في حضرة العيد 4
المباني اللي حوالين الهرم هناك عبارة عن أماكن معمولة بدقة علشان تستقبل طقوس عيد سد بكل عظمته. راجع الحلقة التالتة عشان تدخل معانا في المود، اللينك أخر المقال.
نفس الفكرة هنلاقيها مع الملك "نى أوسر رع" اللي حب يخلد العيد ده في معبد الشمس بتاعه في "أبو غراب"، وهناك حفر مناظر جميلة على الجدران، وكأنه بيحكي للعالم كله عن أمجادة وعظمة احتفاله.
بس بصراحة تفاصيل الاحتفال بعيد سد مكتوبة بروعة وبتفاصيله الدقيقة في معبد الملك "أمنحتب التالت"، "صولب" في النوبة. سجل كل حاجة، من أول التقديمات لحد الرقصة، ومن أول التحية الإلهية لحد لحظة تتويج الملك من جديد كرمز للخلود. وحتى الأحجار اللي اتبعثرت في متاحف الدنيا كلها، سواء في أوروبا أو غيرها، لسه بتحكي عن عيد سد.
والبوابة العظيمة بتاعة "أوسركون التاني" في تل بسطه بالزقازيق، دي كمان سجلت وخلدت تفاصيل عيد سد في التاريخ. ومن أجمل الطقوس اللي بنشوفها متسجلة كأنها لقطة سينمائية، هو طقس التتويج. موجود بوصف دقيق على بردية الرامسيوم. وفي كل نقش، الملك بيظهر فيه كأنه بيتولد من جديد… بيلبس تاجه، وبيرجع في لحظة واحدة شاب قوي، جاهز يحكم تاني من أول وجديد.
ولما اكتشفوا مقبرة واحد "خروج إف" واحد من كبار رجال عهد الملك "أمنحتب التالت"، لقوا فيها كنز من المعلومات. المقبرة سجلتلنا إن الملك احتفل بعيد سد تلات مرات - في الحلقة اللي فاتت عرفنا أن عيد سد مفروض بيحتفل بيه الملك كل 30 سنة لو فترة حكمه طالت، لكن فيه ملوك كانوا بيحبوا يحتفلوا بيه قبل المدة - مرة في سنين حكمه التلاتين، والتانية في السنة 34، والتالتة في 36. كل مرة منهم كانت مناسبة عظيمة، ومنقوشة برسومات جديدة بتكشف لنا أسرار كنا نجهلها.
وفي عصر الرعامسة، لما كان الاحتفال بيتعمل في منف، كان الملك بيبقى واقف وسط الآلهة، تحت مظلة بتاح نفسه، الآلهة كلها – بضيوفها وأعلامها وكهنتها – بيجوا من كل أنحاء مصر يقدموا التهاني، وتماثيلهم بتترصّ على صفين في فناء كبير، والملك يبدأ العيد بنفسه، ماشي على رجله، وسط موظفيه، يزور كل إله ويغمره بالتقديمات.
ومن الطقوس المدهشة في عيد سد، هي اللقطات اللي بتصور الملك وهو بيجري سباقات مبارزة بالخيول طويلة وغالبا دي بتبقى حاجات صورية متفق على خطواتها بحرص شديد، خصوصا أن الملك في الوقت ده بيبقى عجوز فالكهنة كانت بس بتجمل صورته نفاقا أنه لسه شباب. وكمان فيه لقطات وهو بيرقص قدام الإله، وهو محمول على محفة وسط مواكب من أرواح الوجه القبلي والبحري. مناظر زي اللي على الجدار الجنوبي لحجرة الولادة في معبد الأقصر، بتحكي عن ملك بيجدد عهده مع الخلود.
الاحتفال بعيد سد كان أشبه بمهرجان ملكي ضخم، له ترتيباته ومنشآته الخاصة اللي كانت بتتبني مخصوص علشانه. كانوا بيعملوا للملك مقاصير عالية، فوق سطح مرتفع، يوصل لها بسلمين، كأننا بنتكلم عن مسرح سماوي، وكان فيه مباني جنبها مخصصة لغرف الملابس، اللي فيها الملك يغير هدومه في كل مرحلة من مراحل الاحتفال، ولا حنة شيماء، كل فقرة من فقرات الاحتفال يقوم الملك يلبس لبس جديد مختلف، وكل طقم بيلبسه بيبقى مخصوص عشان يعبر عن مشهد جديد في المسرحية الإلهية.
المباني دي كانوا بيسموها "منازل ملايين السنين" اسم تقيل كده، كأنه بيت لملك خالد. الملك كان بيظهر مرة بتاج الجنوب، ومرة بتاج الشمال، ومرات ملفوف في عباءة بيضاء فخمة ميبانش منه غير إيديه، واقف قدام تمثال الإله، اللي جالس فوق عرشين معمولين له مخصوص، محطوطين على منضدة عالية بيطلع لها بدرج، وتغطيه مظلة كأنه بيتوج تاني كل مرة، وحواليه رجال البلاط، وحملة الأعلام جايين يستقبلوه بكل الهيبة والاحترام.
أما الأطفال الملكيين، فكان ليهم مشهد تاني خالص، قاعدين على محفة غريبة الشكل، يتابعوا منها احتفالات العيد والتتويج الجديد لأبوهم الملك بكل فخر.
هنا يجي الدور العجيب لسفينتي الشمس. نصوص الأهرام بتحكي إن الإله رع كان بيركب سفينة الصبح ويمشي من الشرق وهو مولود جديد، ولما الشمس تغرب، يركب سفينة تانية مخصوصة للمساء. السفينة دي بتنزله لعالم الأموات، يعدّي الليل كله، وبعدين يرجع يولد تاني مع شروق الشمس، ده اللي بيمثله الملك لما يحتفل بعيد سد، بيعيش نفس الرحلة، كأنه بيموت ويرجع يتولد من جديد.
العيد ده مكانش له شكل ثابت، كل عصر كان بيحتفل بيه بطريقته، حسب معتقداته وتقاليده، لكن الجوهر فضل واحد وهو أن الملك بيتجدد، والبلد كلها بتعيش من خلاله. ولو حبينا نشوف وصف فعلي للعيد، نرجع للجدار الشمالي في مقبرة "خرو إف"، هنلاقي الملك "أمنحتب التالت" لابس زيّ العيد، قاعد جنب زوجته الملكة "تي" - أشهر حماة في التاريخ المصري كله، كانت حماة الملكة "نفرتيتي" وأم "أخناتون" تقريبا هي اللي ورثت ماري منيب سر الصنعة - وراهم واقفة الإلهة حتحور، وهم بيشرفوا بنفسهم على توزيع الهدايا، أطواق دهب، وسمك، وطيور دهبية، هدايا كان بتتوزع على الأشراف.
وفي مشهد تاني من نفس المقبرة، كان الملك "أمنحتب التالت" والملكة "تي" بيطلوا من بوابة القصر المزدوج، وقدامهم عشر كهنة، كل واحد شايل رمز مقدس مرفوع على علم، وأميرات صغيرين شايلين سلال وبيعلبوا بالصاجات في مشهد مبهج كله حياة. وفي أقصى الطرف الشمال، نلاقي سفينة الشمس، بيجرها عشرين من كبار موظفي القصر، جواها محراب صغير، وفوقه تمثال للإله حورس الطفل، وفي قلب المحراب، الملك واقف بملابس العيد، شايل السوط والعصا المعقوفة، ورا منه الملكة "تي"، واقفين في صمت ملكي كأنهم بيعيدوا كتابة البداية. وتحت كل ده منظر جميل لبنات بيرقصوا رقصة دينية، خطواتهم خفيفة، وكأنهم بيرقصوا للحياة.
بعد ما الملك يخلص ولائمه الملكية، ووزع عطاياه على الأشراف ورجال البلاط، يبدأ الجزء الأعمق والأقرب للروح في الاحتفال، موكب مهيب، يمشي فيه الملك، خطوات محسوبة وهو رايح ناحية البحيرة المقدسة اللي كانت دايما بتشهد الطقوس الكبيرة المرتبطة بالحياة والموت. ينزل الملك بنفسه في "سفينة الشمس الليلية" السفينة رمز للموت، للسكون، للعبور للعالم الآخر. الملك في السفينة كأنه بيتحد مع رع، إله الشمس اللي بيغيب كل ليلة، وبيسير حوالين البحيرة، رحلة قصيرة في المكان، بس طويلة في المعنى. ولما الموكب يكمل دورته، ينتقل الملك لسفينة تانية وهي "سفينة النهار" رمز للبعث، للولادة الجديدة، زي رع لما بيشرق من تاني كل صباح.
اللي بيشدوا السفينة في المسرحية الإلاهية موظفين مخصوصين، كانوا بيتسموا "موظفي سفينتي الشمس"، أما اللي معاه على السفينة، بيمثلوا الآلهة المصاحبة لرع في رحلته، اللي بيحموا النور وسط ظلمة العالم الآخر.
وبعد الموكب البحري، تيجي اللحظة اللي الكل بيستنّاها، الذروة الدرامية، الرقصة الطقسية. الملك يقف وسط الاحتفال، يخلع نقبته الملكية الطويلة - الرداء اللي كان بيتلف حوالين وسطه في المناسبات الرسمية ـ ويلبس نقبة تانية قصيرة، متثبت فيها من ورا ديل حيوان رمز للقوة والبقاء، ويلبس تاج الجنوب، وفي إيده صولجان صغير، وعصاية راعي، كأن اللي واقف قدامنا هو الراعي، والقائد، والإله المجدد.
وفي المرحلة الأخيرة من العيد، الملك يتحرك في موكب ضخم، رايح لزيارة هيكلين كبار هم هيكل حورس وهيكل ست، الاتنين مع بعض كانوا رمز للاتزان والقوة. وهناك يسلموه أربع سهام، سهام النصر، كل سهم بيتجه ناحية من نواحي الكون الأربعة، كأن الملك بيعلن سيطرته، وبيطلق قوته في كل اتجاه، علشان يمحو أعداءه، ويثبت إنه اتولد من جديد.
بعد ما الملك يمر بكل طقوس العيد ويقدم الهدايا ويطوف حوالين البحيرة، العيد بيوصل لذروته، واللي نقدر نلخّصها في تلات مراحل رئيسية، كأنك بتشوف فيلم من تلات فصول.
الفصل الأول: التجديد
الملك بيظهر لابس جُبّة كبيرة مغطياه من راسه لرجليه، في لحظة كلها رهبة وسكون، والناس حواليه مستنية اللحظة دي بفارغ الصبر. الجبّة دي مش مجرد لبس، كانت رمز، إعلان واضح إن الملك بيبدأ من جديد، كأن الحياة بتتجدد فيه، وإنه بيطلب من الآلهة يمدوا له في العمر ملايين السنين.
الفصل التاني: العيلة المالكة
وبييجي بعد كده ظهور الملكة والأولاد الملكيين. المشهد ده مهم جدا، لأنه مش مجرد استعراض، ده تأكيد رسمي على شرعية الملك، على إنه مش ملك لوحده، ده جاي من نسل ملكي، وعنده اللي هيكمل بعده. وجود الملكة كان مهم جدا وضروري لأنه بيقول إن الحكم ليه جذور، وإن العرش له سند - أهم حاجة المصري مورثهاش من أجداده - الملكة هنا مش بس الزوجة، دي الأم، والوريثة، والقوة الداعمة، والضهر اللي بيقف عليه التاج.
الفصل التالت: الاندماج والخلود
وفي لحظة من أعمق ما يكون، الملك بيدمج نفسه مع الإله أوزير، رب الموتى والبعث، وسط حضور رجاله الكبار، ووجوه البلاط كلها. وده بيحصل قدام عمود "جد"، اللي بيمثل الثبات والخلود، في قلب نهار العيد. المشهد ده بيقول للناس إن الملك مش بس بيحكم، ده بيعيش رحلة إلهية… بيموت… وبيتولد تاني.
كل ده بيرمز لدورة الحياة، الشمس اللي بتطلع من الشرق كل صباح كأنها مولودة من جديد، وبتغرب في الغرب كأنها ماتت، وترجع تاني. والملك في عيد "سد" بيمثل الدورة دي بنفسه، يعيشها على الأرض، قدام عيون كل الناس، علشان يثبت إنه ابن الإله رع، والممثل الحي للخلود على الأرض.
يا الله ع الجمال الواحد وهو بيحكي ويتخيل بس، كأنه بيلهث من العظمة والأنبهار، أحنا بعاد أوي يا لطيف.
مكنش ينفع بعد العظمة دي كلها نحكي عن عيد تاني جنبه، عشان كده الحلقة الجاية هنحكي عن عيد ملكي تاني صغير كده وهو عيد افتتاح المعبد. أستنوني 👋
مروة طلعت
تعليقات
إرسال تعليق