الناصر" لا من قريب ولا من بعيد، واسمه مش موجود أصلا في سجل زيارات الرئيس اللي محفوظ في رئاسة الجمهورية. ووضح إن كل الأوراق الرسمية لقضية "العطفي" مجابوش فيها سيرة "عبد الناصر" خالص، كل التقارير أثبتت إن "العطفي" اتجند لحساب الموساد بعد وفاة "عبد الناصر" بسنين.
وبعد مقتل "السادات"، و"مبارك" مسك الحكم، "العطفي" بعت أكتر من التماس يطلب الإفراج الصحي. آخر مرة كانت سنة 1987م، وكل مرة كان "مبارك" بيرفض طلبه. وفي السجن، "العطفي" أصيب بالعمى، وقعد باقي عمره أعمى ومكسور، من غير زائرين، من غير أي إعتبار.
وفي يوم 1 أبريل 1990، مات ونفق. فبعتت الداخلية لأسرته عشان تستلم جثمانه، لكن أسرته أنكرت معرفتهم بيه ورفضوا استلام جثته. فاندفن في مقابر الصدقة… عاش خاين ذليل ومات منسي حقير.
مروة طلعت
تعليقات
إرسال تعليق