بدر الجمالي 6
في ليلة كانت عكا فيها غارقة في السكون، والبحر بيداعب أسوارها العالية، في قلعة على تلة مطلة على المدينة، واقف "بدر الجمالي"، قدام خريطة كبيرة للشام ومصر، التعلب الأرمني القوي اللي عنده 60 سنة لكنه بعنفوان ابن ال 30، إيده على ذقنه، مستغرق في التفكير، وعينه بتلمع بدهاء.
عكا كانت مش مجرد مدينة بالنسبة له، دي كانت حصنه الآمن وسلاحه الخفي. هو اللي حولها من مجرد مدينة ساحلية لعاصمة صغيرة، جنوده الأرمن بيناموا وسيوفهم في ايديهم، وأسوارها بتلمع تحت ضوء القمر بتتحدى أي عدو يفكر في الاقتراب.
"بدر الجمالي" مكنش مجرد قائد عسكري عادي. الناس في عكا كانوا بيحكوا عنه أساطير من كتر قوته وشدة حزمه وقدرته على حل أي مشكلة، كانوا دايما بيحكوا عن المعارك اللي خاضها، وعن دهاؤه اللي بيخلي أعداؤه خايفين من مواجهته.
"بدر الجمالي" كان عارف إن اللي بيحصل في مصر أخطر بكتير من أي معركة خاضها قبل كده. أخبار المجاعة والشدة المستنصرية كانت بتوصل له من التجار اللي بيرسوا مراكبهم في ميناء عكا. مصر أنهارت... الفاطميين بيدوروا على منقذ.
"بدر الجمالي" في الوقت ده كان بيلعب لعبة الصبر، هو كان أذكى من إنه يدخل نفسه في صراعات من غير ما يكون هو الطرف الأقوى. عكا كانت جاهزة لأي هجوم من السلاجقة أو البيزنطيين ولازم يكون مستعد، لكنه فضل يراقب الوضع من بعيد.
أحداث كتير حصلت بعدها، مصر فضلت تغرق أكتر في الفوضى، واسم "بدر الجمالي" بدأ يتردد على لسان كل واحد في البلاط الفاطمي. بعد سلسلة انتصارات على السلاجقة والبيزنطيين. لكن "الجمالي"، الأمير الحكيم، فضل ثابت في عكا. كان مستني الدعوة الرسمية اللي هتفتح له أبواب القاهرة، مش كمنقذ للوضع وبس، كحاكم بيمسك الأمور بيد من حديد، ويعيد لمصر أمجادها... واللحظة دي كانت قريبة جدا.
كان الحال في مصر صعب جدا، البلد كانت تايهة في فوضى مالهاش أول من آخر. الخليفة "المستنصر بالله"، اللي المفروض يكون الحاكم القوي، كان محبوس جوه القصر ومش قادر يعمل حاجة - راجع الجزء الخامس - والبلد بقت في إيد فرق الجند اللي كل فرقة منهم كانت ماسكة جزء.
فرق جند اللواتيين والملحية كانوا مسيطرين على البحيرة والإسكندرية وكل مناطق الدلتا يعني، والصعيد كان في إيد المغاربة والسودانيين، أما القاهرة والفسطاط فكانوا تحت رحمة الأتراك. يعني كل حتة في البلد كان عليها جماعة لوحدها، ولا حد سامع كلام الخليفة ولا حتى بيحسب حسابه، هو مجرد صورة أو رمز للدولة الفاطمية، خيال مآتة يعني.
الخليفة "المستنصر بالله" عرف إن مفيش حل غير إنه يجيب قائد قوي عنده جيش يقدر يفرض النظام ويحمي الخلافة ويرجع الأمن للبلد. فكر كتير لحد ما جه في باله "بدر الجمالي"، حاكم عكا. "بدر الجمالي" كان صيته مسمع بقوته وذكائه العسكري، ف"المستنصر بالله" قرر يبعتله يطلب مساعدته.
الخليفة اختار وزيره، "أبو الفرج محمد بن جعفر بن المغربي"، وفي نفس الوقت كان رئيس ديوان الإنشاء، وخلاه يكتب رسالة ل"بدر الجمالي" في السرّ. قاله في الرسالة إن البلد محتاجة قائد قوي ينقذها من الفوضى، وطلب منه ييجي مصر عشان يمسك زمام الأمور.
الليل كان ساكن في عكا، لكن جوه القلعة، الدنيا مكنتش هادية خالص. "بدر الجمالي" واقف قدام الشباك العالي، عينه على البحر الممتد، لكن عقله في حتة تانية خالص. هو كان عارف إن اللحظة دي هتيجي، بس ماكنش متوقع إنها هتبقى بالشكل ده.
فجأة، صوت خطوات سريعة قطع الصمت اللي حوالين القلعة. الحراس فتحوا البوابة الداخلية، ورسول منهك من السفر ظهر، ملامحه كانت هلكانة من التعب، وهدومه مبهدلة من تراب الطريق. الرسول قدم رسالته اللي خرجت بسرية شديدة لحد ما وصلت في ايد "بدر الجمالي". الرسول اللي كان شايل الرسالة كانت في مهمة انتحارية حرفيا، عشان لو كان حد شم خبر برسالته كانت راسه طارت فيها. "بدر الجمالي" مسك الرسالة، ورقة رفيعة مكتوبة بخط راقي، عليها ختم الخليفة الفاطمي "المستنصر بالله". بدر قرا السطور، وعينه بتقرا أكتر من الكلام المكتوب. "المستنصر بالله" كان بيستنجد ب"بدر الجمالي" وكأنه بيقوله مفيش غيرك أنت أملي الأخير.
"بدر الجمالي" مشهور بثباته الانفعالي عشان كده مظهرش أي رد فعل، أشار للحراس يخرجوا الرسول، ويكرموه، والرسول ما صدق هيدوق طعم الأكل من تاني بعد ما كان نسيه. لما القاعة بقت فاضية، مسك الرسالة تاني، قرأها ببطء، وبعدين قام على مكتبه. خط بإيده رد مقتضب، بسيط في كلماته لكن تقيل في معناه.
"بدر الجمالي" كان واضح وصريح، قاله سمعا وطاعة للخليفة هجيلك، لكن مش لوحدي. شرطي الوحيد أني هاجي بجيشي الأرمني، ومش هستخدم أي فرد من أفراد الجيش الفاطمي، كل الجيش لازم يتسرح من الكبير للصغير.
الرسالة رجعت مع الرسول بنفس السرعة اللي جت بيها. "بدر الجمالي" بعدها قعد على كرسيه، قدام الخريطة اللي معلقة على الحيطة. عينه مسكت في نقطة "مصر"، ابتسم ابتسامة خفيفة، لأنه كان فاهم كويس إن اللحظة اللي مستنيها طول حياته، واللي حطلها الخطط وجهزلها كويس بدل المرة مليون، أخيرا بقت على الأبواب.
وصل الرسول برد "بدر الجمالي" للخليفة "المستنصر بالله"، وكان ساعتها عاوز الانقاذ بأي شكل مهما كانت الشروط، عشان كده وافق فورا على شروط "بدر الجمالي". ومن هنا، بدأت حكاية "بدر الجمالي" اللي قلب موازين القوة في مصر، وأعاد لمصر هيبتها من تاني من بعد الفوضى اللي كانت غرقانة فيها.
في ليلة من ليالي شتاء سنة 466 هجرية / يناير 1074 ميلادية، كانت 100 مركب بتشق طريقها وسط أمواج البحر، خارجة من عكا متجهة لمصر. على رأس المراكب، كان "بدر الجمالي" واقف شامخ، رافع عينه ناحية الأفق، عارف ومخطط كل خطواته اللي جاية فين وازاي، ماهو سنين متابع وبصاصينه ناقلين له الصورة كأنه تحت كل حجر في مصر. وراه جيش كامل من الأرمن، كلهم مخلصين بولاء تام لقائدهم ومعلمهم "بدر الجمالي"، أسلحتهم بتلمع تحت ضوء القمر المتقطع بين الغيوم، رهن اشارة منه.
وصلت المراكب أخيرا لشواطئ تنيس - في بحيرة المنزلة بمحافظة الدقهلية - ، نزل الجنود، صوت خطواتهم تقيل على الرمال المبلولة. "بدر الجمالي" كان عارف إن المهمة مش هتكون سهلة. وقف قدام جيشه، أشار لهم بايده عشان يجهزوا للتحرك، وأتحركوا فعلا لحد قليوب، وهناك أقام معسكره وقعد بجيشه.
بعت "بدر الجمالي" رسالة ل"المستنصر بالله"، يطمنه فيها أنه وصل وقاعد في قليوب. الخليفة "المستنصر بالله" أستغرب، قاعد ليه عندك ما تدخل القاهرة. رد "الجمالي" عليه برسالة تانية وقاله مش هدخل القاهرة إلا لما "بلدكوش" يتحبس." بلدكوش" قائد الأتراك اللي كان مسيطر على كل حاجة في الوقت ده - راجع الجزء الخامس - كان رمز الفساد والفوضى في البلاد.
كان القرار صعب، عشان الخليفة كان محاصر أصلا وشبه محبوس، واللي حابسه "بلدكوش" نفسه. بس أحساس الخليفة بالأمان وأن "بدر الجمالي" بجيشه جنبه بينهم فركة كعب، خلى قلبه يجمد ويتجرأ كده، وقدر فعلا يخلص من "بلدكوش". بعت الخليفة الحراس، قبضوا عليه، ومن بعدها خلصوا عليه. طب ليه "بدر الجمالي" مدخلش يخلص على "بلدكوش" بنفسه؟. "بلدكوش" بالنسبة ل"الجمالي" كان من صغائر الأمور وهو جاي للتقايل، فمش هيرهق جيشه عشان حاجة صغيرة متستاهلش.
لما وصل "بدر الجمالي" للقاهرة، كان دخوله أشبه بموكب مهيب. جيشه دخل وراه منظم، خطواتهم تقيلة، وأصوات الطبول بتعلن وصول عهد جديد. الشوارع كانت خربانة وفاضية، بيوت متهدمة وطرق متكسرة، مدينة موتى، وأشباح الناس اللي فاضله بتبص بحذر وخوف من جوا جحورهم على المنظر الغريب والدخول المهيب اللى نسيوا شكله من سنين، لكن جوة عيونهم كان فيه نقطة صغيرة من الأمل.
دخل "بدر الجمالي" قصر الخليفة، واستقبله "المستنصر بالله" على حصيرته بكل ترحاب. قال له إيدك مطلوقة، كلمتك هي كلمتي، البلاد أمانة في رقبتك.
أول خطوة ل"بدر الجمالي" كانت إنه يفهم المشهد بالكامل، عشان يعرف مين هم رؤوس الفتنة اللي بيتلاعبوا بمصير الدولة. ومن مراقباته القديمة والحالية لقادة الجند وكبار رجال الدولة، فهم إن مفتاح الاستقرار هو التخلص من العناصر الفاسدة اللي بتنشر الفوضى. لكن "بدر الجمالي" كان ذكي، وعارف إنه ما يقدرش يتحرك ضدهم، مهياش عاركة في خمارة، قادة الجند وكبار الدولة كانوا كتير وأقوياء، وعددهم وجنودهم أكتر بكتير من جيشه اللي جايبه معاه من عكا - لاحظ أنه جاب جزء بس من جيشه لأنه لازم يسيب اللي يأمن بيه عكا وهي وسط النار - فخطط لمؤامرة دقيقة وهم مش واخدين بالهم.
من زمان وأنا مقتنعة أن التاريخ بيكرر نفسه، وأحيانا بيكون بصورة متطابقة وكأنه تأثير ديجافو - حدث من قبل - واللي هنحكيه دلوقتي أبلغ دليل على صدق مقولتي لكن تعالى نحكي وفي الآخر قولي أفتكرت ايه.
"بدر الجمالي" دخل على قادة الجند وكبار مسئولي الدولة اللي أيقن منهم الفساد، وفهمهم أنه مش جاي لحربهم بدليل أنه ملوش دعوة باللي حصل ل "بلدكوش" - مش أنا اللي قتلته ده أختي منى - ده الخليفة بعته عشان يقرب وجهات النظر ما بينهم، ويولف المصالح، عشان يخروا من دايرة التشتت دي والضعف، ويحطوا ايديهم في ايد بعض، وكل واحد هيتراضى. وبعت لهم رسايل شخصية واحد واحد، وحدد ميعاد اجتماع لمناقشة خطط إصلاح البلاد، ووجودهم ضروري لتوحيد الصفوف. والرسالة كانت طبيعية جدا، ومليانة أسباب مقنعة، ومخفلش حتة أنه يطمعهم عشان يسيل لعابهم.
لما إتجمع قادة الجند وكبار رجال الدولة في القصر عشان الاجتماع مع "الجمالي" والخليفة. "بدر الجمالي" أستقبلهم أحسن أستقبال، وفرد لهم موائد من ألذ وأشهي المأكولات اللي جايبها معاه من الشام، وبعد الحادق نزل الحلو، والدنيا أخر انسجام. أفراد جيش "بدر الجمالي" الأرمني كانوا منتشرين في كل مكان حوالين القصر، مسلحين وايديهم على مقابض سيوفهم. وفجأة بص "بدر الجمالي" لقائد جنوده بصة هو عارفها كويس، وفي الحال هجم عساكر جيش "بدر الجمالي" عليهم، واستغلوا لحظة تخمتهم من الاكل، ونزلوا عليهم بالسيوف، بمقاومة كانت شبه معدومة بسبب عامل المفاجأة.
بعد ما خلص على القادة الفاسدين، بدأ "بدر الجمالي" يطهر الدولة من كل العناصر اللي ليها صلة بيهم. قبض على أتباعهم، وأمّن المراكز الحساسة في الدولة برجاله الموثوق فيهم.
ها ياتري المشهد ده فكرك بإيه. في القاهرة بعد الحادث ده ب 737 سنة وفي نفس المكان القاهرة، اتكررت نفس الفكرة في قلعة الجبل على ايد "محمد علي" باشا ومذبحة المماليك، وكانت تقريبا لنفس الأسباب.
"بدر الجمالي" استعاد السيطرة على الدولة، وحط حد للفتنة اللي كانت بتمزق مصر. القرار الجريء ده خلاه يكسب ثقة الخليفة "المستنصر بالله"، وبدأ إصلاحاته اللي أنقذت مصر من الانهيار.
القضاء على رؤوس الفتنة كان درس للجميع، الدولة مش لعبة، وإن "بدر الجمالي" مش قائد ممكن حد يستخف بيه، ده مخيف ومرعب. من اللحظة دي "بدر الجمالي" أصبح الحاكم الفعلي لمصر، وكانت كل خطوة بياخدها محسوبة بدقة عشان يضمن استقرار البلاد.
(يتبع)
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ج5 - ابن تغري بردي.
اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الخلفا ج2 - المقريزي.
سير أعلام النبلاء الطبقة 25 - شمس الدين الذهبي.
المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ج2 - المقريزي.
تاريخ مصر في العصور الوسطي - ستانلي لين بول.
الدولة الفاطمية في مصر تفسير جديد - د/ أيمن فؤاد سيد.
السجلات المستنصرية - د/عبد المنعم ماجد.
الوزارة والوزراء في العصر الفاطمي - د/ محمد حمدي المناوري.
حياة العامة في مصر في العصر الفاطمي - د/ نجوى كيرة.
تاريخ الدولة الفاطمية - حسن ابراهيم حسن.
الفاطميون في مصر - محمد كامل حسين.
الجزء الاول
https://www.facebook.com/share/p/1EFFerD421/
الجزء الثاني
https://www.facebook.com/share/p/18jUMy2uw9/
الجزء الثالث
https://www.facebook.com/share/p/19GEkNWqbp
الجزء الرابع
https://www.facebook.com/share/p/1AENGC8NXH/
الجزء الخامس
https://www.facebook.com/share/p/1BA8p11mjR/
تعليقات
إرسال تعليق