الدرس انتهى لموا الكراريس

 صبح 8 أبريل 1970. قرية بحر البقر، في محافظة الشرقية.

صحيت الست "نبيلة" من الفجرية زي أي فلاحة مصرية أصيلة، تجهز ولادها الأربعة لمدارسهم، تحميهم وتفطرهم وتلبسهم قبل ما يروحوا المدرسة. الست "نبيلة" أرملة من أربع سنين، وولادها الأربعة نور عينيها وعوضها في الدنيا. "ممدوح" أصغر ولادها، أخر العنقود سكر معقود، قالها: "يامه عاوز سانوتش أخده معايا للمدرسة". "نبيلة" أبتسمت وقالتله: "ياواد أنت مش لسه فطران". قالها: "مليش دعوة أنا عاوز ساندوتش أكله في المدرسة". "نبيلة قالتله: "حاضر يا ضي عيني، روح أنت على مدرستك، وأنا هخبز العيش، وتعالى في الفسحة خد الساندوتش". شوح "ممدوح" بايده وخبط رجله في الأرض بعصبية طفولية وقالها: "مش راجع في الفسحة". وأخد شنطته وخرج "ممدوح" راح مدرسته. وصدق "ممدوح"، مرجعش في الفسحة، "ممدوح" مرجعش خالص...

محافظتي الشرقية

مدرستي .. بحر البقر الابتدائية

كراستي .. مكتوب عليها تاريخ اليوم

مكتوب على الكراس أسمي

سايل عليه عرقي ودمي

من الجراح اللي في جسمي

ومن شفايف بتنادي

يا بلادي .. يا بلادي .. أنا بحبك يا بلادي

في سنة 1967، مصر خارجة من نكسة صعبة… العدو - اللي هيفضل الى يوم يبعثون عدو - احتل سينا، والشعب موجوع، بس عمره ما عرف الانكسار.
وقتها، بدأت مصر حرب من نوع تاني… مش حرب دبابات وجيوش في قلب الصحراء، لكن حرب نفس طويل، حرب باردة، اسمها "حرب الاستنزاف".
مصر قررت متسكتش ولا تستسلم، وابتدت تضرب مواقع العدو على طول قناة السويس، مرة بمدافع، ومرة بعمليات كوماندوز جريئة، وكل مرة كانت الضربة بتوجع. أول شرارة اشتعلت يوم 1 يوليو 1967 من عند رأس العش جنب بور فؤاد… لما حاولت مدرعات اللي ميتسموش احتلالها، لكن قوة من الصاعقة المصرية نجحت في صد الاعتداء الإس. را. ئي. لي. كمين مصري صغير صد هجوم كبير.

وبعدين العملية اللي قلبت موازين كتيرة كان الهجوم على ميناء أم الرشراش اللي سموه بعد الاحتلال ب "إيلات"، ودي وجعت أوي الكيان، وكانت ضربة معلم من الضفادع البشرية في السلاح البحري المصري. وبعدها بقت الضربات ورا بعض.
وفي سنة 1968 و1969، زاد الهجوم المصري بشكل كبير… مش بس على المواقع القريبة، لكن كمان المصريين دخلوا عمق سينا، ووجعوا قلب الجيش الإس. را. ئي. لي.
ومن أبرز الضربات دي، كانت إغارة لسان بور توفيق، واللي كانت ضربة على الوش، بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

محلل تبعهم معروف أسمه زئيف شيف قال في كتابه عن حرب الاستنزاف: "عملية لسان بور توفيق هي التي أنهت الجدل داخل أروقة القيادة الإسرائيلية حول حتمية تدخل الطيران في المعركة، لقد كان هذا النجاح هو أبرز ما حققه المصريون، ومن الواضح أنه كان سيحفزهم إلى نشاط أكبر، لا مناص عن إيقافهم عنه بسرعة".

ومن اللحظة دي، دخل الطيران الإسرائيلي المعركة بكل ثقله.
ابتدوا بـ"عملية بوكسر"، وساعتها ما كانوش بيضربوا مواقع عسكرية بس، دول كانوا بيحاولوا يكسروا الروح المعنوية، ويخوفوا المصريين.

ضربوا محطات كهرباء، وضربوا منشآت مدنية، وضربوا في العمق جوه مصر.
إس. را. ئي. ل اختارت إنها توسع الجبهة… تخلي مصر تبص حواليها 360 درجة، عشان تضغطها من كل ناحية. وده اللي حصل فعلا، لما اختاروا يضربوا محطة كهرباء نجع حمادي، والسد العالي، ونقطة دفاعية جنوب البلاد.

لكن رد الفعل المصري كان سريع وقوي. في الليلة اللي بعدها، القوات المصرية هجمت على نفس النقطة عندهم ونسفتها بالكامل. وده خلى موشيه ديان، وزير الدفاع وقتها، يطلع يهدد ويتوعد. بس مصر ولا همها، كانت ماشية في طريقها، كل ما تنضرب، تقف أقوى.

ومع تصعيد الهجمات المصرية، ابتدا العدو يوجه الضربات للمدنيين العُزل، كعادتهم في الحقارة، في محاولة خبيثة لكسر إرادة الشعب. أطلقوا على عملياتهم دي اسم "بريحا"، اللي معناها بالعبري "زهرات متفتحة"، بس الحقيقة كان أسمها على عكس فعلها.

في فبراير 1970، ارتكبوا جريمة لا تغتفر. قصفوا مصنع أبو زعبل، المصنع اللي كان شغال فيه حوالي 1300 عامل، كلهم مدنيين، ومالهمش دعوة بأي حاجة. الضربة قتلت 70 شهيد، وأصابت 69، وقالوا وقتها سوري جات غلط، لكن الدم ما بيغلطش، والموت ما بيغلطش، واللي حصل ما يتغفرش.

8 أبريل 1970.  في قرية بحر البقر، تابعة لمركز الحسينية بمحافظة الشرقية، كان فيه مدرسة ابتدائي بسيطة، دور واحد، مافيش فيها غير أربع فصول، وساحة صغيرة بيلعب فيها العيال في الفسحة، أطفال ما بين 6 و 10 سنين، زهور البلد وقلبها. المدرسة دي كانت مليانة حياة، وأصوات عيال بتضحك، وبتغني مع الإذاعة الصباحية. وأبتدت الحصة ودخل الأولاد والمدرسين فصولهم، وابتدى الدرس.. أفتحوا الكراريس وأكتبوا تاريخ اليوم، يلا أتملوا ورايا، "أنا أحب مدرستي".

الساعة كانت حوالي تسعة وثلث الصبح، الأولاد سمعوا فوقهم صوت طيارات حربية. وفجأة خمس طيارات فانتوم إس. را. ئي. لية دخلت المجال الجوي المصري، ونزلت على المدرسة بقنابل وصواريخ. ضربوا المدرسة كأنها موقع عسكري، مع إن ماكانش فيها غير أطفال، مدرسين، وكراسات. الضربة كانت عنيفة جداً، وفي لحظة المبنى كله وقع فوق راس اللي فيه. 

صوت القصف هز قرية بحر البقر وكل القرى اللي في مركز الحسينية. الفلاحين سابوا أرضهم وجريوا يشوفوا الصوت ده فين، والستات خرجوا من بيوتهم يجروا حافيين بعد ما عرفوا أن الصوت عند المدرسة. الصويت والصريخ والنحيب ملا المكان، بعد ما كان مليان بضحك ولعب العيال. الناس سامعة صوت العيال بتعيط تحت الركام، الأهالي بتحفر بضوافرها، العيال بتعيط، العيال بتموت، الستات بتصوت يا ضي عيني يا ابني، يا نور عيني يا بنتي.

"نعيمة عبد السلام"، طفلة عندها 10 سنين، كانت لابسة فستان عيد ميلادها اللي كان امبارح. ماتت بيه.

"محمود"  طفل 7 سنين كان أول مرة يلبس جلابية جديدة ويروح بيها المدرسة... أمه قالتله وهو رايخ المدرسة فرحان ربنا يفتحها عليك... مرجعش.

الشيخ "عبد العال"، كان ساكن قريب من المدرسة، قال:
"سمعت صوت فرقعة كبيرة، طلعت أجري، لقيت المدرسة مش موجودة... بس كنت سامع صوت عيال بتعيّط من تحت الطوب."

المُدرسة "ناهد"، كانت بتصرخ وهي شايلة بنت مصابة:
"كنت بديهم حصة عربي... وسمعت صوت الطيارات، قولت يمكن تمرّ... لكن ماكنتش متخيلة إنهم هيضربوا! دي مدرسة يا ناس!"

الست "نبيلة" كانت بتخبز العيش ل "ممدوح"، فجأة سمعت صوت القصف، الصوت كان زي الرعد، وحست الأرض بتتهز من تحتها.
الانفجار كان قوي لدرجة إن أزارلبيت كله أتكسر. في لحظة، قلبها دق بسرعة، وضغطت على صدرها حست بحاجة هتخنقها.

قامت تجري تدورعلى طول ولادها، قلبها كان بيدق خوف، ولما لقيتهم تلاتة من ولادها قدامها، حضنتهم بسرعة. حمدت ربنا.. فجأة، أفتكرت "ممدوح"، ابنها اللي راح المدرسة ونفسه في ساندوتش، وانقبض قلبها على فكرة إنه ممكن يكون لسه في المدرسة وسط اللي حصل. طلعت من غير ما تفكر، رجليها حافية على الأرض، مش عارفة هي بتجري ليه، ولا عارفة هتوصل فين، لكن كل اللي كانت تعرفه إنها لازم تروح له، لسه في أمل. وصلت المدرسة، وسط الزحام والصراخ، لقيته، لكن مكنش زي ما كانت تتمنى. لقيت "ممدوح" مرمي على الأرض، جثة هامدة، جسمه كله مصاب. واحد من جيرانها كان حاضن جثته، لما شافها سلمها ليها، بس هي كان لسه عندها أمل إنه لسه عايش.  حاول واحد من الأهالي يساعد، ووقف عربية نقل صغيرة، كان سواقها شغال مع زوجها اللي اتوفى، علشان تركب معاه. لكن لما ركبت هي وأطفالها و"ممدوح" على ايديها، شافت منظر صعب،  الكرسي كان مليان أطفال مصابين، والجثث والأشلاء كانت في كل حتة، والدم كان مغطي الأرض زي البحر. الأطفال كانوا في العربية لحم ميت، وكل واحد فيهم كان بيصرخ "أه أه".

"نبيلة" مقدرتش تستحمل، نزلت بسرعة من هول المنظر، وأخذت أطفالها الثلاثة وجثة أبنها على إيديها. ولما أتأكدت خلاص أن ضناها مات، وماتت معاه حتة من روحها. ركبت مع واحد من الناس اللي كانوا معاها في الطريق، وخدهم لقرية المناجاة، بلد جوزها، ودفنت "ممدوح" جنب أبوه.

30 طفل استشهدوا، و50 غيرهم اتصابوا، بعضهم فقد أطرافه، وبعضهم فقد صاحبه اللي كان قاعد جنبه من شوية. وأتصاب مُدرس و11 عامل بالمدرسة.

الدرس أنتهى .. لموا الكراريس.

مصر قدمت شكوى لمجلس الأمن، والصحف العالمية كتبت عن المذبحة، لكن العدو قال بمنتهى البرود سوري كنا فاكرينه معسكر!.

من أسماء التلاميذ الشهداء في مذبحة مدرسة بحر البقر الابتدائية: "حسن محمد السيد الشرقاوى"، و"محسن سالم عبدالجليل محمد"، و"بركات سلامة حماد"، و"إيمان الشبراوى طاهر" و"فاروق إبراهيم الدسوقى هلال"، و" محمود محمد عطية عبدالله"، و"جبر عبدالمجيد فايد نايل"، و" عوض محمد متولى الجوهرى"، و" محمد أحمد محرم"، و" نجاة محمد حسن خليل"، و" صلاح محمد إمام قاسم"، و" أحمد عبدالعال السيد"، و" محمد حسن محمد إمام"، و" زينب السيد إبراهيم عوض"، و"محمد السيد إبراهيم عوض" و"محمد صبرى محمد الباهى"، و"عادل جودة رياض كراوية"، و"ممدوح حسنى الصادق محمد"

المجزرة دي ماكسرتش مصر… بالعكس، كانت وقود للغضب، ودَفعة للأمام في حرب الاستنزاف.
وكانت من الأسباب اللي خلت الجيش يجهز نفسه كويس ويوصل لـ6 أكتوبر 1973.

ولحد النهارده، ماحدش نسي.
ولا هييجي يوم وننسى.
لأن الدم ما بينضفش بسهولة من صفحات التاريخ...

خلى عينكم على مصر هي الهدف، طول عمرها عصية عليهم، محروسة من رب العالمين، أوعوا يضحكوا عليكم وتسلموها بإيديكم، وتخونوا الدم. أحكوا لولادكم وعرفوهم مين العدو ومين الهدف، بلدنا غالية علينا، أوعوا يلعبوا بعواطفكم ويستدرجوكم، دول شياطين في الحروب النفسية، عارفين أنكم طيبين وعاطفيين. بس اللي أنا متأكدة منه أننا برده بنحب مصر أوي.  خلوا عينكم على مصر.

يا بلادي يا بلادي أنا بحبك يا بلادي.

مروة طلعت

8/4/2025

المصادر:

مشاوير العمر: أسرار وخفايا 70 عامًا من عمر مصر في الحرب والمخابرات والسياسة - كمال حسن علي.

  • الأهرام - أرشيف الصحف (عدد 9 أبريل 1970).

  • برنامج "شاهد على العصر" – الجزيرة – حلقة الفريق سعد الدين الشاذلي.

  • مذكرات الجمسي – حرب أكتوبر 1973.

  • الطريق إلى أكتوبر – محمد حسنين هيكل.

  • حرب الاستنزاف.. المعركة المنسية – د. مصطفى عبده.

  • والدة أحد شهداء مدرسة بحر البقر : لأول مرة منذ 50 عام لم نحيى ذكرى نجلى بسبب كورونا الأربعاء، 08 أبريل 2020 10:44 ص




  • تعليقات

    المشاركات الشائعة من هذه المدونة

    الليث بن سعد 5

    الدكتور نجيب محفوظ باشا

    "ان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فأعبدون" الجزء الأول