أحمد بن طولون 15

(15) "أحمد بن طولون" لما بنى مدينة القطائع، أهتم يعمل فيها مشاريع اصلاحية على أعلى مستوى. عمل قناطر للمياه في جنوب شرق القطائع، وده كان مشروع عظيم فضل واقف صامد لحد النهارده، لسه تقدر تشوف بعض العقود بتاعته. الفكرة كانت إن المياة تمشي في العيون وتوصل لحد القطائع عشان الناس تلاقي المياة في المدينة بسهولة، وكان الهدف منها إن العاصمة الجديدة تكون مجهزة بكل اللي السكان محتاجينه.

إنما الغريب بقى القصص اللي اتقالت عن سبب بناء القناطر دي. مؤرخين مصر الإسلامية، زي العادة، بيحبوا يزودوا التوابل، ويكتبوا أحيانا مع القصة الحقيقية الحكايات والحواديت الشعبية اللي ألفها الناس. قالوا إن الناصحين قالوا ل"أحمد بن طولون" إنه يجيب المياة من عين اسمها "عين أبي خليد" للمدينة، إنما هو رفض وقال لا، العين دي الناس هتفضل تذكرها بأسم أبو خليد، وأنا عايز أعمل حاجة تتسمى بأسمي أنا. وبدل ما يعتمد على عين أبي خليد، راح للشرق وبنى القناطر دي اللي سماها المؤرخين "السقاية".

القناطر دي كانت حاجة تشبه القناطر الرومانية اللي معمولة بتقنية رفع المياه، وكان شكلها في منهى العظمة وبتجمع بين المتانة والجمال. المشروع كان ضخم واحتاج فلوس كتيرة ومجهود كبير جدا. وحتى الشعراء في العصر ده، غنوا عنها في قصايدهم عشان يمدحوا الدولة الطولونية وإنجازاتها، زي "سعيد القاص" اللي قال فيها:
بناء لو آن الجن جاءت بمثله... قليل لقد جاءت بمستفظع نكر.

قناطر ابن طولون كانت مبنية بنفس الطوب اللي أستخدم في الجامع الطولوني، نفس شكله وحجمه، واللي كان مسؤول عن بناء القناطر هو نفس المهندس المسيحي العراقي اللي بنى له الجامع بعد كده - زي ما حكينا في الجزء الرابع عشر - "أحمد بن طولون" مكنش بيعمل حاجة إلا على أصولها، وكل مشروع كان بيبقى معملوله ألف حساب.

وفي سنة 259 هجرية / 874 ميلادي، قرر يبني "البيمارستان"، أو المستشفى، واللي كانت فكرة متقدمة جدا عن وقتها. مش زي ما ناس فاكرة إن كلمة بيمارستان معناها مستشفى المجانين - الناس اشتقت منها كلمة موريستان بمعنى جنون - ده كان مستشفى شامل لكل أنواع الأمراض والمرضى. للأسف معندناش أي بقايا أو خرائط للمستشفى، والمؤرخين اللي كتبوا عنه مذكروش أي تفاصيل عن تصميمه، إنما اللي نعرفه من كلامهم إنه كان حاجة عظيمة جدا. "أحمد بن طولون" حط شرط واضح إن المستشفى ما يعالجش لا جنود ولا مماليك، خاصة للعوام وعلاجهم بالمجان، وعمل فيهم حمامين عامين، واحد للرجال والتاني للستات - حمامات شعبية زي حمام اينال اللي في شارع المعز وحمام التلات - وكل ده كان ببلاش لكل العوام سواء مسلم أو مسيحى أو يهودي.

والأغرب بقى هو النظام اللي كان شغال بيه البيمارستان، خدمة سوبر لوكس ولا خدمة فنادقنا الفايف ستارز. المريض أول ما يدخل، يغير هدومه ويستلم هدوم جديدة يلبسها خاصة بالبيمارستان، ويستلموا هدومه وفلوسه وأي متعلقات كانت معاه وهو داخل، وكل حاجة بتتسجل في الأمانات. والمريض كان بيتقدم له العلاج والأكل من غير ما يدفع ولا درهم. ولما يبقى قريب من الشفا، وعشان يتأكدوا أن صحته رجعتله وبقى تمام، يقدموا له فرخة وشوربة ورغيف، لو قدر ياكلهم ويخلصهم، يبقى هو كده تمام ويخرج من المستشفى ويرجع له هدومه وفلوسه ومتعلقاته كاملة.

"أحمد بن طولون" كان بيهتم بالمستشفى لدرجة إنه كان بيروح يزوره بنفسه كل يوم الجمعة بعد الصلاة، يشوف بنفسه الأدوية ويتأكد أن مفيش أي نواقص، ويسأل على الأطباء ويسمع منهم، ويزور المرضى ويخفف عنهم ويهتم بيهم، ويحاول يطمنهم ويدخل السعادة على قلوبهم، يعني حاجة أخر دلع.

"أحمد بن طولون" موقفش عند القناطر أو البيمارستان، ولا حتى عند الجامع الطولوني. الراجل كان عنده طموح كبير واستقلالية واضحة، وكل اللي كان بيعمله كان بهدف إنه يرسخ مكانته في قلوب المصريين ويؤسس دولة قوية. هتلاقى مش كل الناس تعرف إنه بنى كمان مسجد تاني اسمه "مسجد التنور" فوق جبل المقطم، عشان مسجد العسكر مبقاش يكفي المصليين من الجنود والعامة في صلاة الجمعة، فبنى مسجد جديد في مكان أوسع.

برده المكان ده له حكاية عجيبة. المؤرخين بيحكوا إن المكان ده كان فيه حاجة اسمها "تنور فرعون"، تنور يعني فرن كانوا بيولعوا فيه نار. القصة بتقول إنهم زمان لما كانوا بيولعوا النار في التنور ده، معناه أن الفرعون راكب ورايح عين شمس، أو لما يرجع يولعوه تاني كإشارة. التنور ده فضل موجود لحد ما قائد اسمه "وصيف" واحد من رجالة "أحمد بن طولون" هدمه وحفر تحته عشان كان فاكر إنه هيلاقي تحته كنز، بس طلع نابه على شونة، وملقاش حاجة. ورغم أنه أتكتب سبب بناؤه زحمة المصليين في جامع العسكر والجامع الطولوني، إلا أنه مش واضح كمان  كان مسجد التنور ده كان بيقام فيه صلاة الجمعة ولا لا. أصل زمان كان فيه جوامع بتتصلي فيها الجمعة عشان تجمع كل الناس ويسمعوا خطبة واحدة، وجوامع تانية بيتصلى فيها كل الفروض وتتقفل وقت صلاة الجمعة، عشان الناس تتجه لصلاة الجمعة في الجامع الرسمي الكبير. كانت الجمعة بتتصلى في جامع عمرو بن العاص وجامع العسكر، وبعد ما بنى جامعه الكبير فوق جبل يشكر (جامع أحمد بن طولون) بقت الجمعة بتتصلى هناك كمان. ذكر الشاعر "سعيد القاص" مسجد التنور في قصيدته المشهورة اللي بيمدح فيها فضائل الدولة الطولونية، وقال فيها:
وتنور فرعون الذي فوق قلة .. على جبل عال على شاهق وعى
بنى مسجدا فيه يروق بناؤه .. ويهدي به في الليل أن ضل من يسرى
تخيل سنا قنديله وضياءه .. سهيلا إذا ما لاح في الليل للسفر

غير المساجد، ابن طولون عمل إصلاحات ضخمة. يعني مثلا صلح مقياس النيل في الروضة، وده كان مهم جدا عشان يعرفوا مستوى مياة فيضان النيل. كمان طهر الخليج اللي بيربط الإسكندرية بالنيل، واهتم بإصلاح منارة الإسكندرية اللي كانت مهمة لأرشاد السفن وقتها. كل المشاريع دي استغرقت وقت طويل وفلوس كتيرة جدا، لدرجة إنه مبقاش يقدر يبعت نفس مقدار الأموال السنوية للخلافة زي زمان. وده اللي خلا الخلافة تشك أكتر في نواياه، خصوصا لما الفلوس اللي كانت بتروح لبغداد أو سامرا بقت تتصرف جوه مصر. وقتها الخلافة بقيادة "الموفق"أخو الخليفة العباسي "المعتمد" بدأت تدخل في صدام مع "ابن طولون"، بس "أحمد بن طولون" كان مصمم يخلي فلوس مصر للمصريين ويأسس استقلال حقيقي. وبكده وادي النيل بدأ يكتب فصل جديد في تاريخه بعيد عن نفوذ الخلافة العباسية.
(يتبع)
مروة طلعت 
16/12/2024
الجزء الأول
https://www.facebook.com/share/p/15S5pbGhCy/
الجزء الثاني 
https://www.facebook.com/share/p/19YH9rSbEb/
الجزء التالت
https://www.facebook.com/share/p/1G6MQJ8jPA/
الجزء الرابع
https://www.facebook.com/share/p/19fGndQh69/
الجزء الخامس
https://www.facebook.com/share/p/1Ax7r7wwx1/
الجزء السادس 
https://www.facebook.com/share/p/13yWSkeVUZ/
الجزء السابع
https://www.facebook.com/share/p/1E6qCSabMT/
الجزء التامن
https://www.facebook.com/share/p/1QLRXzSG7g/
الجزء التاسع
https://www.facebook.com/share/p/1BTtT4WQJk/
الجزء العاشر
https://www.facebook.com/share/p/1B45f1rFHr/
الجزء الحادي عشر
https://www.facebook.com/share/p/18GLuvDrf5/
الجزء الثاني عشر
https://www.facebook.com/share/p/15Fxh2G6mK/
الجزء الثالث عشر 
https://www.facebook.com/share/p/15mvpXW2DJ/
الجزء الرابع عشر
https://www.facebook.com/share/p/1D51eMwEog/
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
#أحمد_بن_طولون
#القطائع
#السيرة_الطولونية
المصادر:
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ج2 ـ إبن تغري بردي.
الخطط المقريزية ج2 - المقريزي.
سير أعلام النبلاء الطبقة 15 - الامام الذهبي.
الطولونيون دراسة لمصر الاسلامية في نهاية القرن التاسع الميلادي - دكتور ذكي محمد حسن.
أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية - دكتور عبد العزيز سالم.
تاريخ مصر في عهد أحمد بن طولون - محمد كرد علي.
سيرة أحمد بن طولون - أبو محمد عبد الله محمد المديني البلوي.
أحمد بن طولون - دكتورة سيدة إسماعيل كاشف.
البداية والنهاية ج14 - ابن كثير.
مروج الدهب ومعادن الجوهر ج4 - المسعودي.
تاريخ الطبري ج9 - الامام الطبري.






تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الليث بن سعد 5

الليث بن سعد

الليث بن سعد 6