بدر الجمالي 8
(8) القاهرة كانت بتتنفس الصعداء لأول مرة من سنين طويلة. "بدر الجمالي" الراجل اللي مسك البلد وهي مدينة موتى وأعاد ترتيب الدنيا من أولها. قضى على الفساد، شال رؤوس الفتنة، وبنى جيش جديد على مزاجه. مفيش ركن في القاهرة إلا ومر عليه، بنى بوابات جديدة، رصف الطرق، قضى على قطاع الطرق، وأعاد الأمان للقاهرة.
"بدر الجمالي" كان عارف إن الخراب مش بس جوه أسوار القاهرة، البلد كلها كانت بتصرخ من الفوضى. بعد ما "بدر الجمالي" شد حيله ونظم القاهرة ووقفها من تاني على رجليها، وقف وبص على باقي مصر، لقى إن المشاكل مغرقة كل شبر في البلد. فقال يبتدي من الأهم فالمهم، والأهم دلوقتي هو الغذاء، ماهو مش طبيعي هتفضل القاهرة كده معتمدة في غذائها على الشام كتير، لازم يحقق إكتفاء ذاتي، اللي هو كان متأكد أن مصر كفيلة تعمل ده، مصر عندها فائض ويصدر كمان بس عاوزة نظام. وبكدة كان الأهم هو الوجه البحري، سلة غلال مصر اللي بقت خراب، والفلاحين بقت حالتهم بالويل، وده بسبب قبائل زي "لواتة" و"المحلية" اللي قرروا يبقوا سادة الأرض هناك، يعملوا زي ما يحبوا، والفلاح المسكين يا يدفع جزية، يا ينطرد من أرضه، أو الأسوأ... حياته نفسها تروح.
قبائل "لواتة" و"المحلية" كانوا من أكبر القبائل البربرية اللي أصلها من شمال إفريقيا، وتحديدا من المنطقة اللي بين ليبيا وتونس. القبائل دي كانت لها وجود كبير في مصر خصوصا في العصور الإسلامية، وتحديدا في العهد الفاطمي. كانوا قبائل قوية وبيعتمدوا على العدد والقوة في السيطرة على المناطق، لكنهم كانوا دايما عاملين قلق للحكام بسبب تمردهم الدائم. ولما الأحوال في مصر تدهورت أيام "المستنصر بالله"، كتير من قبائل "لواتة" و"المحلية" نزلت من مناطقها واحتلت أجزاء كبيرة من الوجه البحري، وعليها والدنيا أتبهدلت على ايديهم. سيطروا على القرى والمدن، وقفلوا الطرق، وكانوا بيجبروا الفلاحين يدفعوا خفارة (إتاوة) تقطم ضهر الفلاح، علشان يعدوا، أو يشتغلوا في أراضيهم - يعني الفلاح كانت يزرع في اراضيهم ويدفعلهم اتاوة مش هم اللي يدوه أجرته شايف البجاحة - وده زود معاناة الناس في الوقت ده. فأضطر أغلب الفلاحين يهجروا أرضهم ويسيبوا مصر كلها ويهربوا ع الشام، فالزرع جف، والأرض بارت، ومبقاش فيه محاصيل. لما بدر الجمالي وصلته أخبار الوجه البحري والدلتا من بصاصينه، وفهم الوضع، عرف إن أول خطوة عشان الزراعة ترجع تقوم من تاني، هي إنه يتخلص من خطر لواتة والمحلية، وده كان من أهم التحديات اللي واجهها في الوجه البحري.
في سنة 467 هجرية/ 1074 ميلادية، طلع "بدر الجمالي" من القاهرة واخد معاه الجيش اللي عمله من الأرمن والمصريين ومعاه شوية رجاله الأوفياء عشان يواجة لواتة والمحلية. "بدر الجمالي" كان عارف أن مصر مش هتقوم إلا بإيد فلاحيها، ولو الأرض فضلت بور يبقى كل اللي عمله ما لوش لازمة. فشد الرحال ناحية الدلتا، والجيش كله وراه زي السيل اللي هيغرق أي حد في وشه. دخل "بدر الجمالي" في قتال مع قبائل لواتة والمحلية اللي أتوسع رقعة المعارك معاهم في الدلتا كلها وحتى اسكندرية. بدر دخل الحرب دي بكل حزم، ورغمتعدد أماكن القتال في كذا مكان لكن فعليا هم مخدوش في ايده غلوة، وفي فترة قصيرة قدر يسترد أرض الدلتا واسكندرية.
أول ما وصل "بدر الجمالي" عند القبائل دي، بدأ ينظم خطة محكمة. قال لجنود جيشه مش هنضرب وخلاص، لازم نحاصرهم ونخليهم يحسوا إن مالهمش مفر. وفعلا عمل كماين عند الطرق الرئيسية، قطع عليهم المؤن، وسيطر على القرى حوالين أماكنهم. القبائل دي كانت معتمدة على الخوف اللي زرعوه في قلوب الناس، لكن لما شافوا جيش "بدر الجمالي" محاصرهم، وسمعوا عن شجاعته وشدته وقسوته، بقى عندهم خوف أكبر. وواحد ورا التاني، القبائل دي بدأت تنهار.
الخليفة الفاطمي "المستنصر بالله" كان عنده هواية كتابة رسايل بيعبر فيها عن الأحداث اللي حواليه كأنها مذكراته وأتسمت بعد كده بالسجلات المستنصرية. كتب "المستنصر بالله" في السجل 56 عن اللحظة دي وقال: (ولما وصل - يقصد بدر الجمالي - إلى الأعمال المصرية وجدها نهبا بأيدي المتغلبين الذين طائفة تسمى لواتة تشتمل عدتهم على نحو خمسين ألف رجل، فكان أول أفعاله مكافحته لهم، وترويته السيوف من دمائهم، حتى صرع في القاع منهم الألوف، وجُعلوا أطعمة للكلاب والنسور، وغُرق ألوف أخرون في البحر تأكله السمك، وطُجنت هذه الطائفة الحادة الشوكة الكثيرة العدة بمطاحن الردى، وملكت عليهم أرضهم وديارهم وأموالهم، ثم التفت إلى طائفة من البوادي فكل يلقى عليهم من ظل سياسته ما يفرق بين الكرى وبين جفونهم، حتى ألبس الطرقات ملبس الأمنة للطراق والسفار، وقضت على مراجم المفسدين والذعار، وملكت اسكندرية عن ملكة الدولة منقسمة بين المعتدين من الحاضرة والبادية فجمع الله تعالى على يده شملها، وأعاد إليها زينتها وبهجتها).
من الواضح أن "المستنصر بالله" كان شمتان أوي في لواتة. "المستنصر" كتب في سجلاته وقال أول حاجة "بدر الجمالي" عملها أنه قرر يخلص على لواتة تماما. دخل معاهم في معارك شديدة، وقتل منهم أعداد كبيرة جدا. الجثث بتاعتهم كانت مرمية في كل حتة، الكلاب والنسور كانت بتاكل منهم، واللي ما ماتش على الأرض، غرق في البحر، السمك أكلهم، "بدر الجمالي" مرحمش حد، وفعلا قضى على القبيلة بالكامل، واستولى على كل اللي كانوا واخدينه من أراضي وبيوت وأموال. بعد كده بدأ يشوف باقي المشاكل، وكان فيه ناس تانية من البدو برضه عاملين مشاكل. خلى الليل والنهار للناس المفسدة زي الكابوس، مش عارفين يناموا من الخوف من بطشه. الطرق اللي كانت مليانة قطاع طرق بقت أمان، والناس رجعت تتحرك من غير خوف. أما الإسكندرية اللي كانت بقت تحت رحمة المعتدين من البدو، "بدر الجمالي" رجعها تاني للدولة، وجمع الناس على كلمة واحدة، وزرع فيها الأمن والسلام. الإسكندرية رجعت مدينة جميلة وآمنة، والناس بقت فرحانة بيها من جديد.
وأول ما دخل بدر القرى اللي كان أهلها بيصرخوا من الظلم، عمل مشهد الناس ما تنساهوش. جمع الفلاحين اللي فاضلين من اللي لا عرفوا يهربوا ولا ماتوا لسه من الجوع والحظ خدمهم ومحدش أكلهم، وعشان يجمعهم بعت عساكره تتكلم معاهم باللين ويحاولوا يطمنوهم، وخرجوهم من جحورهم حرفيا عشان عاشوا سنين طويلة زي الفيران المذعورة فيها. ولما وقفوا قصاد "بدر الجمالي" قال لهم إنتوا أهل الأرض دي، محدش ليه سلطان عليها غيركم. من النهارده مفيش جزية ولا خفارة تدفعوها لحد غير الدولة، وكمان الدولة مستغنية عن الضرايب خالص لمدة 3 سنين، هوزع عليكم كل أنواع البذور ببلاش، ازرعوا وأحيوا الأرض تاني، كلوا منها وبيعوا محاصيلها ومحدش هياخد منكم درهم طول الفترة دي، وأنا هحميكم وهجيب حقكم. وفعلا وزع الأرض على الفلاحين في نفس القعدة، كل فلاح بقى كأنه مستأجر الأرض من الدولة. الناس كانت واقفة مذهولة من اللي بتسمعه، بين يوم وليلة كده، كل واحد كان مستني الموت، فجأة يحيا من تاني في لحظة، لا وكمان يبقى مالك أرض. الفلاحين بقت تهتف بأسم "بدر الجمالي" من كل قلبهم، والستات تزغرد، والفرحة مكنتش سايعاهم.
الكلام مكانش مجرد خطب، "بدر الجمالي" وزع الجنود في القرى علشان يطمنوا الناس ويحموا الأراضي، وراح يراجع بنفسه عقود الأراضي علشان يرجعها لأصحابها الحقيقيين. مش بس كده ده بعت رسايل لعكا، ومنها لكل أراضي الشام، ينادي على الفلاحين المصريين الهربانيين قالهم أرجعوا بلدكم أرضكم بتناديكم، وكل فلاح هيرجع هياخد أرض زي الموجودين يزرعها والضرايب ملغية 3 سنين. طبعا في أيام قليلة أغلب الفلاحين رجعوا جري، مهما كان المصري ميقدرش يستغنى عن أرضه.
بعد الوجه البحري كمل على الإسكندرية، اللي كانت واقعة في قبضة العصابات وقطاع الطرق والقراصنة في البحر، واللي خلوا التجارة البحرية متوقفة تماما. قاد "بدر الجمالي" الجيش هناك وبدأ بحملة تأديبية شديدة على اللي كانوا بيقطعوا الطرق أو بيظلموا التجار. وقضى على القراصنة تماما، وفي النهاية البحر رجع آمن، والميناء رجع يشتغل من تاني.
بعد الحملات دي، الأرض رجعت تدب فيها الروح، الفلاحين بدأوا يزرعوا وهم مطمنيين، أحساس أني بزرع لنفسي ولأولادي ده أحساس ساحر، الأمان والاستقلالية بيطلع أنجازات. "بدر الجمالي" كمان أهتم بالطرق ورجع يظبطها، عشان التجارة بين القرى والمدن، نضف الترع والمصارف وأنشأ السواقى وحفر ترع جديدة، سلم الفلاحين البذور والأدوات الزراعية كل ده ببلاش. وكانت النتيجة المحاصيل رجعت تيجي على القاهرة والمدن اللي حواليها من الدلتا من تاني، و"بدر الجمالي" بقى بطل في نظر كل فلاح وأي مصري شاف الليل الكحل بيتحول لنهار.
دي كانت خطوة مهمة في رحلة "بدر الجمالي" اللي مكنش هدفه بس إنه يمسك وزارة أو يبقى اسمه كبير، ده كان راجل شايل على كتافه مسئولية بلد كاملة بيبنيها من الصفر حرفيا.
(يتبع)
مروة طلعت
18/1/2025
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
#بدر_الجمالي
#الشدة_المستنصرية
#الدولة_الفاطمية
المصادر:
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ج5 - ابن تغري بردي.
اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الخلفا ج2 - المقريزي.
سير أعلام النبلاء الطبقة 25 - شمس الدين الذهبي.
المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ج2 - المقريزي.
تاريخ مصر في العصور الوسطي - ستانلي لين بول.
الدولة الفاطمية في مصر تفسير جديد - د/ أيمن فؤاد سيد.
السجلات المستنصرية - د/عبد المنعم ماجد.
الوزارة والوزراء في العصر الفاطمي - د/ محمد حمدي المناوري.
حياة العامة في مصر في العصر الفاطمي - د/ نجوى كيرة.
تاريخ الدولة الفاطمية - حسن ابراهيم حسن.
الفاطميون في مصر - محمد كامل حسين.
الجزء الاول
https://www.facebook.com/share/p/1EFFerD421/
الجزء الثاني
https://www.facebook.com/share/p/18jUMy2uw9/
الجزء الثالث
https://www.facebook.com/share/p/19GEkNWqbp
الجزء الرابع
https://www.facebook.com/share/p/1AENGC8NXH/
الجزء الخامس
https://www.facebook.com/share/p/1BA8p11mjR/
الجزء السادس
https://www.facebook.com/share/p/18GzcW9peZ/
الجزء السابع
https://www.facebook.com/share/p/1cGTKmxZqW/
تعليقات
إرسال تعليق