بدر الجمالي 11

 (11) بداية عصر "بدر الجمالي" كانت بداية جديدة تماما للدولة الفاطمية. لما تولى "بدر الجمالي" وزارة التفويض وإمرة الجيوش، بقى هو الحاكم الفعلي لمصر، الكل تحت إيده، سواء كانوا أمراء، أجناد، قضاة أو حتى الكُتاب. هو اللي يقرر مين يتولى المناصب الديوانية والدينية، وأصبح هو صاحب الحل والعقد، حرفيا مكنش فيه أمر أو ورقة مهما كبر أو صغر شأنها في الدولة إلا ولازم يكون ماضي عليها.

لكن التحول ده جاب معاه تغيير كبير في طبيعة الحكم. الدعوة الفاطمية نفسها فقدت جزء كبير من زخمها، وبقى كل تفكير الوزراء من بعد "بدر الجمالي" هو الحفاظ على بقاء الدولة واستمرارها، وده اللي المؤرخين سموه "عصر نفوذ الوزراء". بمعنى، الوزراء أصحاب السيوف كانوا هما الحكام الحقيقيين، والسيف هو اللي كان بيحدد مصير الدولة، أما الخليفة كان مجرد صورة لابيحل وبيربط، بركة يعني.

الدولة الفاطمية كانت هي الحامي للمذهب الشيعي الاسماعيلي الباطني، وكانت طول الوقت تحت ايديها جيش من الدعاة لمذهبهم، مسخرينهم في كل مكان من العالم الاسلامي، وخصوصا في الجزء السني منهم، عشان يزودوا تابعينهم وبالتالى يحصل ضعف وتفكك في البلاد السنية، وكانوا شادين السلخ أكتر في البلاد اللي بيحكمهم الدولة السلجوقية، أكبر عدو للدولة الفاطمية. 

قبل ما يظهر "بدر الجمالي" على الساحة، كان فيه داعية شيعي كبير اسمه "المؤيد في الدين هبة الله الشيرازي". الراجل ده كان عنده بُعد نظر، وشاف قدام عينه ضعف الخلافة الفاطمية قبل وصول "الجمالي" بسنين طويلة. في سيرته الذاتية اللي كتبها قبل أكتر من عشر سنين من ظهور "بدر الجمالي"، وصف الحالة اللي كانت فيها الدولة، وقال بصراحة إن الخليفة "المستنصر بالله" بقى لعبة في إيد قواد الجيش، وإن الخلافة نفسها قربت تقع.

"المؤيد الشيرازي" أدرك إن الدعوة الشيعية الفاطمية في خطر كبير، خصوصا مع سيطرة الوزراء العسكريين على الحكم. علشان كده خطط ينقل تراث الدعوة الشيعية من مصر لليمن، لأن هناك كان فيه مؤمنين حقيقيين بالدعوة الشيعية الفاطمية. وفعلا قبل وفاته سنة 470 هجرية /1077 ميلادية، بعت رسله ودعاته لليمن علشان يحافظوا على الدعوة الشيعية الاسماعيلية هناك.

لكن بعد ما مات "المؤيد الشيرازي" كلامه اتحقق. الخليفة الفاطمي "المستنصر بالله" اضطر يسلم كل أمور الدولة ل"بدر الجمالي". مش بس كان وزير وأمير الجيوش، لكن كمان الخليفة زود ألقابه بشكل يبين مكانته الكبيرة. بدأ يناديه في السجلات الرسمية بـ "السيد الأجل أمير الجيوش سيف الإسلام ناصر الإمام"، و"كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين"، ووصفه كمان بأنه "الذي أعاد إلى الدولة العلوية ريق شبابها"، و"الذي جدد الله تعالى به وعلى يده معالم الدولة الفاطمية بعد دروسها، وأقام بسيفه أعلامها بعد طموسها"، و"الآية التي أطلع الله بها لأمير المؤمنين شمس الخلافة فشرقت، والموهبة التي وهبها لدولته وللإسلام فظهرت وأشرقت".

وفي شعبان سنة 470 هجرية /1078 ميلادية، الخليفة فوّض "بدر الجمالي" بشكل رسمي في منصب القضاة، وأضاف له ألقاب زي "بماضي عزماته وغرار سيفه مشيدة البناء قائمة العماد"، و"كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين". من اللحظة دي "بدر الجمالي" بقى ماسك كل حاجة في الدولة، القضاء، الجيش، الإدارة، والدعوة.

الخلافة كانت على وشك الانهيار، لكن "بدر الجمالي" عمل نظام قوي أنقذ بيه الدولة الفاطمية، وخلّى عمرها يطول حوالي قرن تاني كامل. لكن مع الوقت، الوضع اتغير. الخلفاء الفاطميين اتحولوا لرؤساء رمزيين، زي ما حصل مع الخلفاء العباسيين في بغداد. ومن اللحظة دي، الوزراء العسكريين بقى ليهم السيطرة الكاملة، و"بدر الجمالي" كان أولهم.

وفي وسط كل ده نزل "حسن  الصباح" في ميناء الاسكندرية سنة 470 هجرية / 1078 ميلادية، بعد ما ساب بلاد فارس وجايب معاه أفكاره اللي بتشق الصفوف وتخلق الانقسامات. كان راجل مليان حماس، لسانه زي السيف، وفكره كله قايم على السيطرة والتوسع بفكر الدعوة الإسماعيلية الباطنية اللي كان هو زعيمها في أصفهان. خد بالك في الوقت ده كانت ايران وما حولها تحت حكم الدولة السلجوقية السنية واحنا كنا دولة شيعية، يعني عكس دلوقتي، و"حسن الصباح" كان من أهم دعاة الاسماعيلية الباطنية التابعين للدولة الفاطمية اللي اتكلمنا عليهم هناك في ايران.

مجموهة المذهب الإسماعيلية الباطنية في الوقت ده كانوا بيدينوا للولاء للخليفة الفاطمي في مصر، وعشان ينضم "حسن بن الصباح" للمذهب بالكامل لازم يعطي يمين الطاعة والولاء للخليفة الفاطمي. وفي صيف سنة 464 هجرية / 1072م، بيوصل كبير الدعاة الاسماعيليين في غرب ايران والعراق الملك "عبد الملك بن عطاش" لمدينة الري، ووقتها بيقابله "حسن الصباح" ويأدي قصاده يمين الطاعة والولاء للخليفة الفاطمي اللي موجود في مصر. ووافق الملك "عبد الملك بن عطاش" علي أنضمامه في المذهب الاسماعيلي الباطني، وأنبهر بثبات وقوة شخصية "حسن الصباح" وحجته القوية في الكلام وعلمه وثقافته لأنه كان دودة كتب، وأهم حاجة طريقة أقناع المتلقي بكلامه وكأنه ساحر أو منوم مغناطيسي، فقرر يستغل مواهب "حسن الصباح" القيادية الواضحة دي وعينه واحد من الدعاة وحددله مهامه في الدعوة وطلب منه يسافر مصر عشان يسجل أسمه في البلاط الفاطمي كواحد من الدعاة الأقوياء المؤثرين للمذهب.

وبدأ "حسن الصباح" يجهز نفسه ويهيأ نفسه للمرحلة الجديدة في حياته وأندمج في صفته الجديدة كداعية للمذهب الاسماعيلي الباطني لحد سنة 468 هجرية / 1076ميلادية. خرج من مدينة الري وسافر لأصفهان - مدينة ايرانية جنوب طهران العاصمة حاليا - وهناك تقلد رئاسة الدعوة الاسماعيلية الباطنية فيها. وبعدها راح أذربيجان من بلاد القوقاز، ومنها علي ميتافارقين - في تركيا حاليا - وهناك عمل مشكلة كبيرة لما أنكر سلطة علماء السنة وأصر على إن الإمام وحده هو اللي ليه الحق في تفسير الدين، وهنا قرر قاضي القضاه بطرد "حسن الصباح" من ميتافارقين. الحقيقة أن "حسن الصباح" كان بيحب الشو والظهور فتلاقيه بيقوم الفتن، ويروج لفتاوي صادمة عشان الناس تفضل تتكلم عليه ويبقي ملو السمع والبصر، يعني أنت داعية شيعي لمذهب معين فيه مالك أنت ومال أئمة السنة، بس هو لازم كده طبيعته عاوزة القلق ده حواليه.

ومن ميتافارقين أنطلق لبلاد الشام ومر علي سوريا وبيروت وفل.سط.ين، وكل ده هو عابر كداعية للمذهب الاسماعيلي الباطني، وفي كل بلد برده كان لازم يحط التاتش بتاعه ويسيب بصمته ويمشي. ومن سواحل فل.سط.ين ركب سفينة ونزل اسكندرية سنة 470 هجرية / 1078ميلادية.

لف "حسن الصباح" ودار في مصر، مرة في إسكندرية، ومرة في القاهرة، وكل ما يلاقي فرصة يقعد يوشوش في ودان الناس ويقول إن الحكم في مصر باطل، وإن الخليفة "المستنصر بالله" ما بقاش ليه لازمة وده لا يصح، وإن السلطة بقت في إيد وزيره القوي "بدر الجمالي". والناس بقت تاخد وتدي معاه، لكن معظمهم كانوا خلاص ارتاحوا بعد الشدة العظمى ومبسوطين إن الدنيا رجعت تستقر، فكانوا مش عايزين مشاكل جديدة.

لكن "حسن الصباح" مكنش من النوع اللي بيسكت، فضل يلف في الأسواق ويتكلم مع الناس ويصيح ويحاول يشعل الدنيا بكلامه، لحد ما صوته وصل لودان "بدر الجمالي" نفسه، وهنا كانت بداية الصدام الحقيقي.

"بدر الجمالي" كان وقتها بيرتب لحاجة كبيرة، حاجة تخص مستقبل الحكم كله، كان بيلعب لعبة سياسية تقيلة، وبيخطط خطط للمدى الطويل. كان بقاله فترة بيزن على ودان الخليفة الفاطمي "المستنصر بالله" عشان يخلي ابنه الصغير "أحمد المستعلي" هو ولي العهد بدل ابنه الكبير "نزار"، عشان "المستعلي" يبقى ابن بنت "بدر الجمالي" - راجع الجزء العاشر - وده يضمن ل"بدر الجمالي" استمرار نفوذه حتى بعد ما "المستنصر بالله" يموت، وهو شخصيا كمان يموت، يعني كان بيأمن حياة أولاده وأحفاده في السلطة.

لكن فجأة، ظهر "حسن الصباح" بصياحه وزعيقه اللي عامل زي الصداع، وممكن يعطل كل المراكب السايرة. "بدر الجمالي" شاف فيه خطر، مش بس على استقرار مصر، لكن على خطته نفسها، وعشان كده قرر يتصرف بسرعة.

راح "بدر الجمالي" للخليفة "المستنصر بالله" وقال له عن "حسن الصباح" اللي صيته وكلامه وصل كمان للخليفة، ده واحد فتان وعايز يولع في البلد ويعمل فتنة، عاوز يهد البلد تاني، ولازم ناخد موقف ضده. "المستنصر بالله" كان أصلا في جيب "بدر الجمالي"، واثق فيه ثقة عمياء، لدرجه أنه بقى زي العروسة الماريونيت في ايد "الجمالي" يحركها زي ما هو عاوز. عشان كده وافق "المستنصر بالله" وأصدر أمر بالقبض على "حسن الصباح".

وفي يوم و"حسن الصباح" قاعد في أحد مجالسه في القاهرة، دخل عليه جنود "بدر الجمالي"، شدوه من وسط الناس اللي كان قاعد معاهم، وحطوا ايديه في الحديد، ورموه في سجن دمياط. كان الغضب مالي "حسن الصباح"، لكن الحظ لسه مكنش خانه تماما.

كان "بدر الجمالي" يقدر يخلص عليه نهائي، لكنه فكر بعقلية السياسي المحنك، "حسن الصباح" كان زعيم الدعوة الإسماعيلية الباطنية في أصفهان، وأي خطوة متسرعة ضده ممكن تقلب الدنيا عليه من رموز الدعوة واللي كان سيادتهم الدينية مدياهم قوة ووزن، فقرر إنه يبعده عن المشهد، بدل ما يقتله ويعمل أزمة.

وبعد شهور في السجن، جه الأمر بنفي "حسن الصباح" من مصر، وشحنوه في مركب خارجة من إسكندرية، رايحة على المغرب. وهو بيطلع المركب، كان بيلف ويدور بعينيه، كأنه بيحفر المشهد في دماغه، وبيحلف جوه قلبه إنه في يوم من الأيام هياخد بتاره من "بدر الجمالي".

لكن اللي حصل بعد كده إن "حسن بن الصباح" فضل يتنقل لحد ما استقر في قلعة "ألموت"، وهناك أسس قاعدته القوية، وبدأ في تنفيذ مخططاته بطريقة جديدة. لكن رغم ده كله، مقدرش يرجع لمصر تاني، لأن "بدر الجمالي" كان أقوى منه بكتير، وكان عارف كويس إزاي يقفل الباب اللي جه منه الصداع ده. لكن الصداع رجع تاني من بعد "بدر الجمالي" في عهد إبنه "الأفضل شاهنشاه"، صحيح "حسن الصباح" مجاش تاني مصر ومخرجش عمره من قلعة ألموت، لكنه أستغل اللي عمله "الجمالي" وإبنه "الأفضل" في إزاحة "نزار بن المستنصر بالله" وسلب حقه الشرعي في الخلافة، في إنه خلاه الحادث بوق مؤثر يقدر يجمع حواليه عن طريقه الأعوان المتعاطفين وعمل بيهم جماعته اللي خلقت الرعب والموت والدمار لقرون تحت إسم الطائفة النارية الإسماعيلية الباطنية، أو اللي أتعرفت بعد كده بإسم "الحشاشين".

(يتبع)
مروة طلعت 
30/1/2025
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
#بدر_الجمالي
#الشدة_المستنصرية
#الدولة_الفاطمية
المصادر:
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ج5 - ابن تغري بردي.
اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الخلفا ج2 - المقريزي.
سير أعلام النبلاء الطبقة 25 - شمس الدين الذهبي.
المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ج2 - المقريزي.
تاريخ مصر في العصور الوسطي - ستانلي لين بول.
الدولة الفاطمية في مصر تفسير جديد - د/ أيمن فؤاد سيد.
السجلات المستنصرية - د/عبد المنعم ماجد.
الوزارة والوزراء في العصر الفاطمي - د/ محمد حمدي المناوري.
حياة العامة في مصر في العصر الفاطمي - د/ نجوى كيرة.
تاريخ الدولة الفاطمية - حسن ابراهيم حسن.
الفاطميون في مصر - محمد كامل حسين.
الجزء الاول
https://www.facebook.com/share/p/1EFFerD421/
الجزء الثاني
https://www.facebook.com/share/p/18jUMy2uw9/
الجزء الثالث
https://www.facebook.com/share/p/19GEkNWqbp
الجزء الرابع 
https://www.facebook.com/share/p/1AENGC8NXH/
الجزء الخامس
https://www.facebook.com/share/p/1BA8p11mjR/
الجزء السادس
https://www.facebook.com/share/p/18GzcW9peZ/
الجزء السابع
https://www.facebook.com/share/p/1cGTKmxZqW/
الجزء الثامن
https://www.facebook.com/share/p/197oUd2YvV/
الجزء التاسع
https://www.facebook.com/share/p/15af
GxjuUm/
الجزء العاشر
https://www.facebook.com/share/p/15tshY4emy/




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الليث بن سعد 5

الليث بن سعد

الليث بن سعد 6