في حضرة العيد 2
(2) تعالى أخدك معايا في رحلة عبر الزمن لمصر القديمة، لكن الرحلة دي مرشدنا فيها هيكون رحالة ومؤرخ يوناني اسمه "هيرودوت"، حضر مصر في القرن الخامس قبل الميلاد، ومنه هنسمع حكاويه.
"هيرودوت" لفت نظره إن المصريين أكتر شعب شافه في حياته متعلق بالآلهة، مش بس بيعبدوها، دول كانوا تقريبا عايشين بيها، وكل خطوة في حياتهم فيها طقس ودعاء ونية للآلهة. كان شايف إن العلاقة دي فيها التزام مش بسيط، وكأنها عقد عمره ما بيتفك.
النقوش اللي سابوها المصريين القدماء مكنتش بتتكلم كتير عن حياة الناس العاديين، وعن حياة الشارع، وعن فرحتهم وقت العيد. مفيش كتابات يعني عن بهجة العيد في عيون الأطفال، أو الزينة اللي بتتعلق في الأزقة، أو الطبق اللي بيتحضّر مخصوص كل سنة في نفس المعاد. النقوش كانت غالبيتها مشغولة بالكهنة والمقابر والمقدسات.
وهنا جه دور "هيرودوت" اللي ساب لنا حكايات من اللي عاشها وشافها بعينه، ومن اللي الناس حكتها له وهما عايزين فعلاً يعرفوه على بلدهم. جايز الحكايات دي كانت شعبية أكتر من كونها تاريخية، بس فيها نبض الحقيقة، فيها ريحة العيد اللي اتنسى في النقوشات لكن عاش في الكتب.
"هيرودوت" اتكلم عن الأعياد كتير، على الرغم من إنه مقدرش يغطي كل أعياد مصر، خصوصاً اللي في الصعيد – لإنه غالبًا مكنش موجود في الصعيد وقت الاعياد – لكنه ساب لنا وصف دقيق ومليان حياة عن أعياد الدلتا. الحواديت دي على الرغم من بساطتها، بقت هي المفتاح اللي بيكمل النصوص المتقطعة اللي سابها المصريين القدماء على جدران معابدهم. وكأن اللي حكاه وكتبه "هيرودوت" هو الصورة، والنقوش هي البرواز.
كل مدينة في مصر القديمة كان ليها عيدها الكبير، اللي بتستناه من السنة للسنة كأنها بتستنشق أول نفس من الفرح بعد صيام طويل. "هيرودوت" بيحكي لنا إن المصريين كلهم، من أول الكهنة لحد الفلاح البسيط، كانوا بيستعدوا لليوم ده بشكل خاص.
كل أقليم أو مدينة كانت ليها إله خاص بيها، ولما ييجي وقت عيد الإله ده، المدينة كلها كانت بتحتفل. على الرغم من اختلاف الآلهة، لكن الطقوس كانت تشبه بعضها، وده عشان المصري القديم كان شايف إن العيد له هيبة وقدسية، مش مجرد مظاهر بهجة وفرح.
عوام المصريين مكنوش بيقدروا يدخلوا باحات المعبد، ولا حتى يقربوا من سور القصر الملكي علشان يشوفوا الملك. إنما لما الملك كان يحب يطل على رعيته، كان بيطلع في موكب مهيب، يعدي من شوارع المدينة، يقف هنا وهناك، يريح شوية، ويخلي الناس تشوفه من بعيد وتتهلل.
وده كان نفس النظام المتبع في التعامل مع آلهتهم. التمثال الإلهي كان بيخرج من جوف المعبد في موكب مقدس، محمول على محفة، والناس حواليه تهلل وتغني، والكهنة يعرضوه في مذبح مخصوص يتعبدوا له الناس ويقدموا نذورهم. الطقس ده في لغة المعابد كان اسمه "خروج الإله"، واليونانيين البطالمة حكام مصر في وقت زيارة "هيرودوت"، واللي عاشوا وسط المصريين وشاركوهم أفراحهم أطلقوا عليه اسم حفلات مدح وإطراء.
"هيرودوت" حضر عيد من الأعياد دي في مدينة اسمها "بابريميس"، اللي غالباً مكانها في شرق الدلتا، يمكن تكون بررعمسو أو قنتير في مركز فاقوس بالشرقية. صحيح هو مذكرش الموقع بدقة، لكن اللي حكاه عن العيد هناك كان كفاية يخلينا نعيش اللحظة كأننا وسط الزينة والطبول والناس اللي بتزغرد وتهتف.
رغم إن طقوس الخروج الإلهي كانت متشابهة من مدينة للتانية، إلا إن كل مكان كان ليه بصمته الخاصة حسب أسطورة الإله بتاعه. يعني مثلاً في معبد دندرة، هناك كانوا بيعبدوا الألهة حتحور ربة الجمال والموسيقى، وعشان كدة العيد عندهم كان كله أنغام ورقص، والملك نفسه كان يرقص قدام تمثالها، ويقدم لها قربان من النبيذ.
لكن لما تكون الإلهة راجل، أو مرتبطة بالحرب، زي ما حصل في بابريميس، الطقوس فيها كانت بتميل للشراسة أكتر، وعرض للانتصار، كأنهم بيحكوا حكاية انتصار الإله على أعداءه وسط الزغاريد والبخور والتكبير.
في مدينة "بابريميس" — غالباً هي نفسها المدينة اللي أنشأها ملوك الرعامسة، واللي دلوقتي ممكن تبقى قنتير في مركز فاقوس — كان الاحتفال بعيد الإله هناك مش زي أي احتفال عادي ممكن يخطر في بالك. صحيح الاضاحي كانت بتتقدم، والناس بتفرح، والطبول بتدق زي أي مدينة تانية، لكن مع غروب الشمس، كل حاجة كانت بتتغير.
جو الصخب والاحتفالات والهيصة بيهدى، والدنيا بتتحول لهدوء غريب، وفجأة تلاقي مجموعة كبيرة من الكهنة لابسين ملابسهم الرسمية، وبعدين يبدأوا يلفوا حوالين تمثال الإله بحركات محسوبة، كأنهم بيرسموا دواير من القداسة حوالين تمثال الإله.
وفي مقدمة المعبد، تلاقي صفوف من الكهنة التانيين، كل واحد ماسك عصاية خشب مزخرفة، واقفين باستعداد كأنهم بيستقبلوا موكب مقدس، وعلى الناحية التانية، يقف جمهور غفير، أكتر من ألف شخص، وكل واحد فيهم ماسك عصاية برضه.
الكهنة المختصين بيجوا يشيلوا المقصورة اللي فيها تمثال الإله المهيأ من ليلة قبلها، كان بيتلمع ويتوضب، ويتحط جوا مقصورة صغيرة مصنوعة من دهب خالص، كأنها صندوق سحري شايل سر من أسرار الكون، ويحطوا المقصورة على عربة بأربع عجلات، وتبدأ رحلة الموكب… موكب الإله المعدى وسط الناس.
في اللحظة اللي التمثال بيظهر فيها، الناس اللي في الأروقة يبدأوا يتسابقوا عشان يشوفوه، كل واحد فيهم بيحاول يلمح نظرة رضا من عيون الإله، حتى لو كانت عيون من حجر.
وهنا تبدأ اللحظة اللي الكل كان مستنيها: المعركة!
الناس اللي فوق الألف، واللي كلهم مسكين عصي، بيدخلوا في مواجهة عنيفة، ضرب بالعصي، أصوات تعلى، رؤوس تتحطم، ناس تتصاب، وبعضهم يمكن يموت. "هيرودوت" قال أن المصريين دايما كانوا يقولوا إن محدش بيموت حقيقي، المشهد كان رمزي مش اكتر.
كتير من الباحثين فعلا قالوا إن الناس اللي شاركوا في المعركة دي مكانوش ناس عاديين، ولا كانت معركة بجد، دي كانت تمثيلية دينية عظيمة، بيرجع أصلها لأسطورة الإله اللي بينتصر على أعداءه. فكل واحد فيهم كان ممثل، بيجسد لحظة الانتصار الإلهي، لحظة النور اللي بيهزم الظلام. المثير في الموضوع إننا لحد النهاردة ما لقيناش نقش واحد أو رسم على جدران المعابد بيحكي العيد ده.
ننتقل لمكان تاني وعيد جديد مختلف، ونطير على "تل بسطة" – حالياً في الزقازيق محافظة الشرقية - صاحبة عيد الإلهة "باستت"، وكانت بتتقارن في أهميتها وجمالها بالإلهة "حتحور" بتاعة دندرة، بس الفرق هنا إن العيد ده ماكانش لطبقة معينة ولا طقوس مغلقة جوه المعبد، ده كان عيد الشعب كله.
الناس كانوا بييجوا من كل صوب وحدب، رجالة وستات، كبار وصغيرين، بيركبوا المراكب ويشقوا النيل في رحلتهم المقدسة، وكلهم رايحين يحتفلوا بعيد الإلهة "باستت" واللي كان بيرمزولها على شكل قطة. الرحلة مكنتش مجرد وسيلة للوصول لتل بسطة، دي كانت بداية الفرح والاحتفال.
جزء من الستات كانوا بيمسكوا الصاجات والدفوف على المركب، وجزء من الرجالة ماسكين النايات يعزفوا بيها نغمات فيها روح العيد، والناس التانيين اللي قاعدين معاهم ع المركب يصفقوا ويغنوا ويرقصوا، وكأن المركب اتحولت لفرقة موسيقية، ولا أجدعها مركب رحلات للقناطر ماشية في النيل دلوقتي، من شابه جده فما ظلم.
وكل ما المراكب تعدي جنب مدينة من المدن، تلاقي قبطان المركب متعمد يقرب من الشط. ساعتها الستات اللي بتصقف وبتغني، يزغرطوا وينادوا على أهل المدينة عشان ينضموا ليهم في رحلتهم للإلهة باستت، وباقي الستات يفضلوا يضربوا بالصاجات والدفوف.
ويفضلوا واقفين ع الحال ده من الزغاريط والغنا والموسيقى لحد ما تظهر سِتات المدن اللي بيردوا التحية برقصة، أو يهزوا أجسامهم بخفة وهما ماسكين هدومهم وشايلين فوق روسهم سلال القرابين، وهم بيجروا عليهم عشان يركبوا معاهم المراكب، والمشهد ده يتكرر من مدينة للتانية، والزغرودة ترد على الزغرودة، والفرحة ماشية على مجرى النيل.
لحد ما يوصلوا تل بسطة، ساعتها تبدأ طقوس العيد الرسمية. الأضاحي بتتذبح، والخمور بتتفتح، والضحك مالي الوشوش. العجيب إنهم كانوا بيشربوا في العيد ده خمر أكتر من اللي بيشربوه طول السنة كلها، علشان ده يوم مش عادي، ده يوم مقدس، يوم لباستت، الهة الضحك والفرفشة، بتحب الرقص والموسيقى والضحك العالي.
وتفتكر كام واحد بيشارك في العيد ده؟ استعد للرقم… حوالي ٧٠٠ ألف شخص! غير الأطفال. سبعمية ألف بني آدم متجمعين علشان يحتفلوا بباستت، ومش مجرد احتفال عادي، ده كان طقس شعبي حقيقي، عيد بجد بيخلي المدينة تنبض بالحياة والفرح والموسيقى والزغاريد. قد إيه المصري القديم كان بيحب الحياة، وكان بيعرف يفرح.
ومن "تل بسطة" نطير تاني لحد ما نوصل ل"صان الحجر" – حالياً مركز بسيون في الغربية – و ليلة عيد "سايس" أو زي ما سماه هيرودوت "عيد المصابيح". العيد ده كان بييجي في نهاية موسم الأعياد، يعني آخر يوم في الشهر الرابع للحصاد، وكانوا بيستنوه من السنة للسنة.
ليلة العيد أهل البلد كلهم بيتجمعوا في الهوا الطلق، كل بيت بيولع فانوس قصاده، كاسات مجوفة، مليانة ملح وزيت، وفوقها شعلة صغيرة بتطفو كأنها نجمة في كف السما. يشعلوها ويسبوها منورة طول الليل، كأنهم بيطردوا بيها عتمة الدنيا وكل الشرور اللي فيها. وكان اسم العيد ده أحياناً بيتقال عليه "عيد إشعال المصابيح"، لأن النور فيه مش بس وسيلة للرؤية، ده كان طقس، ونوع من أنواع الطهارة، ودرع ضد الليل المظلم.
الجميل بقى إن العيد ده مكنش محصور في صان الحجر بس. المصريين اللي مقدروش يسافروا ويشاركوا هناك، كانوا بيحتفلوا في بيوتهم بنفس الطريقة، يولعوا الفوانيس، ويشتركوا في العيد وهم قاعدين في مدنهم وقراهم. يعني بيوت مصر كلها وشوارعها كانت بتنور مع بعض في ليلة واحدة، مشهد كده لو شفته من فوق، هتشوفها كلها متوهجة زي نجوم نزلت الأرض. زي عيد ميلاد روبنزل والمصابيح المضيئة.
تاني يوم الصبح، بيتعمل طقوس الأضحية وتقديم القرابين للاله سايس، بعدها تحصل حاجة غريبة جداً، الناس تبدأ تضرب بعض! آه والله، "هيرودوت" بنفسه قال كده، الناس بعد ما يخلصوا الطقوس يبدأوا يضربوا بعض بالعصيان أو الاشتباك بالإيد… معارك كأنها احتفال صاخب من نوع تاني - ماهو يا هيرودوت ده كان سادي بيحب يحط تاتش خيال، يا اما كده احنا عرفنا أصل ليه الراجل المصري بيحب ينكد على أهل بيته ويتخانق يوم العيد - عدد المشاركين في العيد كان بالآلاف! والمثير إن لحد دلوقتي، محدش عارف على شرف مين ولا ليه الضرب ده بالذات كان بيحصل، هل هو طقس رمزي لطرد الشر؟ ولا تمثيل لانتصار نور الإله على ظلمة الشر؟ الله أعلم.
وها نحن نكون وصلنا لآخر فصل من قصة أعياد المصريين القدماء، اللي كانوا بيحتفلوا بيها بكل طقوسها الغريبة والعجيبة، مليانة بالحياة والفرح، لكن في نفس الوقت كانت مليانة معاني عميقة وأهداف رمزية. كل عيد كان فرصة للمصريين يحتفلوا بعلاقتهم مع الآلهة، ويعبّروا عن ايمانهم العميق بالوجود وبالتوازن بين النور والظلام، الحياة والموت، الخير والشر.
اللي لفت نظري أكتر، إن الأعياد دي مكنتش مجرد مناسبات فرح، كانت أسلوب حياة، فيها من حاجة من كل حاجة، طقوس تلاقي، وأغانٍى ميضرش، ورقصات وماله، وأضاحي وتضحية، والأهم من كده، كان فيها تمسك شديد بالموروث الديني والثقافي اللي كان بيجمع المصريين مع بعض، رغم تنوع الأماكن والظروف.
لكن هل الأعياد دي كانت كلها كده؟ هل كانت مجرد احتفالات عفوية؟ ولا كان في أعياد تانية أكثر رسمية، مرتبطة بالملوك والسلطة؟ في المقال الجاي هنتكلم عن نوع تاني من الأعياد، الأعياد الملكية في مصر القديمة. هيكون حديثنا عن أعياد خاصة بالملك، اللي كان بيتم الاحتفال بيها بشكل رسمي، مليانة طقوس مقدسة وتقاليد صارمة، وهنعرف أكتر إزاي كانت الأعياد دي بتعكس القوة والهيبة، وكمان ازاي كان الملك نفسه بيشارك فيها علشان يعزز سلطته وسط شعبه.
استنوني في المقال الجاي، هنتكلم عن أعياد الملوك في مصر القديمة، واللي هتكشف لنا جانب تاني من حياة المصريين في الزمن ده.
تعليقات
إرسال تعليق