بدر الجمالي 5

 (5) القاهرة اللي كانت دايما منورة زي الجوهرة كعاصمة للدولة الفاطمية، بقت مدينة مظلمة مليانة جوع وخوف. الشدة المستنصرية  - ما بين سنتي 459 و462 هـ / 1066 و1069 م - اللي عجنت الناس، خلت الشوارع شبه خالية، والأمل ضايع بين الصراعات اللي ما بتخلصش. وسط كل ده، ظهر "ناصر الدولة حسين بن حمدان"، اللي كان عامل زي العاصفة، بياخد كل حاجة في طريقه. اتحالف، خان، وحاول يغيّر شكل الخلافة الفاطمية للأبد.  

"ناصر الدولة حسين بن حمدان" كان من نسل السلالة الحمدانية - كانت إمارة شيعية في الموصل وبعدين امتدت لحلب وجنوب الاناضول - وبعد سقوط الدولة الحمدانية اشتغل مع الفاطميين، وأصبح قائد عسكري في الدولة الفاطمية، وبعدها أتولى إمارة دمشق في الفترة 1041-1048 ميلادية. وفي الحرب الأهلية اللي حصلت في مصر بين الأتراك والعبيد السودانيين اليهود اللي جندتهم أم "المستنصر بالله" الست "رصد" - راجع الجزء التالت - أستغل الفرصة وأخد اللقطة ولعب دور قيادي بين القوات التركية والسودانية الفاطميين كقائد للقوات التركية.

بعد ما الاتراك خلصوا على السودانيين - راجع الجزء الرابع - زاد نفوذ "ابن حمدان" أكتر وأكتر، لحد ما استولى علي السلطة لوحده تماما. حلفاؤه بقوا يخاطبوه بلقب "مولانا الناصر". لكن اتراك كتير ما عجبهمش الوضع ده. حسوا إنه بقى أكبر منهم، فقرروا يتخلصوا منه. هنا ظهر  "خطير الملك محمد بن الحسن اليازوري" وزير "المستنصر بالله" في الصورة، واتفق مع الأتراك الناقمين على "ابن حمدان"، وقاموا بثورة ضده بقيادة القائد التركي "إلدكز"، وخرجوا "ابن حمدان" من القاهرة. يا جدعان أنتوا بتعملوا ايه الناس بتموت وبياكلوا بعض من الجوع هي ناقصة. ماهي دي فرصة ياغشيم ولازم نستغلها الأرض الخربة أسهل في التملك والناس مشغولة في همومها ومشاكلها، وأهو يخفوا عدد ومهما تخرب هنعرف ندورها تاني مش شغلانة ماهو مفتاحها برده معانا، المهم دلوقتي نقضي علي بعض عشان الأقوي يوصل .

فيه حد سأل سؤال حلو نسمعه كده. "ابن حمدان" كان حاكم دمشق ولما قامت الحرب الاهلية في مصر، فط ونط من مكانه وجري ياخد حتة من التورتة وحارب عشان ياخد التورتة كلها، طب ما "بدر الجمالي" كان حاكم عكا معملش زيه ليه مع أن فعليا في الوقت ده كان "الجمالي" أمارته أقوى واحصن من "ابن حمدان"؟؟!

هنا بقى يظهر فرق العقلية، وفرق الرؤية والبصيرة، عكا في إيد "بدر الجمالي" كانت حصن منيع، بيجهز فيها جيشه من أبناء جنسه الأرمن، وبيقوي صفوفه، وفي نفس الوقت، كان مخلص للخلافة الفاطمية رغم الفوضى اللي حوالين مصر. ومع كده، "الجمالي" كان شاطر في لعبته، بيدير شؤون عكا بحكمة واستقلالية، عارف إن المكان ده هو مفتاح لأي حاجة كبيرة جاية، مكانته وقوته الذاتية المتزايدة ونفوذه المستقل بعكا وهيمنته على المنطقة هم جواز مروره. الكل طامع لكن الشاطر هو اللي بيعرف يظبط الطبخة ويتقل على الرز.

"بدر الجمالي" في عكا هو كمان مكنش نايم على ريش نعام، ده كان كل يوم في حروب وصراعات مع السلاجقة اللي قدروا يسيطروا على كل الشام ماعدا عكا اللي فضلت شوكة في الزور، ومش بس كده ده كان كمان بيخرج برا حدود عكا وياخد منهم أراضي أخدوها السلاجقة، يعني "بدر الجمالي" كان في نظر "المستنصر بالله" مش بس حاكم قوي لا وكما فدائي مخلص وحامي حما الدولة الفاطمية في الشام. "بدر الجمالي" كان زي الصقر اللي بيراقب مصر من بعيد، مستني الفرصة اللي هيخطف بيها التورتة كلها، من غير خناق ولا صراع، هو مستنيهم يخلصوا علي بعضهم، وكان عارف ومتأكد أنهم هيخلصوا على بعضهم، ومش هيفضل غيره.

"ابن حمدان" خرج مطرود من القاهرة جري تحالف مع القائد التركي "تاج الملوك شادي"، ونجحوا مع بعض إنهم يخلصوا على وزير "المستنصر بالله" الوزير"خطير الملك"، وقتلوه في شارع بين القصرين - شارع المعز حاليا - وسط القاهرة. الدنيا كانت بتولع أكتر، لكن "إلدكز" ومعاه مؤيدي الخليفة "المستنصر بالله" مسكتوش، وقدروا يهزموا "ابن حمدان" و "تاج الملوك"، وهرب "ابن حمدان" تاني من القاهرة.

"ابن حمدان" فضل هربان لحد ما وصل إقليم البحيرة، ونزل عند قبيلة بني سنبس، اللي استقبلوه وخبوه عندهم. "ابن حمدان" لما حس بقوتهم وأحتوائهم ليه قال  يصاهرهم ويبقوا قوة في ضهره. وفعلا تزوج من قبيلة بني سنبس وبدأ يخطط ضد "المستنصر بالله". أخطر خطوة عملها كانت إنه حاول يلغي خطبة الجمعة باسم الخليفة الفاطمي "المستنصر بالله"، وبدأ يمهد الطريق لتغيير الدولة الفاطمية بالكامل.

في سنة 462 هـ / 1069 م، الدنيا في مصر والشام كانت مقلوبة رأسا على عقب، وكل طرف بيدور على مصلحته. "ناصر الدولة حسين بن حمدان"، الذئب اللي بياكل في الدولة الفاطمية من أطرافها، قرر ياخد خطوته الكبيرة ويضرب "المستنصر بالله" تحت الحزام. بعت الفقيه "أبو جعفر محمد بن أحمد النجاري" قاضي حلب، برسالة للسلطان "ألب أرسلان السلجوقي"، وطلب منه إنه يدخل المعركة، وياخد فرصته في وسط الأزمة ويخلص على الدولة الفاطمية، ويقيم الدعوة العباسية بدلها في مصر والشام. مش محتاجة أفكركم أن الدولة السلجوقية كانت دولة سنية وكانت العدو الأكبر للدولة الفاطمية في البلاد الاسلامية.

السلطان السلجوفي "ألب أرسلان" كان مشهور بدهائه وسرعة استجابته، ما صدق لقى الفرصة. وافق على طلب "النجاري" واللي كان في الأص "ابن حمدان" اللي وازه. بعت السلطان "ألب أرسلان" أوامره ل"محمد بن نصر بن صالح بن مرداس" في حلب، وقاله يسيطر عليها ويقطع الخطبة ل"المستنصر بالله". وفي شوال سنة 462 هـ / 1069 م، توقفت الخطبة ل"المستنصر بالله" من حلب، وبدلها بدأت الدعوة للخليفة العباسي "القائم بأمر الله" وللسلطان السلجوقي "ألب أرسلان". الخطوة دي كانت زي الطلقة اللي أصابت الفاطميين في الشام، لأن ده معناها بداية النهاية لهم هناك.

"ألب أرسلان" جهز جيش كبير في ربيع الآخر سنة 463 هـ / 1069 م، وطلع بيه ناحية مصر. خطته كانت اقتحام القاهرة وتدمير الدولة الفاطمية. لكن الحظ كان له رأي تاني. إمبراطور بيزنطة وقتها شاف الوضع برده فرصة - والفرصة بنت جميلة راكبة عجلة ببدال على رأي محمد منير - وهاجم ممتلكات "ألب أرسلان" اللي سايبها وراه، فاضطر يرجع بسرعة علشان يواجهه، لكنه ساب جزء من جيشه في الشام. ومع الخطوة دي خلت الشام تخرج من إيد الفاطميين بالكامل - ماعدا عكا - واتحولت لمسرح لعب العباسيين والسلاجقة.

"بدر الجمالي" كان راجل محنك وقلبه مليان جرأة وشجاعة ودهاء، مسيطر على عكا، اللي كانت وقتها زي الجوهرة المكنونة في الشام. "بدر الجمالي" قعد في عكا مش بس عشان يحافظ عليها، لا، ده كان عاملها قاعدة قوية ليه ولجيشه الأرمني. وكان عارف يلعبها صح، ما حدش يقدر يقرب منه، لا من السلاجقة اللي بيحلموا يسيطروا على كل حاجة، ولا من العباسيين اللي عايزين يشدوا البساط من تحت الفاطميين.

رغم إنه في الوقت ده كان بعيد عن مصر، "الجمالي" ما كانش بعيد عن المشهد. كان متابع الأحداث بعينه الحادة، شايف إن مصر بتنهار يوم عن يوم بسبب الفتن والمجاعة والصراعات. بس هو بحنكته، كان مستني اللحظة المناسبة، اللحظة اللي يثبت فيها إنه مش قائد عادي.

وفي مصر، كان "المستنصر بالله" بيحاول يعمل أي حاجة، لكن كل محاولاته راحت على الفاضي. جيشه انهزم مرتين ورا بعض قدام "ناصر الدولة بن حمدان"، وده خلاه يتمادى أكتر. "ابن حمدان" من خلال نسايبه قبيلة بني سبنس منع الميرة (الإمدادات الغذائية) عن القاهرة، يلا بقى ماهي الناس كده كده بتموت مش فارقة، وسيطر على معظم الوجه البحري. وألغى الخطبة ل"المستنصر بالله" من مدن زي الإسكندرية ودمياط، وبدأ يدعوا للخليفة العباسي "القائم بأمر الله" هناك كمان. الموقف ده كان زي الكابوس للقاهرة، اللي كانت أصلا بتموت من الجوع والخراب.

الأوضاع اتدهورت أكتر لدرجة ما حدش يتخيلها. القاهرة بقت شبه مدينة أشباح. الأكل اختفى، والناس بتموت في الشوارع من الجوع. الأتراك اللي كانوا الحاكم الفعلي وقتها مقدروش يتحملوا الوضع أكتر، واضطروا يتفاوضوا مع "ابن حمدان". وبعد مفاوضات طويلة، اتفقوا إنه يفضل في البحيرة وياخد مال مقرر منهم، وفي المقابل يبعت الغلال للقاهرة. ولما وصلت أول شحنة غلال، الناس حسوا إنهم بيحلموا، الفرج أخيرا جه، حتى الدعوات للخليفة بقت تخرج من كل بيت، بس غالبا والناس فرحانة وبتضحك وبتزغرد للأكل اللي وصلهم نسيوا يقولوا خير اللهم أجعله خير، عشان فرحتهم لن تكتمل.  كل ده كان مسكن مؤقت، من الواضح إن النار اللي تحت الرماد لسه مشتعلة، وإن اللي جاي ممكن يكون أسوأ من اللي فات.

ما استمرش الاتفاق اللي حصل بين الأتراك و"ابن حمدان" أكتر من كام شهر، واتقلبت الموازين تاني. "ابن حمدان" طموحه مكنش مجرد فلوس ياخدها ده عاوز السلطة كاملة. حاول "ابن حمدان" أكتر من مرة يدخل القاهرة ويفشل، لحد ما نجح سنة 464 هـ / 1071 م، لما كانت الدنيا في القاهرة وصلت لأقصى درجات الخراب، والشدة عجنت الناس عجن.

لما دخل القاهرة، بعت لحد يجيب الفلوس من الخليفة "المستنصر بالله". لما الرسول دخل على "المستنصر"، لقاه قاعد على حصيرة في الأرض، وما بقالوش لا عرش ولا مظاهر ملك، حتى باب القصر مخلوع. "المستنصر" كان حاله يصعب على الكافر، ده صعب على "ابن حمدان" نفسه لما عرف، مفيش بؤس أكتر من كده، وقرر "ابن حمدان" ياخد ثواب فيه ويدي ل"المستنصر بالله" راتب شهري مية دينار ياكل بيها بدل الرغيفين الحاف اللي بياكلهم في اليوم.، وكأنه بيحاول يبين إنه مش ناوي يشيله من الصورة خالص، وأهو يبقى كارت يلاعب بيه العباسيين والسلاجقة لما يجد في الأمور أمور، شغل سياسة أراري.

في نفس الوقت "ابن حمدان"، اللي كان زي النار اللي بتاكل في كل حاجة حواليها، بدأ يحاول يقيم الدعوة العباسية في مصر، يعني يخليها دولة تابعة للعباسيين بدل الفاطميين. بس المحاولة دي كانت محفوفة بالمخاطر، كتير من الأتباع والمخلصين ل"المستنصر بالله" من الأتراك والمغاربة الشيعة كانوا موجودين ولسه عندهم نفوذ، يعني الفاطميين مكنوش ماتوا كان لسه فيهم الروح. كان فيه كبار أمراء الأتراك زي "إلدكز" و"بلدكوش" اللي ليهم عزوة وجيش، كانوا شايفين "ابن حمدان" بيهدد مكانتهم.

"إلدكز" و"بلدكوش" مقعدوش ساكتين. جمعوا كل الأتراك وخوفوهم من اللي ممكن يحصل لو "ابن حمدان" استمر في طريقه أكيد هيكبر أكتر ويقضي عليهم، واتفقوا على أنهم لازم يتغدوا بيه قبل ما يتعشى بيهم. وفي شهر رجب سنة 465 هـ / 1073 م، قتلوه في منازل العز في الفسطاط. كانت نهايته مأساوية زي كل اللي اتورطوا في الصراع ده، وزي ما كان "بدر الجمالي" متوقع ومستنيه يحصل.

تفتكر حال "المستنصر بالله" بعد ما خلصوا من "ابن حمدان". بالعكس، اللي جه بعد "ابن حمدان" كان يمكن أسوأ. "بلدكوش" اللي مسك زمام الأمور، عمل حاجة غريبة جدا. أمر بسد منافذ القاهرة بالكامل، وحاصرالخليفة في مدينته.  الوضع ده ماكانش بس خراب للبلد، لكنه كمان كان انهيار لهيبة الدولة الفاطمية، و"المستنصر بالله" خلاص بيغرق، وهو بيلفظ أنفاسه الأخيرة رفع ايده ومدها يستنجد ب"بدر الجمالي".

(يتبع)

مروة طلعت 

10/1/2025
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
#بدر_الجمالي
#الشدة_المستنصرية
#الدولة_الفاطمية
المصادر:

النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ج5 - ابن تغري بردي.

اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الخلفا ج2 - المقريزي.
سير أعلام النبلاء الطبقة 25 - شمس الدين الذهبي.
المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ج2 - المقريزي.
تاريخ مصر في العصور الوسطي - ستانلي لين بول.
الدولة الفاطمية في مصر تفسير جديد - د/ أيمن فؤاد سيد.
السجلات المستنصرية - د/عبد المنعم ماجد.
الوزارة والوزراء في العصر الفاطمي - د/ محمد حمدي المناوري.
حياة العامة في مصر في العصر الفاطمي - د/ نجوى كيرة.
تاريخ الدولة الفاطمية - حسن ابراهيم حسن.
الفاطميون في مصر - محمد كامل حسين.
الجزء الاول
https://www.facebook.com/share/p/1EFFerD421/
الجزء الثاني
https://www.facebook.com/share/p/18jUMy2uw9/
الجزء الثالث
https://www.facebook.com/share/p/19GE
kNWqbp

الجزء الرابع 

https://www.facebook.com/share/p/1AENGC8NXH/


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الليث بن سعد 5

الليث بن سعد

الليث بن سعد 6