ابنة الديكتاتور (ريفيو)

أنتهيت من قراءة رواية "ابنة الديكتاتور" للكاتب الصحفي الكبير أستاذ "مصطفي عبيد"، في طبعتها التالتة الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، بعدد صفحات 295 صفحة. تعتبر رواية "ابنة الديكتاتور" للكاتب "مصطفى عبيد" من الأعمال الأدبية التي تحمل في طياتها الكثير من التساؤلات حول مفهوم السلطة، الاستبداد، والإنسانية. الرواية لا تكتفي فقط بتوثيق الأحداث السياسية، بل تغوص في عمق النفس البشرية من خلال تصوير العلاقات المعقدة بين الشخصيات وتطوراتها. قد يراها البعض مجرد سرد تاريخي عن فترة حكم ديكتاتورية، لكن عند قراءة أعمق، نجد أن الرواية تتناول موضوعات أوسع، كالتضحية، القمع، والحب وسط بيئة مشبعة بالترهيب.

عندما نسمع كلمة "الديكتاتور"، يتبادر إلى أذهاننا صورة الحاكم الظالم والمستبد، الذي يتحكم في مصائر الناس بلا رحمة أو عدالة. ولكن في رواية "مصطفى عبيد"، نجد أن مفهوم الديكتاتور يتجاوز الحاكم الفرد ليصبح رمزًا أوسع لكل شكل من أشكال السيطرة على مصائر الأفراد وأفكارهم. الرواية تقدم نظرة عميقة لفكرة التحكم في المصائر والعقول، أو ما يمكن تسميته بـ"الكنترول"، حيث لا يقتصر الديكتاتور على زمن أو نظام حكم بعينه، بل يمتد ليشمل كافة مراحل التاريخ.

الرواية تنقسم بين حقبتين زمنيتين، هما الحقبة الملكية والجمهورية، حيث تُعقد المقارنات بين الأنظمة والناس في كل منهما. وبالرغم من اختلاف الأسماء والشخصيات، إلا أن جوهر الديكتاتورية بقي ثابتًا. الملكية والجمهورية، في الرواية، مجرد واجهات لحالة واحدة من الاستبداد، تتغير فيها الأسماء بينما تستمر الفكرة.

من أبرز الشخصيات التي تجسد هذا المفهوم هي "سناء بكاش"، التي تمثل ابنة الديكتاتور في كلتا المرحلتين. ففي الحقبة الملكية، كانت ابنة الديكتاتور الذي يرمز إلى استبداد النظام الملكي، وفي الحقبة الجمهورية، أصبحت ابنة الديكتاتور الذي يمثل استبداد النظام الجمهوري. لكن المفارقة تكمن في أنها لم تكن سوى أداة لخدمة الطرف الرابح في كل مرحلة، متخلية عن أي مبادئ أو ولاء حقيقي سوى ولائها للمصالح المفروضة عليها من قبل النظام الحاكم.

رواية "مصطفى" عبيد هنا ليست مجرد قصة عن شخصيات خيالية أو حقب تاريخية، بل هي دعوة للتفكير في جوهر السلطة وكيف تتحكم في مصائر الشعوب عبر الأزمنة. إنها تسلط الضوء على أن الديكتاتورية ليست مرتبطة بنظام بعينه أو بشخص معين، بل هي فكرة ممتدة يمكن أن تتجسد في أي زمان أو مكان.

تأتي الرواية لتعيد تعريف مفهوم الديكتاتور، ليس كحاكم فقط، بل كأي قوة تحاول السيطرة على أفكار البشر وتوجيههم، بغض النظر عن الشعارات أو الأنظمة التي تختبئ وراءها.

الأسلوب السردي الذي اتبعه "مصطفي عبيد" في روايته يعتمد على تقنية السرد غير الخطّي، حيث يتم الانتقال بين الماضي والحاضر، ويُمزج الواقع بالخيال في محاكاة صادقة لفكرة تمزق الهوية بسبب السلطة. هذه التقنية السردية تذكرنا بأسلوب الكاتب المصري "نجيب محفوظ" في رواياته "الحرافيش" و"قلب الليل"، حيث التداخل الزمني بين الحقائق والذكريات يُستخدم لتصوير التحولات النفسية للشخصيات. فالرواية لا تقتصر على سرد الأحداث فقط، بل تركز على التدفق الداخلي للوعي البشري وكيفية تأثره بالظروف الاجتماعية والسياسية.

مما يميز أسلوب "مصطفي عبيد" في "ابنة الديكتاتور" هو قدرتُه على تحويل سرد الأحداث اليومية إلى رحلة نفسية عميقة، فالهموم الشخصية تتوازى مع التوترات السياسية، مما يعكس الصراع الداخلي للشخصيات. هذه البراعة في استخدام الأسلوب السردي تجعل القارئ في حالة من التأمل المستمر في علاقة السلطة بالإنسان، ومدى تأثير الأحداث الكبرى على القرار الفردي.

من النقاط البارزة في الرواية هو استخدام الرمزية بشكل جلي، حيث يتم ربط السلطة بالجنس على نحو معقد. تتجسد صورة الديكتاتور، كأب قوي جاذب ومسيطر على الشخصية الرئيسية للرواية "سناء بكاش"، وهو ما يعكس المعاناة الداخلية مابين حب السلطة الأبوية الحاكمة، والرغبة التي تتوق إلى الحرية الشخصية في عالم تحكمه القوانين القمعية. في هذه النقطة، نتذكر برواية "1984" للكاتب "جورج أورويل"، حيث تقبع الشخصيات تحت قبضة سلطة لا تُظهر أي رحمة أو تعاطف، بل تستخدم التسلط في التأثير على المشاعر والأفعال الشخصية. والجدير بالذكر أن رواية "ابنة الديكتاتور" تقدم هذا التسلط بشكل أكثر إنسانية، حيث يتداخل الحلم بالواقع، وتتبدد الحدود بين المساءلة الذاتية والتجربة السياسية.

من جهة أخر تتسائل "سناء بكاش" طوال الرواية عن الهوية وما إذا كانت هي مجرد امتداد لسلطة الديكتاتور. يتضح هذا التوتر عبر السرد الداخلي للبطلة التي تحاول التحرر من طيف الاستبداد. وهذا يقود إلى تحليل العلاقة بين السلطة والجنس في المجتمع، وهو ما يستحضر أعمال أدبية أخرى مثل رواية "الأنثى الأخرى" للكاتبة رضوى عاشور، التي تناولت قضايا المرأة والسلطة وكيف تتفاعل الأنثى مع سلطات المجتمع.

الشخصيات في "ابنة الديكتاتور" لا تقتصر على كونها مجرد أدوات للسرد، بل هي تجسيد حي للصراعات الداخلية التي يعيشها أفراد تحت تأثير الاستبداد. شخصية الديكتاتور، الذي لا يظهر إلا من خلال الذاكرة والصوت، يمثل القوى السياسية القمعية التي تعيش في الذاكرة الجمعية. رغم أن الصورة التقليدية للديكتاتور قد تكون مستبدة وقاسية، إلا أن "مصطفى عبيد" يخلق توازناً في تصويره. ففي "ابنة الديكتاتور"، يظهر الديكتاتور أحيانا في لحظات ضعف، ويُظهر لنا الصورة المعقدة له، حيث يظهر الإنسان الذي يتخذ قراراته القاسية لا بدافع من الكراهية، بل بسبب ضغوط السياسة.

أما شخصية "سناء بكاش" فهي تمثل الفئة المهمشة، التي تجد نفسها محاصرة بين ولائها للديكتاتور ورغبتها في تحقيق هويتها المستقلة. البطلة تمثل القمع الذي يعاني منه الفرد في مجتمع استبدادي، وهو ما يذكرنا بشخصية "صوفيا" في "الغريب" للكاتب الفرنسي "ألبير كامو"، التي تعيش حياة يائسة تسعى فيها للهروب من قيود المجتمع ولكنها لا تستطيع.

إحدى أهم رسائل الرواية هي تسليط الضوء على الأثر المدمر للاستبداد على الأفراد. الكاتب هنا يطرح قضية غاية في الأهمية وهي كيف يمكن للسلطة أن تقتل الروح البشرية من خلال فرض النظام القاسي، وتعطيل الحريات الفردية. يتعامل الكاتب مع السلطة ليس فقط كقوة سياسية، بل كحالة نفسية تؤثر في الإنسان على مستويات عدة: العاطفية، الفكرية، والجسدية.

الرواية تنجح في طرح تساؤلات عميقة حول طبيعة الأنظمة الاستبدادية وكيف تحوّل الأشخاص إلى مجرد أدوات في يد السلطة، مما يعكس الواقع الاجتماعي والسياسي في العديد من الدول التي تعيش تحت الأنظمة الديكتاتورية. وبهذا المعنى، قد تُعتبر الرواية بمثابة صرخة احتجاج ضد الأنظمة الاستبدادية التي لا تأخذ بعين الاعتبار حياة الأفراد وآمالهم.

في النهاية، يمكن القول إن "مصطفى عبيد" نجح في تقديم رواية تجمع بين النقد السياسي والتحليل النفسي، لتصبح "ابنة الديكتاتور" عملاً أدبيًا يعكس بشكل دقيق تأثير السلطة على الأفراد. لقد أبدع في تصوير العلاقة بين الأب والابنة، وأظهر كيف يمكن للاستبداد أن يؤثر على بناء الهوية الفردية في مجتمع مُغلق. ورغم أن الرواية قد تكون مليئة بالتشويش العاطفي على المستوى الشخصي، إلا أنها تطرح إشكاليات حقيقية تخص الإنسان في مواجهة الأنظمة القمعية.

إذا كانت الرواية تقدم لنا تجسيدًا لما قد يتعرض له الشخص تحت قمع السلطة، فإنها أيضًا تُظهر أن مقاومة هذا القمع لا تأتي من الخارج فقط، بل من داخل الفرد نفسه، إذ أن الصراع الداخلي بين الرغبة في الاستقلال والوفاء للأب هو أحد المحاور الرئيسية التي يعالجها عبيد بنجاح.

في المجمل، "ابنة الديكتاتور" هي عمل أدبي جدير بالقراءة، بما تقدمه من رؤى معقدة، والشخصيات التي تُظهر الواقع المرير للأفراد في عالم سياسي قاسي.
مروة طلعت
27/12/2024
#عايمة_في_بحر_الكتب
#ريفيوهات_مروة_طلعت




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الليث بن سعد 5

الليث بن سعد

الليث بن سعد 6