بدر الجمالي 9

(9) "بدر الجمالي" الراجل اللي قلب مصر من حال لحال، مكنش بياخد راحة. بعد ما القاهرة اتنظفت واترتبت على إيده، قرر يكمل المشوار. الوجه البحري كان خربان، قبائل لواتة والمحلية عاملين فيها ملوك، الفلاحين عايشين في خوف، والطرق ما حدش يقدر يعدي فيها - راجع الجزء التامن - "بدر الجمالي" دخل عليهم بقوة، رجّع الأرض، ورجعلها الأمان. لكن "الجمالي" كان عارف إن لسه قدامه كتير. مصر ما بتقفش على جزء واحد، وكل شبر فيها كان محتاج إيدين تنضفه. دلوقتي، إحنا على أعتاب مرحلة جديدة في حكاية "بدر الجمالي".

قبل مجئ "بدر الجمالي"، الوضع كان مضطرب جدا في مصر والدولة الفاطمية كانت في أضعف حالاتها. في بداية الدولة الفاطمية وفي أوج قوتها قدرت تسيطر على مكة والمدينة، لكن في وقت الشدة المستنصرية الخطبة الفاطمية اللي كانت بتتقال في الحرمين (مكة والمدينة) انقطعت لمدة خمس سنين بسبب ضعف الدولة الفاطمية وصعود نفوذ العباسيين فيهم، ونفوذ الأمويين في الأندلس. العباسيين استغلوا فرصة ضعف الفاطميين وسيطروا على الحرمين ورجعوا الخطبة تاني لصالحهم، وده كان ضربة معنوية كبيرة للدولة الفاطمية.

في سنة 467 هجرية / 1074ميلادية، لما بدر الجمالي مسك الأمور في مصر، ركز في البداية على القاهرة، وبعدها الوجه البحري علشان يسيطر على الدلتا وميناء الأسكندرية ويحمي القاهرة. ولو أنت فاكر أن "بدر الجمالي" كانت بيحارب لواتة والمحلية في الوجه البحري، وبيخطط الأراضي ويهيأ الفلاحين، وبينضف الترع والمصارف وبيبنى قناطر وجسور وبس، تبقى غلطان. "الجمالي" كان زي الأخطبوط دراعاته كتيرة وكلها شغالة مع بعض، كان عنده رجاله اللي بيتابعوا الوضع في كل مكان. خلال الفترة دي في عز تظبيطات الوجه البحري، كان بيخطط لإعادة النفوذ الفاطمي في الحرمين، لأن ده كان هيزود هيبة الدولة ويثبت قوتها. 

اليمن كانت تحت سيطرة قبيلة "الصليحيين" حلفاء الفاطميين. "بدر الجمالي" بعتلهم رسالة، ونسق معاهم لأنهم كانوا قريبين من الحجاز (مكة والمدينة). الصليحيين كانوا من أشد الموالين للفاطميين وكانوا بيعتبروها خلافتهم، وعشان كده كانوا عاوزين يرجعوا نفوذهم في الحرمين. وعشان الفلوس دايما ليها مفعول السحر، "بدر الجمالي" استخدم مهاراته وذكاؤه السياسي ووزع هدايا وفلوس على زعماء القبائل اللي حوالي الحجاز، فأشترى ولاءهم، لأن السيطرة على مكة والمدينة في الوقت ده كانت بتعتمد على النفوذ القبلي. "الصليحيين" بناء على توجهات "بدر الجمالي" اللى في مصر بيحارب لواتة والقراصنة في الوجة البحري، قعدوا مع زعماء القبائل اللي حواليهم في الحجاز، واللي أشتراهم "الجمالي"، وخططوا لشكل التعاون ما بينهم. الصليحيين  في اليمن ساعدوا قبائل الحجاز بمدد عسكري ضخم وضمنوا إن أي مقاومة من العباسيين أو الأمويين تتكسر. 

بمجرد ما الأمور اتظبطت، رجع بلاد الحرمين تحت السيطرة الفاطمية ورجعت الخطبة الفاطمية تتقال في الحرمين من تاني، وده كان إنجاز كبير جدا. والصليحيين في اليمن كانوا بيقوموا بمهمة نيابة عن الخليفة الفاطمي في الحجاز.الخليفة الفاطمي "المستنصر بالله" اعتبر ده من أهم نجاحات "بدر الجمالي". وكتب رسالة للصليحيين في سجلاته المستنصرية - السجل 58 - يوصف فيها "بدر الجمالي" في 27 شعبان سنة 468 هجرية / 1075 ميلادية قال فيها: (ثم كان من استفتاح عمله ان نظر في امر الحرمين المحروسين واعادتهما الى ملكة الدولة، بعد ان علت فروق منابرهما الاقدام الرجسة من الفئة الاموية والعباسية، فلو لم يكن له في هذا الامر القريب الا هذه المنقبة لكان فيها كفاية).

الإمام المستنصر كان شايف إن إعادة الخطبة في الحرمين مش مجرد انتصار سياسي، لكنها كمان انتصار ديني للشيعة ومعنوي. الخطبة بتقول للعالم الإسلامي كله إن الفاطميين رجعوا قوتهم ونفوذهم. لكن اللي يهمنا من ده كله أن اللي حصل ده بيدل على شخصية كانت أسطورية، حتى لو أختلفنا معاه في العقيدة لكن اللعبة الحلوة لازم نعترف أنها حلوة،. "بدر الجمالي" الراجل الستيني كان ماسك مصر بإيد، والنفوذ الفاطمي في العالم الإسلامي بإيد تانية، لاعب أكروبات محترف.

"بدر الجمالي" لما خلص شغل الإصلاحات في الوجه البحري سنة 467 هجرية، وخلص على القبائل المتمردة هناك زي لواتة والمحلية والقراصنة وغيرهم، جماعة من قبيلة لواتة هربت وجريت على الوجه القبلي تتحامى فيه. الحقيقة أن الصعيد مشكلة كبيرة جدا بتؤرق أي حاكم، سواء محتل أو داخل بنية الاصلاح، وياما جيوش كانت الصعيد مقبرتهم، وده بسبب طبيعتها الجبلية وكمان بسبب طبيعة الناس اللي فيها. الصعيد كانت دولة جوا الدولة وكأنها غابة متشابكة الأشجار منعزلة عن القاهرة والوجه البحرى تماما، الداخل مفقود والخارج مولود. 

الصعيد وقتها كان عبارة عن مملكة لوحدها، مليان قبائل متمردة ومش بيحبوا حد يفرض سيطرته عليهم. أهمهم قبيلة "هوارة" اللي كانت واحدة من أهم القبائل في الصعيد، كان لها نفوذ قوي وتمردت على السلطة الفاطمية، وكان منهم دايما بيطلع شيخ للعرب في المنطقة. قبيلة "بنو هلال" اللي كانت من أكبر وأشهر القبائل العربية في الصعيد. كان لهم تأثير واسع ونفوذ قوي بسبب عددهم الكبير وتحركاتهم المستمرة، وياما تمردوا على السلطة الفاطمية كذا مرة، وكانوا خطر على استقرار الدولة. قبيلة "بنو سليم" ودي قبيلة عربية قوية دخلت في تحالفات مع قبائل تانية للتمرد، كانوا منتشرين في المناطق الجنوبية من الصعيد وأعتمادهم كان على الغارات وفرض إتاوات على الأهالي لفرض سيطرتهم. قبيلة "الأنصار" ودي قبيلة لها تاريخ قديم في مصر، وكانت معروفة في بعض المناطق التي سيطرت عليها، بعض الفروع من قبيلة الأنصار قاومت سيطرة الدولة الفاطمية. وكان فيه كمان بعض القبائل البدوية المحلية اللي كانت منتشرة في أول ووسط الصعيد، وكانت زي قبيلة بنو سليم بتقوم بغارات وقطع طرق وفرض اتاوات لفرض نفوذها على الطرق والتجارة.

كان أهل الصعيد عايشين في دنيا تانية لوحدهم، لا يهمهم خلافة ولا أمارة ولا سلطنة، ليهم قوانيهم الخاصة النابعة من أعرافهم وتقاليدهم الصارمة، ومايأمرش عليهم غير زعيم القبيلة أو شيخ العرب. أصلا لو جيت سألت حد فيهم مين سلطانك أو خليفتك مش هيفهم أنت بتقول ايه. طول عمر الصعيد السئ فيه أضعاف السوء اللي موجود قي القاهرة أو الوجه البحري، مليان موت وجهل ومرض وعصبية، طبيعتهم من طبيعة صخر الجبل. وفي اللحظة دي كانت مهمة "بدر الجمالي" دخول الصعيد وأستصلاحه، لك أن تتخيل.

بصاصين "بدر الجمالي" قدروا يخترقوا عالم الصعيد في مهمات شبه انتحارية، ورجعوله بأخبارهم، عشان يفهم ويدرس طبيعة الناس اللي رايحلهم ايه. قالوله يا أمير الجيوش أهل الصعيد رغم المعاناة اللي هم فيها، لكنهم هم اللي هيحاربوك قبل زعمائهم، الصعيدي من دول بيحترم القوة والسيطرة وبيضحي بنفسه عشانها حتى لو صاحبها مجرم عتيد ساقيه المر وقاتل أهل بيته - ولنا في الخط مثال - بيعبروها جدعنة.  فهم "بدر الجمالي" المشكلة وعرف أنها مهمة مستحيلة، لكنه كان بيعشق تحدي المستحيل.

وفي سنة 467 هجرية / 1075 ميلادية، "بدر الجمالي" شد الرحال وبدأ يتحرك ناحية الصعيد. عسكر على أبواب الصعيد وبدأ يبعت رسايل دبلوماسية في الأول لكبار القبائل وخصوصا شيخ العرب في هوارة، يعرض عليهم التعاون، وبدأ صفحة جديدة من تبادل المنفعة، مع وعد أنه يخليهم زي ما هم في أماكنهم، طالما تابعين ليه وممتثلين لأوامره. أهي الجملة الأخيرة دي معجبتش زعماء القبائل، وركبهم العند، والعند أخرته ايه، هنعرف دلوقتي. 

بدأ "بدر الجمالي" في منطقة أول الصعيد اللي هو قريب من القاهرة، واجه هناك تمردات صغيرة، لكنه كان بيخلصها بسرعة، مخدتش في ايده غلوة، خصوصا أن كان هناك الهربانين من قبيلة لواتة، ونشروا الأخبار اللي اتعملت فيهم في الدلتا على ايد "بدر الجمالي" فكان العامل النفسي من الخوف له تأثير كبير في هزيمتهم قصاده. المعركة الكبيرة اللي واجهها "بدر الجمالي" كانت لما دخل وسط الصعيد وواجه الزغلول الكبير قبيلة "هوارة".

هي مكنتش معركة، كانت مدعكة للطرفين، لكن "بدر الجمالي" كان مخطط جيشه بذكاء. قسمه مجموعات علشان يطوّق القرى والمدن اللي فيها تمرد، وفي نفس الوقت استخدم الأسلوب الدبلوماسي، وزغللة العيون بالفلوس مع بعض القبائل الصغيرة المنتشرة واللي كانت بتحاول تبعد عن المشاكل. فأنضموا لفرق جيوشه ضد "هوارة" وحلفاءها.

"بدر الجمالي" مكنش مجرد قائد عسكري، ده كان استراتيجي بجد. كان بيستخدم طريقتين في حروبه. الأولى العنف المفرط مع اللي يقاوم، يعني لو قبيلة قاومت بشدة، ميسيبش فيهم حد، وهدفه من كده خلق حالة الخوف والرعب منه ومن مواجهته، أضرب المربوط يخاف السايب، فأي قبيلة حابة تواجة أو تتمرد تفكر مرتين قبل ما يرفعوا السلاح ضده. وده برده أستغلال لفكرة حب المسيطر والقوي عندهم اللي حكينا عنها. التانية هي الدبلوماسية مع اللي يستسلم، القبائل اللي كانت بتعلن ولاءها، "بدر الجمالي" كان بيخليهم يكملوا حياتهم عادي، يحافظوا على مراكزهم ووجودهم، وكمان يديهم امتيازات وصلاحيات، وده ساعده يضمن استقرار سريع.

"بدر الجمالي" قعد حوالي سنة ونص كاملين حروب في الصعيد عشان بس يقضي على التمردات، في حين قعد كان شهر في الوجه البحري قضى فيها على التمردات واللصوص وعمل كمان المشاريع الاصلاحية، يعني الصعيد هلكه حرفيا، لكن في الآخر حقق المستحيل وسيطر عليه.

 ومن سنة 468 هجرية / 1076ميلادية، كان الصعيد تحت قبضته. لكن بعض القبائل زي "بني هلال" و"بني سليم" حاولوا يرجعوا يتمردوا تاني، فبدر كان دايما مستعد، وعينه على أي تحركات جديدة، ويقضي عليها أول بأول.

بعد ما خلص على التمردات، بدأ يظبط الصعيد، رجّع الأمن للطرق وقضى على قطاع الطرق، ورجع صلح الطرق، وخلى التجارة تمشي من غير خوف.عمل تحالفات مع القبائل اللي وافقت على الخضوع، وده ساعده يسيطر من غير ما يفضل يحارب كل شوية. ثبّت الحاميات العسكرية في أماكن استراتيجية علشان أي تمرد جديد يتقمع بسرعة.

جمع الفلاحين من أهل الصعيد وعمل معاهم نفس اللي عمله مع أهل الدلتا، وزع عليهم الأراضي كمستأجرين للأرض من الدولة مش أُجرية، ووزع عليهم البذور وأدوات الزراعة ببلاش، وأستصلحلهم الاراضي ونضف الترع والمصارف وبنى السواقي والقناطر والجسور، وقالهم ازرعوا وكلوا وبيعوا ومعفيين من الضرايب لمدة 3 سنين، ومتخافوش من حد أنا حاميكم وهجيب حقكم. طبعا بعد اللي حصل ده كله أصبح "بدر الجمالي" بطل أسطوري، الجدع اللي مجابتوش ولادة في عيون أهل الصعيد.

"بدر الجمالي" خرج من الصعيد وهو ضامن إنه بقى جزء مستقر من الدولة الفاطمية. والصعيد بعد كده مشافش تمردات كبيرة أو صعبة طول فترة حكمه، لأن القبائل فهمت إن ده راجل ميتهزرش معاه، ده رجل أفعال لا أقوال. وإنه قائد بيعرف إزاي يكسب في الحرب والسلام في نفس الوقت.

(يتبع)
مروة طلعت 
20/1/2025
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
#بدر_الجمالي
#الشدة_المستنصرية
#الدولة_الفاطمية
المصادر:
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ج5 - ابن تغري بردي.
اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الخلفا ج2 - المقريزي.
سير أعلام النبلاء الطبقة 25 - شمس الدين الذهبي.
المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ج2 - المقريزي.
تاريخ مصر في العصور الوسطي - ستانلي لين بول.
الدولة الفاطمية في مصر تفسير جديد - د/ أيمن فؤاد سيد.
السجلات المستنصرية - د/عبد المنعم ماجد.
الوزارة والوزراء في العصر الفاطمي - د/ محمد حمدي المناوري.
حياة العامة في مصر في العصر الفاطمي - د/ نجوى كيرة.
تاريخ الدولة الفاطمية - حسن ابراهيم حسن.
الفاطميون في مصر - محمد كامل حسين.
الجزء الاول
https://www.facebook.com/share/p/1EFFerD421/
الجزء الثاني
https://www.facebook.com/share/p/18jUMy2uw9/
الجزء الثالث
https://www.facebook.com/share/p/19GEkNWqbp
الجزء الرابع 
https://www.facebook.com/share/p/1AENGC8NXH/
الجزء الخامس
https://www.facebook.com/share/p/1BA8p11mjR/
الجزء السادس
https://www.facebook.com/share/p/18GzcW9peZ/
الجزء السابع
https://www.facebook.com/share/p/1cGTKmxZqW/
الجزء الثامن
https://www.facebook.com/share/p/197oUd2YvV/

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الليث بن سعد 5

الليث بن سعد

الليث بن سعد 6