بدر الجمالي 3
في البداية، الدولة الفاطمية كانت في أوج قوتها. في أول 20 سنة من حكمه، الامبراطورية وصلت لحدودها القصوى. مصر كانت القلب، ومعاها جنوب الشام، وشمال إفريقيا، وصقلية، وحتى مناطق على البحر الأحمر زي الحجاز واليمن. وكمان كسبت ولاء ناس كتير في بلاد لسه بتتبع حكام السُنة زي العراق ومناطق تانية من الشام.
لكن الدنيا ما فضلتش كده. بعد القوة دي، بدأ الانحدار. الصدام الحقيقي بين الفاطميين والخلافة العباسية بدأ يهز الدولة الفاطمية، والقاهرة اللي كانت عاصمة بتحكم العالم الإسلامي - المؤرخين وصفوا الفترة دي بعصر الشيعة لأنهم كانوا حاكمين الغالبية العظمى من العالم الاسلامي - بدأت تفقد مكانتها. وده كله حصل ولسه ما عداش 100 سنة على تأسيسها.
حكم "المستنصر بالله" كان علامة فاصلة في تاريخ الفاطميين، لأنه كان نهاية الفترة الكلاسيكية للدولة، بمعنى الحكم المركزي للخليفة. من قوة بتسيطر على نص العالم الإسلامي، لتحول تدريجي لانحدار أفقدهم معظم ممتلكاتهم. رحلة طويلة ما بين القمة والقاع، مليانة أحداث وشخصيات ودروس.
في عصر الخليفة "المستنصر بالله"، مصر حالها مكنش أهدى من البلاد اللي حوالين حدودها. الدنيا في البلد كانت زي بركان على وشك الانفجار. القاهرة، العاصمة الملكية اللي فيها قصر الخلافة، ما بقتش مدينة الأمان والسلام اللي اتبنت عشان تكون مركز العالم الإسلامي. كانت شبه ساحة حرب، وكل شوية طائفة من الجند تشتبك مع التانية. الأتراك من ناحية، والسودان من ناحية، والضرب شغال بينهم على طول.
في الوقت ده، البلد اتعرضت لسنين حالكة السواد. الأوبئة كانت بتلف في القرى والمدن، والناس بتعاني من جوع وأزمات اقتصادية بتخبط على دماغهم واحدة ورا التانية. وده حصل في سنة 444 هجري / 1052 ميلادي، وسنة 447 هجري / 1055 ميلادي، وسنة الشدة 457 هجري / 1065 ميلادي، كانوا سنين علامات في تاريخ الأزمات دي. فوق ده كله، الإدارة كانت في أسوأ حالاتها، والدولة بدأت تفقد سيطرتها ونفوذها.
الغريب إن في أول حكم "المستنصر بالله"، كان الوضع مختلف تماما. الفيلسوف والرحالة الفارسي "ناصر خسرو" لما زار مصر في بداية حكم "المستنصر بالله"، كتب عن الأمن والرخاء اللي شافه. كان بيقول إنه عمره ما شاف بلد بالشكل ده قبل كده. وقال إن السبب في الأمن والنظام ده هو المذهب الإسماعيلي اللي الفاطميين كانوا بيتبعوه واللي هو كمان كان بيتبعه، واعتبره الحل اللي ممكن ينقذ العالم الإسلامي كله. مين يشهد للعروسة.
بس الأمن ده ما استمرش كتير. الدنيا اتقلبت رأسا على عقب. بدل الرخاء، جت المجاعات، وبدل الاستقرار، حصلت الفوضى. وهنا بدأت الحكاية الصعبة للدولة الفاطمية، واللي خلت الناس تفقد ثقتها في قدرة الدولة على إدارة الأمور.
في البداية كان الوزير "أبو القاسم علي بن أحمد الجراجرائي" هو اللي ماسك زمام الأمور في مصر طول التسع سنين الأولانية من خلافة الخليفة "المستنصر بالله". كان ليه دور كبير في السياسة وكان هو الوصي صاحب السلطة الحقيقية في الدولة، وهو صاحب اليد الحديدية اللي كانت ممشية البلد زي الساعة. لكن لما مات الوزير "الجراجرائي" سنة 436 هجرية / 1044ميلادية، بدأت الأمور تتغير، خصوصًا إن الخليفة "المستنصر بالله" كان لسه صغير في السن. وعلشان كده، والدته، اللي كانت تعرف بـ"السيدة رصد"، هي اللي بقت ماسكة في إيدها كل حاجة في الدولة.
الست "رصد" لعبت دور كبير في السياسة، وكان عندها تأثير على كل حاجة، لكنه تأثير سلبي، قعدت عليها خربتها. بدأت تثير الفتن بين طوائف العسكر اللي كانوا في الجيش، لدرجة إنهم حاربوا بعض، وكان ده السبب في خراب البلاد وتدهورها. لكن في نفس الوقت، كان عندهم سياسة تسامح مع اليهود بالذات - الدم بيحن - وكانوا بيحترموهم وبيمنحوهم فرص في الحياة الاجتماعية والاقتصادية كبيرة جدا.
في فترة الخليفة "الحاكم بأمر الله" قبل كده، كان الوضع مختلف. هو شوية غيّر السياسة دي، واتخذ مواقف متشددة مع غير المسلمين. ومع ذلك، بعد ما مات "الحاكم بأمر الله" أو بمعنى أدق بعد ما أختفى، رجع الوضع تاني زي ما كان، ولقينا اليهود بدأوا يرجعوا للمناصب العالية في الدولة تاني، وأصبح لهم دور كبير في إدارة الدولة والحياة الاقتصادية. الفتن والمشاكل اللي بدأت بعد وفاة الوزير "الجراجرائي" كانت سبب من أسباب ضعف الدولة، وده خلى الأمور تمشي في اتجاه سيء لدرجة إن الدولة الفاطمية بدأ يملاها الفساد والتدهور في فترات لاحقة.
كتب "المقريزي" في كتابه "المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار" وقال: (إن أخويين يهوديين نبغا في أيام "الحاكم بأمر الله"، كان أحدهما يتصرف في التجارة والآخر في الصرف وبيع ما يحمله التجار من العراق، وهما "أبو سعد إبراهيم" و "أبو نصر هارون" ابنا سهل التستري، واستخدم الخليفة "الظاهر لإعزاز دين الله"، "أبا سعد إبراهيم بن سهل التستري" في ابتياع ما يحتاج اليه من صنوف الامتعة، وتقدم عنده فباع له جارية سوداء، فتحظى بها "الظاهر" وأولدها ابنه "المستنصر بالله"). يعني الست "رصد" والدة الخليفة "المستنصر بالله" اللي خربت الدنيا وسلمتها للشدة كانت يهودية.
بعد وفاة الوزير "أبو القاسم علي بن أحمد الجراجرائي" سنة 436 هـ / 1044م، بدأت السيدة أم المستنصر تتحكم أكتر في الأمور، وقررت تقرب واحد اسمه "أبو سعد التستري"، اللي كان يهودي زيها، وكان مولاها قبل ما يشتريها الخليفة "الظاهر"، ومسكته ديوانها، يعني بقى هو اللي بيدير كل حاجة تقريبا. كلمته بقت ماشية في الدولة لدرجة إن الوزير "الفلاحي" اللي جه بعد "الجراجرائي" كان مجرد صورة واسم ع الورق، لكن "أبو سعد" كان الكل في الكل بأمر الست "رصد".
"أبو سعد التستري" بدأ يستميل المغاربة في الجيش، وعلشان يضمن ولاءهم زود ليهم الرواتب وامتيازاتهم، وفي نفس الوقت قلل من رواتب وامتيازات الأتراك. ده خلق مشكلة كبيرة، لأن الأتراك كانوا قوة كبيرة في الجيش وماسكين جزء كبير من الدولة. فكانت النتيجة المعارك والقتال بين المغاربة والأتراك أكتر من مرة، والدنيا ولعت بينهم.
"أبو سعد التستري" كمان كان بيقرب اليهود ويديهم مناصب كبيرة ومهمة في الدولة. وده خلق حالة غضب المسلمين جدا، وخلى مشاعرهم تقلب على اليهود، خصوصا لما شافوا اليهود بدأوا يسيطروا على حاجات كتير في دولتهم اللي مفروض أنها إسلامية.
الوزير "الفلاحي" كان يهودي في الأصل لكنه أسلم، كان واقف بيغلي برده من تهميش دوره بالشكل المهين ده، فقرر يدخل اللعبة ويولع في القش، وراح لطائفة الأتراك في الجيش، زود رواتبهم علشان يضمن ولاءهم، وحرضهم على قتل "أبو سعد التستري"، وفعلا الأتراك مسكوه وقتلوه سنة 439 هـ / 1047م.
الغريب بقى إن كل طوائف الجيش بكل جنسياتهم وميولهم كانوا كارهين "أبو سعد التستري" جدا لدرجة إن لما الخليفة المستنصر حاول يدور على اللي قتله، كل طوائف العسكر قالت إنهم هما اللي قتلوه، بفخر كده وكأن قتله شرف كبير. في الآخر الخليفة ما قدرش يعاقب حد على قتل "التستري" واضطر يغض الطرف عن الموضوع عشان دمه خلاص كده اتفرق بين طوائف العسكر.
بعد ما الاتراك قتلوا "أبي سعد التستري"، أم الخليفة "المستنصر بالله" الست "رصد" كانت حقدها زي النار اللي مستعدة تولع في الدنيا كلها. معجبهاش طبعا تصرفات الاتراك ولا حتى طريقة تعامل ابنها معاهم، وكانت شايفة إن الأتراك السبب في كل البلاوي اللي بتحصل في الدولة. ولأنها كانت ورا كل خيوط اللعبة، قررت تتخلص من الوزير "الفلاحي"، اللي كان في وقتها بيميل للاتراك، وفعلا أقنعت إبنها ننوس عين أمه الخليفة "المستنصر بالله" إنه يعزله، وأصدر أمر بقتله سنة 440 هـ / 1048 م.
تهدى بقى وتتبط كده الست "رصد"، فكرت في خطة جديدة تضرب بيها الاتراك، وبدأت تشتري العبيد السود اليهود، لحد ما جمعت حوالي خمسين ألف عبد أسود يهودي، وخلتهم القوة اللي تشتغل تحت إيدها بس. كرهها للاتراك زاد أكتر بعد اللي حصل ل"أبي سعد"، وقررت تضربهم بالسودانيين. لكن ده كان محتاج حد من الوزراء اللي يقبل يتحرك معاها في خطتها. حاولت مع أكتر من وزير، لكن كلهم كانوا بيتهربوا منها، عاقلين خايفين على مصير الدولة.
أخيرا لقت الوزير اللي هيعمل اللي في دماغها، "أبو الفرج البابلي". أقنعته واشتعلت الفتنة بين السودانيين والاتراك. في نفس الوقت ده، الأمور كانت خارجة عن السيطرة أكتر، وعرب البحيرة من بني قرة والطلحيي خرجوا عن طاعة الخليفة "المستنصر بالله". مصر كانت حرفيا بتنهار، ووالنار والعة في كل حتة.
الوزير الجديد، "أبو الفرج المغربي"، حاول يهدي الوضع ويقرب بين السودان والاتراك، لكن موقف أم الخليفة الست "رصد" كان متشدد لدرجة إنه خلى المصالحة مستحيلة. الصراع فضل يشتعل، لحد ما الاتراك، ومعاهم المصامدة والكتاميون، قدروا يوقعوا هزيمة كبيرة بالسودان في معركة كوم شريك. متخيل أنت جيش واحد لدولة كبيرة يقتل في بعضه ويحارب بعضه ده معناها ايه.
لكن حتى بعد الهزيمة دي، أم الخليفة ما استسلمتش. زادت من دعمها للسودانيين، وفضلت تمدهم بالسلاح والفلوس، وده خلى الاتراك يغضبوا أكتر. قرروا يخلصوا الموضوع بشكل نهائي، فلاحقوا السودانيين لحد ما فرقوهم في الصعيد، وبكده انتهى دورهم في الصراع، لكن البلد فضلت تدفع تمن الفتن دي سنين طويلة.
في الشام، الدنيا ما كانتش أهدى من مصر، بس وسط الفوضى كان فيه نجم بيطلع ببطء. "بدر الجمالي"، كان بيكتب حكايته بطريقة محدش شافها جاية. الشام وقتها كان زي بحر هايج، الصراعات فيه بتقلب الموازين كل يوم، وكل طائفة بتحاول تسيطر على الأرض بالقوة. "بدر" كان جندي اتزرع في معركة طويلة، ما يعرفش غير إنه لازم يكسب. من مملوك عادي، بقى قائد جيش، بس مش عشان القوة بس، لا، ده لأنه كان بيعرف يقرأ اللعبة من بعيد. كان زي اللي شايف الشام كرقعة شطرنج، وكل خطوة ليه محسوبة، حتى لو الدنيا حواليه مولعة.
في الوقت اللي كانت فيه مصر غرقانة في الفتن والصراعات بين السودانيين والأتراك، "بدر الجمالي" كان في الشام بيحارب قبائل الأعراب والتركمان اللي كانوا عاملين قلق كبيرة في المنطقة. الشام وقتها كانت مليانة صراعات على السيطرة بين القبائل البدوية زي الأعراب اللي كانوا بيهاجموا المدن والطرق التجارية، وبين التركمان اللي كانوا عبارة عن جماعات مقاتلة بتتحرك زي الجيوش المستقلة وبتحاول تستولي على الأراضي.
"بدر الجمالي" كان شغال قائد عسكري في خدمة الفاطميين، ركز على تطهير المدن من سيطرة القبائل دي وتأمين الطرق التجارية. وفي نفس الوقت، كان بيحاول يثبت نفوذ الفاطميين في الشام وسط كل الفوضى دي. ومن أبرز المناطق اللي كان ليه مواجهات كبيرة فيها كانت حلب وطرابلس وعكا، لأنه كان مسؤول عن الدفاع عن المدن الساحلية وتأمين حدود الدولة الفاطمية. بالإضافة لكده، بدر كان بيدخل في صراعات ضد القوى المحلية اللي بتحاول تستقل عن الفاطميين، زي بعض الحكام اللي كانوا بيحاولوا ينفصلوا ويحكموا مدنهم بشكل مستقل. وده خلى "بدر الجمالي" يثبت نفسه كقائد عسكري بارع.
مع الوقت، بدأت الكتائب تحكي عن "بدر الجمالي" اللي كل ما يدخل حرب يطلع منها غالب، واللي يقدر يحكم مدينة كانت لسه من يومين في إيد عدو. الحكام بقوا يخافوا منه، مش عشان سيفه بس، لكن عشان دماغه اللي دايما بتخطط بخطوات أبعد من الكل.
تعليقات
إرسال تعليق