بدر الجمالي

(1) 466 هجرية / 1073 ميلادية، في ليلة مظلمة من ليالي الشدة المستنصرية، قصر الخليفة  الفاطمي"المستنصر بالله" في القاهرة كان هادي بشكل مريب، رغم إن الهدوء برا القصر ما كانش إلا صدى لحالة الموت اللي غطت الشوارع. البلد بقت خرابة كبيرة، عظام الجثث في الشوارع بعد ما الناس أكلت القطط والكلاب والفيران، وأتطورت أنهم أصطادوا بعض في الشوارع وأكلوا بعضهم من الجوع، واللي لسه عايش خلاص بيموت وخايف ومستخبي في أنفاق تحت الأرض لحسن حد يصطاده ويتاكل، الخروج من النفق للبحث عن حاجة تسد الجوع مغامرة خطيرة في حد ذاتها لأنه غالبا هيطلع ومش راجع. والدولة تقريبا انتهت.

في مجلسه، الخليفة "المستنصر بالله" كان قاعد على الحصيرة اللي بقياله، ملامحه مكنتش ملامح خليفة، كان شاحب وجسمه أتحول لشبه الهيكل العظمي، عينيه شاردة، كأنه بيفكر في حاجة واحدة، مين يقدر ينقذ مصر بعد ما الأمور خلاص فلتت من ايده ووصلت لمرحلة الموات التام.

وسط المجلس، سمع صوت خطوات تقيلة كسرت الهدوء. رسول معاه رسالة جاي من الشام. الرسول دخل بخطوات ثابتة، وملامح مرهقة من السفر. مد الرسالة للخليفة "المستنصر" وقال بصوت واطي لكن مليان ثقة: "يا مولانا... ده رد أمير الجيوش بدر الجمالي."

الخليفة أخد الرسالة من أيد الرسول بسرعة ولهفة. الرسالة كانت قصيرة، لكن الكلمات تقيلة: "إذا أردتم أن تعيش مصر، فلابد أن أتي ومعي جيشي كله. وإلا فلا تسألوني عن النتيجة."

الخليفة "المستنصر بالله" كان غريق و"بدر الجمالي" القشاية اللي معندوش غيرها يتشعلق فيها، رد بسرعة بصوت واضح وقال للرسول: "هاتوه! هاتوا بدر الجمالي، هو أملنا الأخير."

لحظة دخول "بدر الجمالي" مصر بعدها كانت مش مجرد لحظة دخول قائد عسكري، كانت لحظة دخول "منقذ" لدولة ماتت. وفي اللحظة دي، ابتدت أسطورة "الرجل الأرمني" اللي أنقذ مصر، وأعطاها قبلة الحياة...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في سنة 415 هجرية / 1026 ميلادية، في قرية صغيرة محاطة بجبال أرمينيا، كان الشتاء قاسي، والتلج مغطي كل حاجة، البرد بيخترق العظم، والناس بتحاول تنجو بأي طريقة. البيوت كانت خشبية بسيطة، والدخان بيطلع من المداخن كأنه بيتحدى الرياح القوية.  طفل أرمني حوالي 12 سنة، كان ماسك حزمة خشب على كتفه النحيف، وشه أحمر من البرد، وعينيه مليانة صلابة وعزم مش متوقعة لطفل في سنه.

لما رجع  للبيت، لقى أمه قاعدة قدام النار، بتحاول تدفي أخواته الصغيرين بشوية بطاطين قديمة. بصت له وقلبها مش متطمن حاسة أن اليوم ده مش هيعدي على خيروقالت: "خلي بالك من نفسك، الدنيا برة مش أمان." رد عليها وهو بيبتسم ابتسامة خفيفة: "ما تخافيش يا أمي، أنا هفضل قوي زي ما بابا علمني."

أبوه كان قاعد في الزاوية، ملامحه هادية لكن عينه تقيلة بالحزن. كان فلاح بسيط، لكن خبر الحروب اللي بتقرب من القرية خلى كل كلمة يخرجها مليانة خوف: "الدنيا دي مش بترحم الضعيف... القوي هو بس اللي بيعيش. مش بس بعضلاته، بعقله كمان".

أرمينيا في الوقت ده كان حواليها توتر مستمر بين الامبراطورية البيزنطية المسيطرة على أجزاء من أرمنيا، وبين الامبراطورية السلجوقية اللي كانت بتتوسع بشكل كبير وسريع. أرمنيا كانت نقطة صراع بين القوى المسيحية والاسلامية في المنطقة.

أبتسم الولد وهز راسه وخرج يكمل لم الأخشاب لتدفئة أخواته وأسرته. ما عداش وقت طويل، والهدوء اللي في القرية اتكسر بصوت خيول قوات عصابات نهب أستغلوا الأوضاع السياسية غير المستقررة واقتحموا المكان. في الفترة دي كان شائع ان العصابات المسلحة يخطوا الأطفال أولاد وبنات في المناطق الضعيفة أو المنهكة من الحروب ويبيعوهم لتجار العبيد في سوق العبيد. 

أهل القرية حاولوا يهربوا والناس بقت تجرى بهلع في كل مكان، وكأنه يوم القيامة يوم يفر المرء من أخيه، لكن الجنود كانوا أسرع، قتلوا اللي قتلوه بشكل عشوائي، السيوف بتحصد الرؤوس، والأرض أتملت من القتلى. وبعد ما الهول خلصت وسكنت القرية تاني بس المرة بسكون الموت، مبيقطعوش غير نحيب النساء والأطفال. ساعتها نزل الجنود ولموا من الأطفال علي قد ما يقدروا اللي نجى منهم بس اللي صدمة الموت مشلتوش وقدر يجري ويسابق الريح. الجنود لمت الأطفال في صف طويل، وكان حظ فتانا من حظ الأطفال اللي مربوطين في الصف، عينه بتدور على أهله، لكنه عارف إنه مش هيقدر يعمل حاجة.

في طريقهم لسوق العبيد، كان الولد هادي وثابت، ولما واحد من الأطفال كان بيعيط، يقوله بهدوء: "ما تخافش... كل حاجة هتكون كويسة." لكن الحقيقة، هو نفسه مكنش عارف إزاي هيكون كويس.

لما وصلوا للسوق، المكان كان مليان دوشة. تجار بيصيحوا، ناس بتتفاوض، وأطفال خايفين. كان واقف وسط الأطفال، لكنه كان مختلف. عينه مش على الأرض زيهم... كانت بتلف حوالين المكان، بتحسب المسافات، بتفكر في كل احتمال للهروب. تاجر شافه من بعيد وقال بصوت عالي: "الولد ده عنده حاجة غريبة... شوفوا عينه، مش زي باقي العبيد."
قرب التاجر منه، وبص له نظرة طويلة، وبقى يقلب فيه كأنه بينقي كيلو طماطم، والولد فضل ساكت متكلمش، لكن التحدي في عينيه كان واضح. التاجر ضحك وقال:
"الولد ده مش عادي... اشتروه. هيكون له مستقبل".

تاجر العبيد بعد ما أختار بضاعته وأشتراها من السوق وأخدهم في مكانه لتجهيزهم وتهيئتهم للعرض. قعد وبدأ يختار لكل واحد فيهم أسم منها ينسى الطفل تفاصيل حياته القديمة ومنها تكون أشارة لصفة مميزة في البضاعة. فلما وصل لفتانا لفت أنتباهه بياضه وأحمرار وجنتيه ووشه المدور الجميل فسماه "بدر".

في سوق العبيد وقف "بدر" وسط العبيد والجواري مستني مصيره، لكن بعزة نفس وراس مرفوعة على عكس باقي الموجودين اللي عيونهم حزينة ومكسورة، من صغره كان شاطر أوي في أنه يظهر ما لايبطن. حضر السوق يومها واحد من كبار القادة العسكريين في الدولة الفاطمية "جمال الدولة بن عمار" واللي كان ماسك منصب مهم ورفيع المستوى في الجيش الفاطمي بالشام. "جمال الدولة" كان نازل السوق عشان يختار أولاد ينفع يدربهم ويضمهم لصفوف الجيش، مماليك يعني. من ضمن الأولاد اللي لفتوا نظره كان "بدر"، بصلابته وقوته والذكاء الواضح من عينيه. وأنضم "بدر" لموالي "جمال الدين بن عمار"، ومن يومها أنتسب له فأصبح "بدر الجمالي".

وفي اللحظة دي، اتقفل فصل في حياة "بدر الجمالي"، وبدأ فصل جديد في رحلته... رحلة من طفل صغير لعبد، لحد ما أصبح أقوى رجل في الدولة الفاطمية.

مروة طلعت 
5/1/2026
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
#بدر_الجمالي
#الدولة_الفاطمية
المصادر:
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ج5 - ابن تغري بردي.
اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الخلفا ج2 - المقريزي.
سير أعلام النبلاء الطبقة 25 - شمس الدين الذهبي.
المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ج2 - المقريزي.
تاريخ مصر في العصور الوسطي - ستانلي لين بول.
الدولة الفاطمية في مصر تفسير جديد - د/ أيمن فؤاد سيد.
السجلات المستنصرية - د/عبد المنعم ماجد.
الوزارة والوزراء في العصر الفاطمي - د/ محمد حمدي المناوري.
حياة العامة في مصر في العصر الفاطمي - د/ نجوى كيرة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الليث بن سعد 5

الدكتور نجيب محفوظ باشا

"ان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فأعبدون" الجزء الأول