بدر الجمالي 4

 (4) في الوقت اللي كانت مصر بتغرق في فتنة الأتراك والسودان، والخليفة "المستنصر بالله" محاصر بين أطماع قواد الجيش وصراعات أمه الست "رصد" وتحكمها، كان "بدر الجمالي" هناك في الشام بيكتب حكاية تانية لنفسه. الراجل ده ما كانش قائد عادي، كان عارف إن الفوضى بتخلق فرص، وإنه لو لعبها صح ممكن يبقى اسم يُحسب له ألف حساب. وعشان كده هو مسبش الفرصة تفلت من ايده واستغلها صح.

في الفترة دي، "بدر الجمالي" كان لسه في عز صعوده، بيبني سمعته كقائد شاطر ومحنك في الشام. مشاكله هناك ما كانتش سهلة، لأن الشام وقتها كان ساحة مفتوحة للصراعات، سواء بين القوى المحلية أو بين الطامعين الخارجيين اللي شايفينها لقمة سهلة في وسط فوضى القاهرة عاصمة الخلافة الفاطمية. لكن "بدر الجمالي" كان بيلعبها بحذر، بيوازن بين تحالفاته وبين قوته الشخصية، وبيعرف يدي كل طرف على قد طموحه من غير ما يخسر نفسه.

أما في مصر، الدنيا كانت بتشتعل على الآخر. الأتراك مسكوا السلطة بالقوة، وأم المستنصر "الست رصد"، كانت بتحاول ترد النفوذ للسودان بعد هزيمتهم، فاشترت منهم كتير وسلحتهم وعملت منهم جيش خاص بيها - راجع الجزء التالت - الأتراك ما سكتوش، وردوا عليهم في معارك شوارع انتهت بمذبحة كوم شريك، واللي المصريين العزل أتاخدوا فيها في الرجلين ودمهم ملا الشوارع،  وبعدها الأتراك فضلوا يطاردوا السودان في الصعيد، وفي الصعيد حصلت اضطرابات كتيرة منها إن السودان كانت إيديهم سايبة في الصعيد ما بين نهب وتحكم في الناس، وفرسان تانية من الأعراب متمردين على الحكم الفاطمي، بينهبوا في الوجه البحري ويكسروا الجسور والقنوات واتسببوا في قطع المئونة عن القاهرة والفسطاط، ووسط ده كله فضل الأتراك وراهم بالمذابح ليهم وللأعراب وللعامة، يعني الوضع مينفعش نطلق عليه غير سنين الهول، لحد ما فرقوا السودان اللي كانوا تابعين ل"الست رصد" أم المستنصر.

الوضع ما كانش مجرد أزمة عابرة، دي كانت فوضى مستمرة ومذابح وكوارث ورا بعضها خلت الخزانة تفلس، والناس في القاهرة ما تلاقيش تاكل، وحتى الخليفة "المستنصر بالله" نفسه بقى عايش على رغيفين في اليوم. الأتراك وصلوا لمرحلة نهبوا فيها قصر الخلافة نفسه، وأخدوا الكنوز والتحف وباعوها بأبخس الأسعار عشان يصرفوا على نفسهم.

الفساد السياسي والديني والاجتماعي والنهب والسلب والقهر والإهانة لمقدسات المصريين السنية من حكامهم الشيعة، اللي كان هدفهم دخول الناس في المذهب الشيعي بالتحايل مرة والعنف مرات، كان بيقابلها سكوت واستسلام من المصريين وكل واحد عايش بيقول وأنا مالي ويلا يا نفسي. 

كان من عادة الحكام قبل «المستنصر بالله»، كل سنة يخصصوا جزء من بيت المال لشراء الغلال والمحاصيل سهلة التخزين ويخزنوها في صوامع مخصوصة ؛ عشان لو حصل انخفاض للنيل أو ارتفاع للأسعار يقدر الحاكم يتصرف ويعوض النقص ده من صوامع الدولة فميحصلش مجاعة، وفي آخر السنة قبل ميعاد التخزين السنوي الجديد لو اتبقى حاجة أو فضلت الغلال زي ما هي وكان عام رخاء مثلا بيتصرف الخليفة فيهم على هيئة صدقات، ويشتري جديد السنة وهكذا.

لحد ما شرف «المستنصر بالله» وأخد الحكم بعد ما كبر كده وبقى راشد من أمه الست «رصد»، جم وزرائه نصحوه نصيحة بنت حلال أوي، إنه ميخزنش الغلال ويوفر تمنها، وصوروله إن الشعب مبسوط والحياة حلوة وبيزرعوا والخير كتير والدنيا رخاء والناس مبسوطة، وبما إن الخليفة كان بيحب البذخ وفي رقبته عسكر بيصرف عليهم من دم الناس اللي زي العبيد بيحركهم يمين وشمال من غير ما حد يجرأ يقوله بتعمل إيه، فقرر يلغي بند تخزين الغلال.

في الوقت اللي الصراعات كانت مولعة في مصر، الاتراك طلعوا الكسبانين من كل ده، وبدأ نفوذهم يكبر يوم عن يوم، لحد ما بقى الحكم في الحقيقة في إيديهم مش في إيد الخليفة "المستنصر بالله". قوادهم سيطروا على كل حاجة، وعلى رأسهم قائدهم القوي "ناصر الدولة سلطان الجيوش الحسين بن الحسن بن حمدان". الراجل ده كان عامل زي الملك اللي ملوش تاج، ومن شدة قوة شوكته بقى بيتعامل مع الخليفة "المستنصر بالله" وكأنه ملوش قيمة.

"ناصر الدولة بن حمدان" كان عايز يزود مرتبات الأتراك لحد ما طلب إنها توصل لـ 400 ألف دينار في الشهر، بعد ما كانت بس 28 ألف دينار. طبعا الخزانة كانت فاضية ومش قادرة توفي بالمبلغ ده، فما كان من الأتراك إلا إنهم قلبوا الدنيا. هجموا على القاهرة ونهبوها، وأخدوا كل اللي في قصر "المستنصر بالله" والتربة المعزية - تربة الزعفران اللي مكانها خان الخليلي حاليا حكينا حكايتها قبل كده - حتى الكنوز والتحف والكتب القيمة ما سلمتش منهم.

الأتراك باعوا كل حاجة بأبخس الأسعار، لدرجة إن الخليفة نفسه ما كانش عنده حاجة يعيش بيها. الوضع وصل إمام النحاه في العصر الفاطمي والتاجر "أبو الحسن طاهر بن أحمد بن باشاذ النحوي"، كان بيوصل له كل يوم رغيفين عيش بس، زي ما القصة المشهورة بتقول.

قال الله تعالى: «فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ» صدق الله العظيم

وفي سنة 1065م، وقعت الفاس في الراس، وانخفض منسوب النيل بشكل مفزع استمرت سنين متصلة عجاف زي سنين "سيدنا يوسف" مع الإختلاف إن مكنش فيه "سيدنا يوسف"، مكنش فيه صوامع فيها غلال، مكنش فيه حاكم قوي، مكنش فيه مستشارين حكماء، مكنش فيه رحمة، مكنش فيه أمان، كان فيه جوع وخوف وانعدام للرزق وتوحش، كان فيه أقوى شدة واجهت مصر في تاريخها كله واتعرفت باسم "الشدة المستنصرية»" على اسم الحاكم اللي اتسبب فيها "المستنصر بالله" وخصوا أمه "الست رصد".

قال الله تعالى: « الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ» صدق الله العظيم، في الآية الكريمة ربط رب العزة ما بين الجوع والخوف، وسبق الطعام على الأمان؛ وده له دلالة خطيرة فالجوع قادر يحول الإنسان إلى وحش بتحركه غريزة البقاء، وهو ده اللي حصل في مصر من سنة 1065م إلى 1073م،  سنين عجاف في زمن "المستنصر بالله الفاطمي" بلا رحمة أو استعداد أو تدبير.

المشكلة في وقت الشدة دي بالذات مكنتش بسبب النيل بنسبة كبيرة، السبب كان في الحاكم وحاشيته والأمراء عسكره، هفهمك...النيل مجفش جفاف كلي ده انخفض، صحيح بنسبة كبيرة لكن موصلش لمرحلة الجفاف التام، وده معناه إن لو كان فيه تخطيط جيد ودولة قوية فارضة الأمن والأمان، وفيه قوانين منظمة كان ممكن تعدي الشدة دي بأقل الخساير، لكن اللي حصل كان عكس ده، لما شحت المحاصيل وحس الناس بالمجاعة انتشرت أعمال السرقة والنهب وعمت الفوضى، واشتدت المجاعة لدرجة الناس ملقتش حاجة ياكلوها فأكلوا الميتة والبغال والحمير، ورغيف الخبز الواحد بقى بخمسين دينار.

أكل الناس الكلاب والقطط، وكان ثمن الكلب الواحد خمسة دنانير والقط ثلاثة، وصل الحال من الضعف بالناس من قلة الجوع إن الكلب ممكن يدخل البيت ياكل الطفل الصغير وأبوه وأمه ميقدروش يقوموا من شدة ضعفهم وهزالهم يدافعوا عن ابنهم، واتطور الأمر لحد ما كان الرجل ياخد ابن جاره ويذبحه ويأكله، وبقت الناس تمشي في الطرقات القوي فيهم يصطاد الضعيف يدبحه وياكله.

 فيه جماعة من الناس كانوا بيقعدوا على سطح البيوت في إيديهم خطاطيف وكلاليب يصطادوا بيها المارة بالشوارع من فوق الأسطح، فلما يصطادوه ويرفعوه زي الدبيحة في الشارع عندهم يدبحوه في الحال وياكلوه حتى بعظامه.

وفيه حادثة شهيرة لوزير البلاد اللي مكنش يمتلك غير بغل واحد يركبه، فساب البغل لغلام عنده يحرسه، إلا إن الغلام كان ضعيف من شدة جوعه، مكنش يقدر يواجه اللصوص اللي سرقوا البغل وكلوه، ولما عرف الوزير بسرقة بغله غضب غضبا شديدًا، وتمكن من القبض على اللصوص، وقام بشنقهم على شجرة، ولما طلع الصبح ولقي عظام اللصوص فقط، الناس من شدة جوعهم كلوهم.

فيه واحدة ست خرجت ومعها عقد لؤلؤ، وقعدت تصيح في الشوارع، وتقول: «من يأخذ مني هذا الجوهر ويعطيني عوضه قمحًا؟» ولما ملقتش حد رد عليها، فقالت: «إذا لم تنفعني وقت الضائقة فلا حاجة لي بك»، ورمت العقد على الأرض ومشيت، والعجيب إن اللؤلؤ فضل مرمي على الأرض ثلاثة أيام ومفيش حد جه جنبه ولا أخده؛ لأنه وقت أصبح فيه الدهب والجواهر بلا ثمن، الناس بتدور على الخبز وما يسد جوعها.

وواحدة ست تانية غنية من ستات القاهرة، اتوجعت من بكاء أطفالها الصغار وهم بيصرخوا من الجوع، لجأت إلى شكمجية مجوهراتها وقعدت تقلب اللي فيها من مجوهرات ومصوغات، وتتحسر؛ لأنها عندها ثروة طائلة ومش عارفة تشتري رغيف واحد، اختارت عقد غالي من اللؤلؤ يزيد قيمته على ألف دينار، وخرجت بيه تلف أسواق القاهرة والفسطاط، عشان تبيعه لكن ملقتش اللي يشتريه، وأخيرًا قدرت تقنع تاجر يشتريه مقابل كيس من الدقيق، فرحت بغنيمتها واستأجرت بعض الحمالين ينقلوا الكيس إلى بيتها، لكن لما الناس عرفت إن معاها كيس دقيق، هجم عليها جحافل الجياع، وشدوا منها الدقيق، لما شافت المنظرمكنش ليها حل غير إنها تزاحمهم، لحد ما قدرت تاخد لنفسها حفنة من الدقيق، وروحت لبيتها حزينة للي وصل ليه الناس، وخرجت حزنها في عجن حفنة الدقيق وعملت منها أقراص صغيرة وخبزتها وأخفتها جوا هدومها، ونزلت بيهم للشارع وهي بتصيح: «الجوع الجوع...الخبز الخبز»، التفت حواليها الرجال والنساء والأطفال ومشيوا وراها إلى قصر الخليفة "المستنصر بالله"، ووقفت على مصطبة وخرجت قرص من هدومها ولوحت به وهي تصيح: «أيها الناس، فلتعلموا أنَّ هذه القرصة كلفتني ألف دينار، فادعوا معي لمولاي المستنصر الذي أسعد الله الناس بأيامه، وأعاد عليهم بركات حسن نظره، حتى تقومت على هذه القرصة بألف دينار». 

ومرة اتقبض على رجل بيقتل النساء والأطفال، بما إنهم الطرف الأشد ضعفًا وأسهل في الصيد، ويبيع لحومهم ويدفن رؤوسهم وأطرافهم، ومن بعدها اتعدم، واشتد الغلاء والوباء، لدرجة إن أهل البيت الواحد كانوا بيموتوا في ليلة واحدة مع بعض من شدة الجوع، وكان بيموت كل يوم على الأقل ألف شخص، وارتفع العدد لِـ 10 آلاف، ووصل العدد ل 18 ألف.

حاول الخليفة "المستنصر بالله" يعمل أي حاجة ممكن تساعد الناس في الشدة دي، فأخرج كل ما في الخزائن فباعها، ويقال إنه باع 80 ألف قطعة من أنواع الجواهر الغالية و75 ألف قطعة من الديباج المذهب و20 ألف سيف و11 ألف بيت، وافتقر الخليفة «المستنصر بالله» حتى مبقاش له إلا سجادة تحته وقبقاب في رجله.

وكان "المستنصر بالله" في الشدة بيركب وحده، وكل اللي معاه من خدمه وحاشيته ماشيين على رجليهم معندهمش حاجة يركبوها، ومن شدة الجوع والهزال يقعوا من طولهم في الطريق مش قادرين يمشوا، ولما الحال بلغ من السواد مبلغه، سافرت أم المستنصر بالله "الست رصد" بعد ما قومت الحرب الأهلية بين فصائل الجند والأمراء وخربتها معاها بنات "المستنصر بالله" لبغداد هربانين من شدة الجوع، وتفرق أهل مصر في البلاد هربانيين وتشتتوا، مات في الشدة تلت أهل مصر، وفيه قال مات مليون و600 ألف شخص، وحاول العسكر في محاولة أخيرة، النزول لزراعة الأرض بعد ما مات الفلاحين وهرب الباقي، كانت شدة قاسية ومفزعة، سنين عجاف حولت البشر لوحوش، وحولت البلد لغابة ياكل فيها القوي الضعيف.

لما بفكر في حال الناس في الشدة المستنصرية، افتكر قول الله تعالى: «يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه» صدق الله العظيم، فالشدة كانت على مصر عاملة زي يوم القيامة الكل بقى يدور على نفسه وممكن ياكل ابنه أو أخوه؛ عشان يعيش، كشفت الشدة أقبح ما في النفس البشرية، أظهرت التوحش بأقسي معانيه، تقدر تتخيل ازاي جدك في الوقت ده كان عايش؟ يا ترى كان من آكلي لحوم القطط والكلاب والفئران؟ ولا أكل الجيفة وجثث أعزائه؟ ولا كان من صيادين البشر وآكليهم؟ ولا كان هو ضحية الجوع وهلك مع الهالكين؟ ولا كان هو نفسه الضحية لغيره وكان غذاء؟ 

وصل الحال بالبلد إلى الخراب التام وكانت القطائع والفسطاط عبارة عن مدينة أشباح مفيهاش حد، لدرجة أن الوزير أمر يبنوا حيطان علشان يخبّوا الخراب اللي بقى منتشر في كل مكان عن عيون الخليفة "المستنصر بالله" وهو ماشي في القاهرة. واحد من الحيطان دي كان بين العسكر والقطائع والطريق للقاهرة، والتاني حوالين جامع أحمد بن طولون. وكأنهم بيحاولوا يدفنوا الخراب تحت الطوب، لكن الناس كانت عايشة جوه الخراب ده كل يوم.وطبعا مع حالة الموات دي فرطت خلافة "المستنصر" من إيده ومعظم البلاد اللي كانت تحت حكمه من دول الشام راحت.

(يتبع)

مروة طلعت 
9/1/2025
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
#بدر_الجمالي
#الشدة_المستنصرية
#الدولة_الفاطمية
المصادر:
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ج5 - ابن تغري بردي.
اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الخلفا ج2 - المقريزي.
سير أعلام النبلاء الطبقة 25 - شمس الدين الذهبي.
المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ج2 - المقريزي.
تاريخ مصر في العصور الوسطي - ستانلي لين بول.
الدولة الفاطمية في مصر تفسير جديد - د/ أيمن فؤاد سيد.
السجلات المستنصرية - د/عبد المنعم ماجد.
الوزارة والوزراء في العصر الفاطمي - د/ محمد حمدي المناوري.
حياة العامة في مصر في العصر الفاطمي - د/ نجوى كيرة.
تاريخ الدولة الفاطمية - حسن ابراهيم حسن.
الفاطميون في مصر - محمد كامل حسين.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الليث بن سعد 5

الليث بن سعد

الليث بن سعد 6