بدر الجمالي 7
(7) بدر الجمالي ركب البحر على مراكبه الأرمنية، في عز الشتا، ومهموش التقلبات الجوية ولا الأمواج الثايرة، مكنش شايف غير هدفه مصر، في اللحظة اللي كانت الدنيا فيها زي البركان. الخليفة الفاطمي "المستنصر بالله" كان على حافة اليأس، ولما رسى "بدر الجمالي" في تنيس، وعسكر في قليوب، أشترط على الخليفة يمسك "بلدكوش" قبل ما يدخل القاهرة - تقدر تراجع الجزء السادس - الخليفة ما ترددش لحظة، وأرسل الرجال يقبضوا عليه. "بدر الجمالي" دخل مصر زي الإعصار، الدنيا اتشقلبت مع أول خطوة ليه في قليوب، وبعدها شوفنا إزاي استلم زمام الأمور، وبدأ يعد العدة لتنظيف البلد من الفوضى والفتنة اللي كانت مالية الشوارع.
بعد ما "بدر الجمالي" وصل مصر، وعرف إنه لازم ياخد خطوة قوية يثبت بيها وجوده وينقذ البلد من حالة الفوضى اللي كانت غارقة فيها. "بدر الجمالي" مكنش مجرد قائد عادي، ده كان راجل بيعرف يفكر بدماغه قبل سيفه، وعشان كده قرر يعمل خطة محكمة يتخلص بيها من رؤوس الفتنة والفساد اللي كانت عاملة زي الغرغرينا في جسد الدولة.
"بدر الجمالي" عمل مؤامرة مفيش حد توقعها، شبهها المؤرخين بمذبحة القلعة اللي "محمد علي باشا" عملها بعده ب 737 سنة. جمع فيها كل اللي ليهم إيد في الخراب والفتنة، من قادة ورجال دولة، وفي لحظة واحدة صفى الحساب معاهم، قتلهم كلهم من غير ما يرف له جفن. ومن بعدها طارد أعوانهم أو زي ما بنسميهم الفلول، وقضى عليهم كلهم بسيوف جنوده من غير تفكير. ماهو الفرعون فلوله هي اللي فرعنته، وطالما الفلول دول موجودين هيخلقوا فرعون جديد بمنتهى السهولة، وساعتها كأنك يا زيد ما غزيت.
الحركة دي خلت البلد خالية تماما من عناصر الفساد اللي كانت مسيطرة عليها، وبدأ "بدر الجمالي" يشكل جيش جديد على مزاجه، جاب جنود وعساكر من الأرمن اللي كانوا أهل ولاء ليه وموثوق فيهم، كون بيهم جيش مصر الجديد. وبالنسبة لمناصب الدولة العليا برده أختارهم ع الفرازة من أهل الثقة والولاء ومكنهم من كل مفاصل الدولة، فبقى حرفيا صوابعه كلها راشقة في كل شق في الدولة.
المقريزي قال عن اللحظة دي: "صار من حينئذ معظم الجيش الأرمن وذهبت كتامة وصاروا من جملة الرعية بعدما كانوا وجوه الدولة وكابر أهلها". كتامة كانت واحدة من أشهر القبائل الأمازيغية التي عاشت في شمال إفريقيا، وتحديدا في مناطق شرق الجزائر اليوم. القبيلة دي كان لها دور كبير جدًا في التاريخ الإسلامي، خصوصا في نشأة الدولة الفاطمية، لأنها كانت العمود الفقري للجيش الفاطمي في بدايته. "بدر الجمالي" سرح قبيلة كتامة اللي كانوا ضهر الدولة الفاطمية بقالهم سنين، واتحولوا لرعية عادية زيهم زي غيرهم من العوام، بعد ما كانوا فوق القانون زيهم زي الخليفة.
الخليفة "المستنصر بالله" لما شاف اللي "بدر الجمالي" عمله، قرر يكافئه ويعطيه سلطات مطلقة. أطلق عليه لقب "السيد الأجل أمير الجيوش"، مع صف طويل تاني من الألقاب، لكن لقب "السيد الأجل أمير الجيوش" بالذات كان بيمضي بيه كل أوراقه ومراسلاته. وكتب له الخليفة "المستنصر بالله" سجل رسمي موجود في السجلات المستنصرية بيقوله فيه: "قد قلدك أمير المؤمنين جميع جوامع تدبيره، وناط بك النظر في كل ما وراء سريره، فباشر ما قلدك أمير المؤمنين من ذلك مدبرا للبلاد مصلحا للفساد مدمرا أهل العناد". يعني من دلوقتي أنت المسؤول الأول عن كل حاجة في الدولة.
مش بس كده، خلع عليه الخليفة "المستنصر بالله" لبس مميز كعلامة على مكانته الجديدة، عبارة عن عقد مرصع بالجواهر، ولبسه حنكة مع ذؤابة، وزود له الطيلسان المقور، اللي كان زي تاج الشرف وقتها. وبكده بقى "بدر الجمالي" أول وزراء التفويض في العصر الفاطمي، يعني الحاكم الحقيقي اللي كل خيوط الدولة في إيده، والخلفية الفاطمي مجرد بركة وصورة في ضهرة، ودي كانت بداية عصر الوزراء في الدولة الفاطمية.
"بدر الجمالي" مكنش مجرد قائد جيش شاطر، ده كان مصلح بدرجة عبقري، وعارف إن أول خطوة لإنقاذ مصر هي إنه يرجع لها الأمن والنظام. وقت ما مسك زمام الأمور، كانت الدنيا في مصر سايبة، والخراب ضارب كل حتة. القاهرة نفسها كانت حالتها يرثى لها، والفساد واصل للسقف. الوزراء بقى عندهم ألقاب فخمة من غير سلطة، والعسكر متقسمين طوائف، وكل واحد عامل فيها الحاكم بأمره. الطرقات، سواء بالبر أو البحر، بقت مش آمنة مليانة بقطاع الطرق إلا لو معاك فلوس تدفعها خفارة، يعني زي إتاوة، شخلل يا بلدينا عشان تعدي.
لما "بدر الجمالي" دخل القاهرة، كانت خرابة حرفيا. الناس خايفة ومستخبية، الأسواق فاضية، والطرق مليانة قطاع طرق. يعني القاهرة ما كنتش قاهرة، كانت مدينة ميتة، مستنية الساحر اللي هيحييها. و"بدر الجمالي" كان معاه عصايته السحرية، مسكها وقال بيبدي بابيدي بو، وقوم مصر كلها مش القاهرة بس على رجلها من تاني.
"بدر الجمالي" كان عارف أن أمان الإنسان بيبتدي من بطنه، عشان كده بعت جاب مواد غذائية من الشام، ونزلهم في الأسواق بأسعار شبه ببلاش، وبعدها نضف الشوارع من الفوضى. العسكر اللي كانوا بينهبوا الناس ويفرضوا إتاوات في كل مكان، خلص عليهم تماما. جمع كل العصابات والمرتزقة اللي كانت عاملة دوشة، وبدأ بمحاكمتهم، اللي يستحق العقاب أخد جزاءه، واللي كان ممكن ينضبط ضمه لجيشه الأرمني الجديد، أهو يستفيد من شبحنته، بس بشرط يلتزم بالقوانين ويكون تحت المراقبة الصارمة لحد أثبات صفاء نيته. كمان نشر نقاط تفتيش في مداخل القاهرة وشوارعها الرئيسية. أي حد يدخل أو يخرج لازم يتفحص، وده خلى المجرمين وقطاع الطرق والحرامية تفكر ألف مرة قبل ما تعمل أي حاجة، عشان عقوبات "بدر الجمالي" كانت عنيفة ضد أي تهاون أو غلط، من أمن العقاب أساء الأدب، يعني أرحم عقاب كان الإعدام.
القاهرة كانت محتاجة جيش قوي يقدر يحميها، و"بدر الجمالي" كان حريف في الحتة دي. هو ما اكتفاش بجنوده الأرمن اللي جابهم معاه، لكنه كمان بدأ يضم رجال من المصريين، من أهل البلد الأصليين المخلصين. قسم الجيش لمجموعات صغيرة، وعيّن قادة لكل مجموعة، بحيث يقدر يسيطر عليهم بسهولة، وأخدوا تدريبات مكثفة شديدة، علّمهم فيها الفروسية والكر والفر والخطط العسكرية والانضباط والقوانين الجديدة.
الأسواق في القاهرة وقتها كانت زي ساحة حرب، التجار بيغشوا، الأسعار مولعة، والبضائع قليلة. عشان كده "بدر الجمالي" أمر بتحديد الأسعار للبضائع الأساسية، وحذر من الغش أو الاحتكار، والعقوبات للمخالفين برده كانت صارمة جدا ومخيفة، بحيث تخلى التاجر ميفكرش من أصله يغير تسعيرته عن التسعيرة الثابتة للسوق. نزل الأسواق بصفة دورية وبشكل خفي أو علني، وعمل جولات تفتيشية بنفسه على الأسواق علشان يشوف اللي بيحصل بعينه. وبعد فترة قصيرة، الأسواق بدأت ترجع لحالتها الطبيعية، والناس بقت تقدر تشتري احتياجاتها من غير ما تضطر تدفع دم قلبها.
القاهرة كانت متدمرة بشكل كبير، البيوت مهجورة، والمساجد والمباني الحكومية خربانة. فبدأ "بدر الجمالي" يشرف على أعمال البناء والإصلاح. أمر بترميم الجوامع الكبيرة زي جامع عمرو بن العاص - على الرغم من أنه شيعي وجامع عمرو جامع السنة لكن "الجمالي" كان جاي يصلح ميفرقش - وهد الأسوار اللي كانت خافية القطائع والعسكر عن القاهرة - راجع الجزء الخامس - وأعاد بناء الطرق والكباري علشان يسهل حركة التجارة بين المدن.
"بدر الجمالي" في لفته كده في القاهرة شايف إن الأسوار القديمة للقاهرة اللي بناها "جوهر الصقلي"، بقت ضعيفة وما تنفعش تحمي المدينة، فقرر يبني أسوار جديدة من الحجر بدل الطوب اللبن، ويدعمها ببوابات ضخمة. الحقيقة عمل شغل عظيم لما قرر يعيد بناء أسوار القاهرة ويحميها من كل تهديد خارجي. واحد من أهم إنجازاته كانت بوابات القاهرة اللي لسه موجودة لحد النهارده، وكانت تحفة معمارية ودفاعية في نفس الوقت. البوابات دي بقت رمز لقوة القاهرة وعظمتها لقرون بعده.
كانت للقاهرة بوابتين بس وهم بوابة مكان باب زويلة وبوابة مكان باب الفتوح، راح "بدر الجمالي" هدهم وبنى مكانهم بوابات جديدة وزود عليهم كمان. أول بوابة كان باب الفتوح، وده موجود في الجهة الشمالية من أسوار القاهرة. كان الهدف منه حماية المدينة من أي هجوم جاي من الشمال. شكله دفاعي قوي، ومعمول بطريقة تسمح بالحراسة الفعالة. تاني بوابة باب النصر، موجود برده في الجهة الشمالية، قريب من باب الفتوح. اسمه لوحده يحكي عن دوره، كان رمز لانتصارات الدولة وحمايتها، وكانت الجيوش وهي راجعة منتصرة تدخل القاهرة منه. تصميمه قوي وجميل، فيه زخارف حجرية وأبراج. تالت بوابة باب زويلة، وده بقى موجود في الجهة الجنوبية، وكان البوابة الرئيسية للقاهرة. مشهور بإنه مكان إعدام المجرمين والخارجين عن القانون، عشان اي حد داخل أو خارج بما أنه البوابة الرئيسية يشوف وياخد العظة. تصميمه عظيم، فيه قباب وأبراج مميزة. البوابات دي كانت مش بس للدفاع، لكن كمان للتحكم في الدخول والخروج من المدينة. كل بوابة كانت عليها حراس وأبراج مراقبة، وكأنها حصون صغيرة.
بدر استعان بمهندسين أرمن مهرة، وعمل تصميم يجمع بين الجمال والقوة. كل بوابة كانت معمولة من الحجارة القوية، ومزودة بأقواس وأبراج. النهارده، البوابات دي مش مجرد أثر، دي شهادة على قوة وعظمة فكر "بدر الجمالي" واهتمامه بحماية القاهرة وبناءها على أسس قوية.
في بداية دخول "بدر الجمالي" القاهرة، ومع بداية إصلاحاته ومشاريعه، كانت الناس فاقدة الثقة في الدولة وفي أي حد يمسك السلطة. "بدر الجمالي" كان ذكي، كان عاوز يلم الناس حواليه عشان هم السواعد اللي هيعتمد عليها، فكان بيتعامل مع الناس بحزم لكن بعدل. كان مشهور عن "بدر الجمالي" أنه بيمشي في الأسواق والشوارع وسط الناس على رجليه عادي، وكمان ساعات كتيرة من غير حراسة، منه للناس مباشرة، أي حد عنده مظلمة كان يقدر يروح له ويشتكي، و"بدر الجمالي" كان بيسمع لكل واحد وينصفه. فالناس بدأت تحس إن فيه قائد جديد بيهتم بيهم بجد مش جاي ينهب ويجري زي اللي قبله، فرجع ليهم الثقة والأمل.
بعد كام شهر من المشاريع الإصلاحية، القاهرة رجعت تتنفس من جديد. الطرق بقت آمنة، الأسواق رجعت مليانة، والناس بدأت تحس إن حياتها بقت أحسن. "بدر الجمالي" كان عارف إن ده مجرد البداية، وإن لسه عنده شغل كتير، لكن الوقت ده كان هو اللي خلاه يثبت رجليه ويعرف الناس إن البلد بقت في إيد أمينة.
ودي كانت نقطة الانطلاق اللي بعدها بدر بدأ يفكر في استعادة باقي مصر، وقرر يشد الرحال للخطوة اللي بعدها، سلة غلال مصر، الوجه البحري.
(يتبع)
مروة طلعت
17/1/2025
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
#بدر_الجمالي
#الشدة_المستنصرية
#الدولة_الفاطمية
المصادر:
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ج5 - ابن تغري بردي.
اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الخلفا ج2 - المقريزي.
سير أعلام النبلاء الطبقة 25 - شمس الدين الذهبي.
المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ج2 - المقريزي.
تاريخ مصر في العصور الوسطي - ستانلي لين بول.
الدولة الفاطمية في مصر تفسير جديد - د/ أيمن فؤاد سيد.
السجلات المستنصرية - د/عبد المنعم ماجد.
الوزارة والوزراء في العصر الفاطمي - د/ محمد حمدي المناوري.
حياة العامة في مصر في العصر الفاطمي - د/ نجوى كيرة.
تاريخ الدولة الفاطمية - حسن ابراهيم حسن.
الفاطميون في مصر - محمد كامل حسين.
الجزء الاول
https://www.facebook.com/share/p/1EFFerD421/
الجزء الثاني
https://www.facebook.com/share/p/18jUMy2uw9/
الجزء الثالث
https://www.facebook.com/share/p/19GEkNWqbp
الجزء الرابع
https://www.facebook.com/share/p/1AENGC8NXH/
الجزء الخامس
تعليقات
إرسال تعليق