(2) أيام الاسرة العلوية، وبالتحديد مابعد "محمد علي باشا" لحد "الخديو عباس حلمي التاني"، كانت كل الطوائف في مصر متساوية قدام القانون، وبين الناس وبعضها. يعني كان الشعب المصري نسيج واحد طوائفه متشابكة، متعرفش تفرق بين المسلم والمسيحي واليهودي. يهود مصر وقتها كانوا مدمجين جدا في الحياة اليومية، لبسهم، لغتهم، تعاملهم مع جيرانهم، وحتى دخولهم المدارس زيهم زي باقي المصريين. وزي المسلم والمسيحي بعضهم اتعلم في مدارس البعثات أو مدارس أجنبية. مكنش فيه اضطهاد، بالعكس ده بعض اليهود وصلوا لمناصب اقتصادية كبيرة وقتها، وشاركوا في الحركة الفنية والأدبية خصوصا اللي اتفتحت مع النهضة الحديثة أيام "الخديو اسماعيل". مكنش فيه وقتها عصبية دينية أو خلاف أو تحيز، ومكنش فيه كراهية لليهود، بالعكس كان الكل عنده أنتماء للوطن والأرض اللي عايش عليها.
أمتى المصريين بدأوا يبصوا لليهود بنظرة شك؟ لما بدأ التوسع الأوروبي في مصر، خصوصا بعد امتيازات الأجانب أواخر عهد "الخديو اسماعيل" وبداية حكم "الخديو توفيق"، وقتها كتر عدد اليهود في مصر، لأنهم مبقوش يهود مصريين وبس، ده فيه من جنسيات أجنبية فرنسية وانجليزية وإيطالية. وفجأة زاد نفوذ اليهود الاقتصادي والاجتماعي، حتى المصريين منهم، على عكس المسيحيين مثلا اللي فضلوا على وضعهم زي ماهم، وده خلى اليهود محل شبهة في عين بعض المصريين.
طيب زيادة النفوذ دي جت اعتباطا كدة، ولا كان وراها محرك رئيسي؟. "الماسونية" طبعا. عشان نبقى بس في بؤرة الفهم، لازم ناخد بالنا من حاجة مهمة، أن في القرن ال 19 كانت سمعة الماسونية حلوة جدا، مكنتش منظمة شيطانية، زي ما أصبحت في النص التاني من القرن العشرين. كانت وقتها منظمة بتقدم نفسها كـ"حركة تنويرية" لا دينية، ليها صِلات بتيارات إصلاحية أو حتى معارضة. وكتير جدا من مثقفين العصر ده ورواده ومؤثرينه من الأديان المختلفة كانوا منضمين للمحافل الماسونية وكانوا بيفتخروا بده، لأنه زي ما وضحت أن وجهت نظرهم أنها منظمة اصلاحية تدعو للحق والخير والمساواة والأخاء، يعني نية الأعضاء المنضمين في أقل مراتب الماسونية - عشان هي منظمة هرمية ليها طبقات - كانت خير وفاهمين أن الأهداف المعلنة هي نفسها الأهداف الباطنة، حاجة كده زي اللي صدقوا ثورات الربيع العربي وكانوا فاكرينه بداية أصلاح. ومن أبرز وجوه المحافل الماسونية في مصر كانوا "جمال الدين الافغاني" و "عبد الله النديم" و "الإمام محمد عبده" و "سعد زغلول" و"سليم تقلا" و "يعقوب صنوع". المنظمة وقتها كانت بتدعم المثقفين والصحفيين والفنانين ماديا ومعنويا، وبتشجع حرية الرأي والتعبير، وبتقف ضد الاستبداد ولو بشكل رمزي.
"يعقوب صنوع" لما برز أسمه في المجال الفني والثقافي، وكمان أتفتحله أبواب قصر عابدين، واتقرب ل"الخديو إسماعيل"، ده خلى عين المنظمة تركز عليه. وكان طبيعي أ "يعقوب صنوع" له كتير من الاصدقاء المثقفين المخلصين في جميع المجالات، واللي فيهم أعضاء في المحافل، عشان كده كان سهل جدا أنضمامه ليهم وخصوصا لما ظهروا من الجانب الوطني ولعبوا على وتر العدالة والاخاء والمساواة.
لما "الخديو إسماعيل" عجبه مسرحيات "يعقوب صنوع" اللي شافها على مسرح قصر النيل - راجع الجزء الأول - طاب منه يأسس مسرح قومي بأسم مصر ويديره "يعقوب" بنفسه. وفعلا أسس "يعقوب صنوع "المسرح القومي" وأشتغل عليه 32 مسرحية من تأليفه وألحانه وأخراجه، في 200 ليلة عرض، والحياة كانت مزهزة معاه والخديو والحاشية الملكية راضيين عنه، وأسمه سمع في القاهرة والمحافظات زي الطبل، والدنيا معاه كانت زبادي خلاط ع الآخر.
مسرح "صنوع" طلع للنور في وقت كان فيه الجمهور مكنش فاهم يعني إيه مسرح أصلا. الناس مكنتش متعودة تشوف تمثيل مسرحي، ولا تعرف تقاليده، ولا إيه اللي المفروض يحصل على الخشبة. يمكن الباشاوات والأمراء كانوا شافوا مسرح بره أو عندهم فكرة، لكن دول مكنوش كل جمهور "صنوع"، هو مكنش بيكتب في الأساس عشان الصفوة، كان بيكتب للغلابة، للطبقة اللي زيه، للناس اللي في الشارع والحواري، اللي بيشتغلوا ويتعبوا وعاوزين حد يحس بيهم ويعبر عنهم.
وعلشان الناس دي مكنوش اتعودوا على المسرح، كان لازم يتعلموا إزاي يتفرجوا عليه ويفهموه. "صنوع" ما استسلمش، كان قبل كل عرض يطلع قدام الناس، ويشرح لهم بإيده كده فكرة المسرحية اللي هيشوفوها، ويحكي لهم المغزى منها، سواء كان اجتماعي أو أخلاقي، علشان يفهموا ويتفاعلوا، "صنوع" كان مؤمن إن المسرح مش بس للضحك، لكن كمان للتوعية، وإن خشبة المسرح، ممكن تبقى منبر للتغيير.
رغم إن "صنوع" كان قلبه متعلق بالتمثيل من وهو صغير، وكان المسرح بالنسباله مش مجرد تسلية، إنما منبر بيقول منه اللي في نفسه، لكنه كان عاوز منبر تاني يتكلم فيه ويسمعه جمهور تاني غير جمهور المسرح. في سنة ١٨٧٢م، قرر يفتح بابين مش باب واحد، أسس جمعيتين أدبيتين علميتين، سمى واحدة "محفل التقدم"، والتانية "محفل محبي العلم"، وكان هو اللي ماسك رئاستهم. الجمعيتين دول مكنوش مجرد تجمعات للدردشة، دول كانوا أماكن بيلقي فيه "صنوع" محاضرات عن العلوم والآداب في أوروبا، وكان كمان بيستغلها في خطب نارية عن السياسة والحكم، يقول فيهم اللي محدش يقدر يقوله في السياسة، ويقف قدام الناس يتكلم بحرية، ومعاه زمايله من أعضاء الجمعيتين، اللي كانوا كلهم بيحلموا بتغيير حقيقي.
الجمعيتين دول كان بيحضرهم مسلمين ومسيحيين ويهود، وده كان أثبات إن التعصب الديني اللي الغرب بيحكي عنه، مش موجود عندنا. لكن للأسف، فرحة "صنوع" ما طولتش. الإنجليز اللي كانوا بيخططوا للاحتلال مكنوش عاوزين أي صوت حر يظهر، عشان كده قالوا للخديو، خد بالك "صنوع" بيعمل ثورة ضدك من داخل الجمعيتين دول.
"الخديو إسماعيل" ما صدق، وبدل ما يتحقق أو يسمع من "صنوع"، راح منع العلماء وضباط الجيش وطلبة الأزهر إنهم يحضروا الجمعيتين. وبكده اتقفلوا هما كمان، واتسد الباب التاني اللي كان "صنوع" بيطل منه على حلمه. لكنه برده ميأسش وأشتغل من تحت لتحت، وأشترك مع شباب الحزب الوطني، يطبعوا ترجمات البرقيات اللي كانت بتيجي من أوروبا، ويوزعوها في البلد، عشان الناس تعرف الحقيقة، ويكتب مقالات، ويخطب في الندوات، كل ما يلاقي فرصة. "الخديو إسماعيل" بقى متضايق جدا، وبقى أمله يخلص من المشاغب ده اللي عامل زي الزيبق ملوش ماسكة، "صنوع" بقى صداع في رأس السلطة، وصوت مش قادرين يسكتوه بسهولة.
في يوم فجأة بيفتح ستار مسرح "يعقوب صنوع" على عرض مسرحية أسمها "الوطن والحرية"، وفيها ضحك الجمهور على أخطاء الخديو وفساد القصر، نوع من أنواع الكوميديا السوداء، اللي بتخلي الناس تفكر، والسلطة تغضب. وفعلا السلطة غضبت، و"الخديو إسماعيل" هاج وماج، وأرغى وأزبد، وكتب أمر بغلق مسرح "يعقوب صنوع" وحل فرقته، ومش بس كده وأمر كمان بنفي "يعقوب صنوع" من مصر لفرنسا. عشان لو سجنه أو صفاه هيتحول لبطل شعبي، و"الخديو إسماعيل" أكيد مش عاوز كده، والنفي هيخليه يتنسي ويموت بالحياة في ذاكرة الناس الي شافوا مسرحياته وأتأثروا بيه. لكن "يعقوب صنوع" مداش فرصة للناس أنها تنساه، كان بعيد عن العين وقريب من القلب.
"يعقوب صنوع" كان صاحب السبع صنايع بس البخت مش ضايع، وراه تمويل سانده ومشجعه، ولما سافر باريس لقى الحبايب كلهم في استقباله هناك "جمال الدين الافغاني" و "الامام محمد عبده" و "أديب اسحاق" و "إبراهيم المويلحي" و"خليل غانم" وغيرهم. في فرنسا واصل "يعقوب صنوع" دعايته الوطنية وأشترك في الحملات الصحفية اللي كانت على "الخديو اسماعيل" واللي أتسببت في النهاية الى اسقاطه. وبعد الاحتلال البريطاني لمصر سنة 1882م، لما أتنفى "أحمد عرابي" لجزيرة سيلان، كان بيبعتله "صنوع" رسايل دايمة من باريس. وماذا بعد؟ لا مش هقولك دلوقتي ايه اللي بعد كده خليها بكرة.
(يتبع)مروة طلعت
3/6/2025
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
المصادر:
أبو نظارة إمام الصحافة الفكاهية المصورة وزعيم المسرح في مصر - د/ إبراهيم عبده.
يعقوب صنوع رائد المسرح المصري ومسرحياته المجهولة - د/نجوى عانوس.
يعقوب صنوع.. "موليير مصر" الذي هدد عرش الخديوي - مقال من موقع الجزيرة نت.
يعقوب صنوع مبدع حائر بين الصحافة والمسرح وفن الكاريكاتير - مقال من موقع إندبندنت عربية.
أبو نضارة المصري .. أول من جعل النساء تمثل على المسرح - مقال من أخبار اليوم.
يهود مصر منذ عصر الفراعنة - عرفة عبده علي.
الجزء الاول
https://www.facebook.com/share/p/16bJ2R9ruj/
تعليقات
إرسال تعليق