بدر الجمالي 10

 (10) "بدر الجمالي" القائد اللي قدر يغير حال مصر من حال لحال. لما وصل مصر لقاها في حالة انهيار، كل منطقة متقسمة بين طوائف ومغتصبين، سواء في الوجه البحري وأسكندرية أو الصعيد. بدأ "بدر الجمالي" حربه على الفساد والفوضى، وانتصر على قبائل زي لواتة والمحلية - راجع الجزء التامن - وسيطر على الإسكندرية ورجّع ليها الأمن. بعدها شد الرحال للصعيد، وواجه قبائل زي هوارة وغيرهم اللي كانوا عاملين مشاكل في كل حتة - راجع الجزء التاسع - وقدر يخضعهم ويعيد النظام. مش بس كده، ده كمان أعاد الخطبة للخليفة الفاطمي في حرمين الشريفين بعد انقطاعها لسنين - راجع الجزء التاسع - وأثبت إنه قائد سياسي وعسكري لا يُشق له غبار.

في سنة 469 هجري/1076 ميلادي، الدنيا كانت لسه مش هادية في مصر. في عز الأزمات والتحديات اللي كان بيواجهها "بدر الجمالي" في مصر، ظهروا مرة تانية السلاجقة الدولة السنية المنافسة وعدو الفاطميين الأول. فاكرين "بلدكوش" القائد العسكري اللي سيطر على الخليفة الفاطمي "المستنصر بالله" مستغل أزماته مع السودانيين، وحاصر الخليفة جوا القاهرة وبنى حواليه الأسوار اللي تمنعه يشوف أبعد من قصره راجع الجزء الخامس - ولما وصل "بدر الجمالي" كان شرطه لدخول القاهرة أن الخليفة يقبض على "بلدكوش" ويخلص عليه - راجع الجزء السادس - وفعلا قبض الخليفة الفاطمي "المستنصر بالله" على "بلدكوش"، لكن قبل ما يقضي عليه عرف يهرب للشام بعدما خسر قصاد "بدر الجمالي". 

"بلدكوش" في الشام كان قلبه مليان غل وحقد على "بدر الجمالي"، وكل ما يشوف أنتصاراته، النار تولع في قلبه أكتر. ساعتها رمى "بلدكوش" بإيده اليمين انتماؤه للدولة الفاطمية، ورمى بإيده الشمال مذهبه الشيعي، وبعت رسالة للسلاجقة السنة وقالهم دلوقتي أنا منبوذ من الفاطميين وعدو عدوي صديقي وعلى أساسه أحب ألفت نظركم أن الوقت ده وقتكم للقضاء على الدولة الفاطمية، "بدر الجمالي" مشغول في الصعيد بيحارب القبائل والعربان وفلول السودان، والوجه البحري شبه فاضي، عشان أغلب قوة "الجمالي" معاه في الصعيد.

السلاجقة في الوقت ده كانوا واخدين بلاد كتيرة في الشام، وأصلا هم على حدود مصر، شافوا إن كلام "بلدكوش" سليم جدا، وانها فعلا فرصة ما تتفوتش، فبعتوا قائدهم "أتسزبزا" على رأس جيش ضخم، وعبروا سينا ومنها على الشرقية، وفضلوا ماشيين براحتهم محدش قالهم أنتوا مين حتى، لحد ما وصلوا مدينة صهرجت - حاليا تابعة لمركز ميت غمر الدقهلية - والدنيا سداح مداح. القائد "أتسزبزا" حس أن الموضوع كده فعلا بسيط وبحسبة بسيطة لسرعة تقدم جيشه، يبقى كلها كام يوم وهيبقى فوق دماغ الخليفة الفاطمي في قصره بالقاهرة بمنتهى البساطة. 

لكن الموضوع مكنش في حقيقة الأمر بسيط، بمجرد ما وصلت ل"بدر الجمالي" أخبار دخول السلاجقة، ما استناش كتير. جمع جيشه في سرعة البرق، وخرج من الصعيد على رأس رجاله. الموضوع بالنسبة ل"بدر الجمالي" مكنش دفاع عن الدولة الفاطمية والمذهب الشيعي، على قد ما كان دفاع عن وجوده ومجده الشخصى وده كان الأهم بالنسبة له. ماهو مينفعش تخطيط وصبر سنين، وحروب بعدها وصراعات لإنقاذ دولة ميتة، وبعد ما ترجع البلد للحياة من تاني تتاخد منه ع الجاهز، ده على جثته.

لما قرب "بدر الجمالي" من صهرجت، خطط بحكمة زي العادة. قسم الجيش بشكل ذكي علشان يحاصر السلاجقة ويقطع عنهم أي فرصة للهرب. وبعد استعداد أيام قليلة، نزل عليهم "بدر الجمالي" بجيشه مستغل عنصر المفاجأة، وأحساس جيش السلاجقة أن الأمور سهلة وبسيطة، فالعامل النفسي ده قلب الطاولة عليهم.

المعركة كانت شرسة جدا، السيوف ما بطلتش صليل، والسهام كانت زي المطر. السلاجقة كانوا متخيلين إنهم هيواجهوا جيش جاي من الصعيد مرهق أو قليل، لكن لقوا قدامهم العكس، جيش بعدد كبير، وده بسبب تجنيد "بدر الجمالي" المستمر للمصريين، اللي بقوا بيعشقوا حاجة أسمها بدر الجمالي"، وتدريبهم السريع والقاسي جنب جنوده من الأرمن، فكان جيشه مهما دخل بيه صراعات وحروب بيزيد وبيقوى مبينقصش. "بدر الجمالي" الراجل الستيني كان وسط المعركة، بيحارب وسط رجالته، وكان صوته بيوصل لكل جندي يشجعهم ويثبتهم.

أعداد كبيرة من جنود "أتسزبزا" اتقتلت، والباقي مكنش قدامه غير الهرب. "بدر الجمالي" طلع وراهم يطاردهم بنفسه لحد ما خرجوا من حدود مصر. "أتسزبزا" اللي كان فاكر نفسه جاي يقضي على الدولة الفاطمية الضعيفة المشتتة، رجع الشام مهزوم، شايل وراه عار الهزيمة وخسارة رجاله. وبكده "بدر الجمالي" رجع القاهرة منتصر كالعادة، مكمل مسيرته في تثبيت حكم الفاطميين وحماية مصر من أعداء الفاطميين. 

"بدر الجمالي" كان شايف إن البلد محتاجة نظام جديد يحكمها ويمسك كل شبر فيها بإيد قوية. مصر وقتها كانت كبيرة ومترامية الأطراف، من الصعيد في الجنوب للإسكندرية في الشمال، ومش سهل تسيطر عليها من غير نظام واضح ومتين.

من أهم الإنجازات اللي عملها "بدر الجمالي" إنه قسم البلد لولايات رئيسية، عشان يبقى كل جزء له والي قوي يشرف عليه ويسيطر على الأمور هناك. "قوص" كانت أهم ولاية - حاليا تابعة لمحافظة قنا - لأنها في قلب الصعيد، والطرق التجارية كلها كانت بتعدي من هناك. الطرق دي مش بس بتربط مصر، دي كمان بتوصل للتجارة اللي جاية من اليمن والهند وعمان. عشان كده والي قوص كان في أهمية الراجل التاني بعد الوزير "بدر الجمالي"، وكان عليه مسئولية كبيرة، مش بس إدارة الصعيد، لكن كمان تأمين التجارة دي كلها. والتجارة وقتها كانت قلب حياة الدولة الفاطمية.

"مراكب الكرام" كانت من أهم المراكب اللي بتخرج من مصر. ومراكب الكرام دي كانت السفن أو القوافل البحرية اللي بيركبها الحجاج المسلمين في رحلاتهم لأداء فريضة الحج في مكة المكرمة. المراكب دي كان ليها أهمية دينية وتجارية كبيرة، عشان كانت بتنقل الحجاج والبضائع مع بعض. مراكب الكرام كانت بتتعرض لهجمات القراصنة اللي عاملين زي الأشباح في البحر. عشان كده ركز "بدر الجمالي" على ميناء عيذاب اللي كان نقطة مهمة جدا ومركز تجاري مهم - حاليا في منطقة حلايب وشلاتين على البحر الأحمر - وحط عليه إشراف خاص من والي قوص، عشان يحمي الميناء والمراكب، عشان تأمين رحلات الحجاج كان جزء من دورها في تعزيز الشرعية الدينية والسياسية للدولة.

أما الولايات التانية التلاتة التانيين كانوا الشرقية والغربية والإسكندرية، كل واحدة كان ليها والي برده، مسؤول عن تأمين الطرق المؤدية للعاصمة القاهرة. الطرق دي كانت زي الشرايين اللي بتغذي البلد، و"بدر الجمالي" كان عارف كويس إن لو الطرق دي وقعت في أيد حد غلط، الدنيا هتبقى خراب، عشان كده كان دقيق جدا في اختيار الولاة بتوعه، وكان بيختارهم سياسيين أقوياء وفي نفس الوقت ولاؤهم التام له وحده.

الإصلاح ده خلى كل والي يبقى عنده سلطة كبيرة في منطقته، لكن في نفس الوقت الكل لازم يرجع ل"بدر الجمالي"، اللي كان ماسك زمام الأمور كلها في ايده. وده خلا النظام الإداري للدولة متين جدا، مفيش ثغرة ولا فوضى. كل والي عارف دوره، وكل منطقة محمية. وبفضل الخطوة دي، مش بس مصر بقت آمنة، لكن الدولة الفاطمية نفسها قدرت تكمل أكتر من قرن بعد كدة وهي واقفة ثابتة.

"بدر الجمالي" كان فعلا عبقري، مش بس قائد عسكري، لكنه كمان مهندس سياسي وإداري، قدر يحط نظام يمسك البلد من غير ما تنهار، وحافظ على التجارة اللي كانت بتدعم الدولة كلها. كل خطوة كان بيعملها، كانت بحساب وذكاء، لأنه عارف إن القوة مش بس بالسيف، لكنها كمان بالفكر والتنظيم.

الخليفة الفاطمي "المستنصر بالله" كان منبهر ب "بدر الجمالي" جدا، وفضل يكتب في السجلات اللي بعتها لدعاته في اليمن عن عظمة اللي عمله "الجمالي". وصفه بأنه "الذي أعاد إلى الدولة العلوية ريق شبابها" و"الذي جدد الله تعالى به وعلى يده معالم الدولة الفاطمية بعد دروسها، وأقام بسيفه أعلامها بعد طموسها". شافه كأنه "الآية التي أطلع الله بها لأمير المؤمنين شمس الخلافة فشرقت، والموهبة التي وهبها لدولته وللإسلام فظهرت وأشرقت، والسيف الذي انتضاه على جموع الباطل فزهقت وتمزقت".

بفضل شجاعة "بدر الجمالي" وإدارته الحديدية، أصبحت المملكة "محفوظة النظام". شيد البناء وحافظ على العماد، لدرجة إن الخليفة كان شايف إنه مافيش حد وصل للمكانة دي قبله، ووصفه إنه "حال من أمير المؤمنين محل والده الظاهر لإعزاز دين الله". الخليفة الفاطمي "المستنصر بالله وقتها كان عنده 47 سنة، و"بدر الجمالي" كان عنده تقريبا 70 سنة، عشان كده كان "المستنصر بالله" بينظر ل"بدر الجمالي" كأنه أبوه اللي حماه وحمى دولته وسلطته ومكانته، فكان بيحبه محبة الإبن لأبوه السوبرمان.

"بدر الجمالي" قرر يربط علاقته بالخليفة "المستنصر بالله" أكتر عن طريق المصاهرة، واللي خططله حصل. في يوم أشبه بليالي ألف ليلة وليلة، اتزينت فيها القاهرة لزواج الخليفة "المستنصر بالله" من بنت وزيره "بدر الجمالي"، ومفيش بعدها بكام شهر الا وشرف "أحمد المستعلي بالله بن المستنصر بالله" وحفيد "بدر الجمالي". لما "بدر الجمالي" زار بنته بعد الولادة وشال بين ايديه حفيده "المستعلي بالله" وبعد ما باركه، ابتسم وهو بيبص لإبنه "الأفضل شاهنشاه" واللي بادله بنفس الابتسامة، فالابن سر أبيه.

ومن اللحظة دي أبتدى صراع جديد مختلف تماما عن كل الصراعات اللي فاتت، وده اللي هنعرفه الجزء الجاي.

(يتبع)
مروة طلعت 
28/1/2025
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
#بدر_الجمالي
#الشدة_المستنصرية
#الدولة_الفاطمية
المصادر:
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ج5 - ابن تغري بردي.
اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الخلفا ج2 - المقريزي.
سير أعلام النبلاء الطبقة 25 - شمس الدين الذهبي.
المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ج2 - المقريزي.
تاريخ مصر في العصور الوسطي - ستانلي لين بول.
الدولة الفاطمية في مصر تفسير جديد - د/ أيمن فؤاد سيد.
السجلات المستنصرية - د/عبد المنعم ماجد.
الوزارة والوزراء في العصر الفاطمي - د/ محمد حمدي المناوري.
حياة العامة في مصر في العصر الفاطمي - د/ نجوى كيرة.
تاريخ الدولة الفاطمية - حسن ابراهيم حسن.
الفاطميون في مصر - محمد كامل حسين.
الجزء الاول
https://www.facebook.com/share/p/1EFFerD421/
الجزء الثاني
https://www.facebook.com/share/p/18jUMy2uw9/
الجزء الثالث
https://www.facebook.com/share/p/19GEkNWqbp
الجزء الرابع 
https://www.facebook.com/share/p/1AENGC8NXH/
الجزء الخامس
https://www.facebook.com/share/p/1BA8p11mjR/
الجزء السادس
https://www.facebook.com/share/p/18GzcW9peZ/
الجزء السابع
https://www.facebook.com/share/p/1cGTKmxZqW/
الجزء الثامن
https://www.facebook.com/share/p/197oUd2YvV/
الجزء التاسع
https://www.facebook.com/share/p/15af
GxjuUm/

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الليث بن سعد 5

الليث بن سعد

الليث بن سعد 6