أحمد بن طولون 14

(14) "أحمد بن طولون" كان عنده طموح كبير، وكان شايف إن عاصمته "القطائع" لازم يبقى فيها جامع يكون عنوان للعظمة والرخاء في عصره. بس مش أي جامع... جامع يكون أضخم وأهم من جامع عمرو بن العاص وجامع العسكر اللي كانوا موجودين وقتها. وعلشان كده قرر يبني جامع جديد على مكان مميز جدا.

اختار "أحمد بن طولون" جبل يشكر علشان يبني عليه الجامع. جبل يشكر كان متسمي على أسم "يشكر بن جزيلة" اللي كان قاعد ع الجبل ده هو وقبيلته بعد الفتح الإسلامي، وكان مشهور عن "يشكر" أنه راجل صالح، عشان كدة أتسمى الجبل على أسمه. والمصريين وقتها كانوا بيعتبروا المكان ده مبارك، وبيقولوا إن ربنا كلم سيدنا موسى عليه السلام عليه. ده غير أنه قريب من جبل المقطم اللي كانوا بيعتبروه جبل من الجنة وله قدسيته عند المسلمين وقتها، لدرجة أن الصحابة والتابعين والصالحين اللي دخلوا مصر بعد الفتح الاسلامي، كلهم مدفونين فيه. مكان عليه بركة ومكانة دينية كبيرة في نظر الناس، وده كان اختيار عبقري يزود من هيبة الجامع. وكمان الجبل كان في قلب مدينة القطائع، اللي هي العاصمة الجديدة اللي بناها "أحمد بن طولون". يعني الجامع هيبقى في وسط البلد، مكان يشوفه الكل بسهولة، وكأنه عنوان عظمة أحمد بن طولون وعصره.

المؤرخين اختلفوا على تاريخ إنشاء الجامع، وده يمكن لأن تفاصيل كتير من عصر "أحمد بن طولون" مليانة غموض وحكايات. "المقريزي" قال إنه كان ما بين (263 - 265 هجرية)، و"أبو المحاسن" قال ابتدى سنة 259 هجرية، و"الكندي" قال مابين (264 - 266 هجرية). ولو دورنا على التاريخ الأدق، هنلاقي إن بناء الجامع خلص سنة 265 هجرية، والتاريخ ده مكتوب بخط كوفي جميل على لوح رخام موجود جوه الجامع نفسه. الموضوع ما وقفش عند اختيار مكان جامع "أحمد بن طولون" بس، لكن كمان وقت بناء الجامع نفسه كان ليه دلالات. المؤرخين اتفقوا إن أحمد بن طولون ما بدأش في المشروعات العمرانية الضخمة دي غير لما بقت مصر كلها تحت حكمه، وده بيأكد إنه كان عايز يبني جامع يعبر عن قوة حكمه واستقراره واستقلاله. 

أما بقى المهندس اللي خطط الجامع، ف"المقريزي" بيقول إنه كان نصراني، راجل متمكن جدا في الهندسة. والأرجح إنه كان مسيحي من العراق، عشان لو كان مصري كان "المقريزي" هيقول إنه قبطي، ولو كان من أصل بيزنطي كان هيقول إنه رومي. فبنرجح إنه مهندس عراقي جه مع "أحمد بن طولون" أو جابه مخصوص لما قرر يبني الجامع. وده كلام منطقي عشان تصميم الجامع وزخارفه شبه جدا العمارة اللي كانت مشهورة في سامرا بالعراق وقتها.

"أحمد بن طولون" دفع في بناء الجامع لوحده 120 ألف دينار. الجامع نفسه تصميمه عبقري جدا. عبارة عن صحن مربع مكشوف، طول ضلعه حوالي 92 متر، يعني مساحته الكلية حوالي 8487 متر مربع. حوالين الصحن فيه أروقة من كل الجوانب، رواق القبلة أكبر رواق فيهم. وكمان فيه حاجة مميزة جدا وهي "الزيادات"، ودي عبارة عن أروقة تانية خارجية بين الجدران وسور الجامع. "ابن دقماق" قال إن "أحمد بن طولون" بنى الزيادات دي لما المصليين ملوا الجامع ومبقاش فيه مكان لمصليين أكتر. نفس الفكرة كانت موجودة في جامع سامرا ومسجد أبي دلف بالعراق. يعني الموضوع كان مرتبط بفكرة التوسعة والاهتمام إن الجامع يستوعب أكبر عدد من الناس.

ولو هنتكلم عن المواد اللي اتبنى بيها الجامع، هنلاقي إنه معمول من الآجر الأحمر الداكن. وده مش اختيار عشوائي، لأن في العراق كانت العمارة بتعتمد على الطوب الني والآجر بسبب قلة الأحجار هناك. وده بيأكد أكتر إن المهندس كان عراقي الأصل، اللي واخد على روح مدينة سامرا في التصميم. يعني حكاية "أحمد بن طولون" مع المهندس المسيحي المصري المنتشرة، ماهي الا هبد وكلام فارغ من أي حقيقة تاريخية، شوية صعبانيات وخيال واسع مش أكتر، لكسب لايكات زيادة أو خلق فتنة.

"أحمد بن طولون" لما قرر يبني الجامع، كان عنده رؤية مختلفة. قالها بكل وضوح: "أريد أن أبني بناء أن أحترقت مصر بقى، وأن غرقت بقى". الكلام ده بيبين قد إيه كان مهتم إن الجامع يكون قوي ومتين يستحمل أي حاجة. وقتها نصحوه وقالوله: "يبنى بالجير والرماد الآجر الأحمر القوي النار الي السقف، ولا يجعل فيه أساطين رخام، فإنه لا صبر لها على النار". وفعلا بنى الجامع بالطريقة دي، وده اللي خلاه واحد من أقدم المباني الإسلامية اللي فضلت صامدة لحد النهارده.

لكن الحاجة اللي بتميز جامع ابن طولون بجد إنه ما استخدمش الأعمدة الرخامية اللي كانوا بيجيبوها عادة من الكنائس المهدمة والمعابد القديمة. بيحكوا إنه لما فكر في بناء الجامع، حد اقترح عليه إنه يحتاج 300 عمود رخام، وقالوله إنه عشان يوفرهم لازم يخرب كنائس في الأرياف. لكنه رفض تماما. واعتمد على دعائم ضخمة من الطوب الآجر مغطيها بطبقة من الجص (الجبس). أما أكتر حاجة بتخطف النظر في الجامع فهي المئذنة أو المنارة. موجودة في الرواق الخارجي الغربي، وشكلها غريب ومميز جدا، فهي متصلة بباقي الجامع. المأذنة بتتكون من قاعدة مربعة فوقها طبقة اسطوانية، وفوقهم واحدة مثمنة، والسلالم بتاعتها من برة بشكل حلزوني زي المدرجات. واللي بيخليها أكتر تميز إنه مفيش مأذنة شبهها غير اللي في جامع سامرا ومسجد أبي دلف في العراق.

علماء الآثار مختلفين على تاريخ المئذنة اللي موجودة دلوقتي، لأنها أتجددت عن اللي أتبنت في العصر الطولوني. في منهم بيقول إنها من عصر أحمد بن طولون، وناس تانية بتنسبها للعصر الفاطمي، لكن الأغلب إنها اتبنت وقت السلطان المملوكي "لاجين" لما جدد الجامع سنة (696 هجري /1296 ميلادي)، ودي ليها قصة كنا حكيناها في سلسلة السلطان "محمد بن قلاوون". أختصارا لما "لاجين" هرب بعد ما قتل "الخليل بن قلاوون"، ملقاش أنسب من مأذنة جامع أحمد بن طولون يستخبى فيها، عشان وقتها كان الجامع مهجور وشبه الخرابة، والمأذنة على وشك الانهيار، فمحدش هيتوقع أن فيه أنسان عاقل يقعد فيها. ساعتها "لاجين" ندر أنه لما ربنا ينجيه ولو أتولى حكم مصر، هيجدد الجامع ده اللي أواه، وفعلا بياخد "لاجين الحكم وبيجدد الجامع والمنارة وبنى كمان فسقية الوضوء اللي في نص الصحن. ورغم كده المأذنة لما جددها راعى أنها تحتفظ بروح التصميم الطولوني القديم.

 المؤرخين قالوا حكاية غريبة عن بداية فكرة شكل المأذنة. "أحمد بن طولون" كان مشهور عنه أنه شخصية جادة جدا، ومكنش يحب الهزار ولا اللعب. قرر شكل المنارة لما كان قاعد في مجلسه ماسك ورقة وطواها بطريقة معينة وهو بيلعب بيها. فلما الناس استغربت عشان ده أول مرة يشوفوه بيلعب، فأتحرج لما أنتبه لنفسه وقالهم كنت بفكر أبني المنارة على الشكل ده.وبعت للمهندس وأمره ينفذ التصميم اللي ظهر عليه شكل الورقة. بس واضح أن الحكاية دي بتضيف لمسة من الخيال على القصة، عشان شكل المأذنة دي أصلا موجودة في سامرا.

جامع "أحمد ابن طولون" مش بس مشهور بتصميمه الفريد، لكنه كمان بيمتاز بمنبره الخشبي اللي يعتبر تحفة فنية من عصر المماليك. المنبر ده اتعمل بحرفية عالية جدا، وكان من أجمل نماذج الصناعة الخشبية في الوقت ده. لكن للأسف، زي أي كنز تاريخي، أتسرق واتسربت أجزاء منه برة مصر، وبالتحديد لأوروبا. لكن لجنة حفظ الآثار العربية ما سكتتش، وفضلت تلاحق الأجزاء دي لحد ما قدرت تسترد جزء كبير منها وترجع المنبر شبه حالته الأصلية.

الجامع كمان فيه سبع محاريب، أولهم المحراب الأصلي اللي جنب المنبر. أما المحاريب التانية، فهي مصنوعة من الجص (الجبس) بتصميمات بسيطة ومستوية، وبترجع للعصر الفاطمي وعصر السلطان "لاجين" المملوكي. الزخارف الجصية اللي في الجامع ملفتة للنظر، وبتبين تأثر العمارة الطولونية بزخارف سامرا في العراق، ودي كانت مشهورة في العصر العباسي.

الفضل الكبير بيرجع لإدارة حفظ الآثار العربية اللي اشتغلت بجهد عشان ترجع الجامع لحالته الأصلية. وشغلهم كان ناجح جدا، وده بان عشان الجامع النهارده يعتبر فخر للآثار الإسلامية.

جامع أحمد بن طولون بيعتبر من أهم وأقدم الآثار العربية في مصر. صحيح جامع "عمرو بن العاص" أقدم منه ولسه موجود، لكنه مر بتغيرات وإضافات كتير عبر العصور اللي غيرت ملامحه الأصلية تماما. لكن جامع أحمد بن طولون احتفظ بمعظم تصميماته الأولى، وده خلاه البناء الوحيد في مصر والشام اللي بيمثل العمارة الإسلامية قبل العصر الفاطمي بنفس حالته الأصلية.

متنسوش جولتنا في القطائع وجامع أحمد بن طولون يوم الجمعة الجاية 20/12 ان شاء الله، هنشوف الجامع ونتجول فيه ونطلع سطحه ونحكي حكايته وأحنا شايفين معالمه قصادنا، أبعتلي خاص وأشترك في جولتنا، مستنينكم.
(يتبع)
مروة طلعت 
15/12/2024
الجزء الأول
https://www.facebook.com/share/p/15S5pbGhCy/
الجزء الثاني 
https://www.facebook.com/share/p/19YH9rSbEb/
الجزء التالت
https://www.facebook.com/share/p/1G6MQJ8jPA/
الجزء الرابع
https://www.facebook.com/share/p/19fGndQh69/
الجزء الخامس
https://www.facebook.com/share/p/1Ax7r7wwx1/
الجزء السادس 
https://www.facebook.com/share/p/13yWSkeVUZ/
الجزء السابع
https://www.facebook.com/share/p/1E6qCSabMT/
الجزء التامن
https://www.facebook.com/share/p/1QLRXzSG7g/
الجزء التاسع
https://www.facebook.com/share/p/1BTtT4WQJk/
الجزء العاشر
https://www.facebook.com/share/p/1B45f1rFHr/
الجزء الحادي عشر
https://www.facebook.com/share/p/18GLuvDrf5/
الجزء الثاني عشر
https://www.facebook.com/share/p/15Fxh2G6mK/
الجزء الثالث عشر 
https://www.facebook.com/share/p/15mvpXW2DJ/
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
#أحمد_بن_طولون
#القطائع
#السيرة_الطولونية
المصادر:
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ج2 ـ إبن تغري بردي.
الخطط المقريزية ج2 - المقريزي.
سير أعلام النبلاء الطبقة 15 - الامام الذهبي.
الطولونيون دراسة لمصر الاسلامية في نهاية القرن التاسع الميلادي - دكتور ذكي محمد حسن.
أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية - دكتور عبد العزيز سالم.
تاريخ مصر في عهد أحمد بن طولون - محمد كرد علي.
سيرة أحمد بن طولون - أبو محمد عبد الله محمد المديني البلوي.
أحمد بن طولون - دكتورة سيدة إسماعيل كاشف.
البداية والنهاية ج14 - ابن كثير.
مروج الدهب ومعادن الجوهر ج4 - المسعودي.
تاريخ الطبري ج9 - الامام الطبري.




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الليث بن سعد 5

الليث بن سعد

الليث بن سعد 6