أحمد بن طولون 13

(13) بعد ما العرب فتحوا مصر، بدأت الصناعات والفنون الإسلامية تاخد شكل جديد ومميز، والمصريين كانوا هم العمود الفقري للفنون والعمارة دي. يعني العرب طبعوا الفنون والصناعات بروح دينهم، لكن اللي كانوا بينفذوا وبيبدعوا في الشغل ده هم المصريين، اللي من يومهم وفي دمهم الفن والذوق والابداع. ومن هنا بدأ يظهر فن إسلامي مصري له طابعه الخاص، مختلف عن اللي كان موجود قبل الفتح.

المصريين ما وقفوش عند حدود بلدهم، دول شاركوا في عمارة أماكن كتير في الدولة الإسلامية. "قرة بن شريك" والي مصر من (90 هجرية / 709 ميلادية) لحد (96 هجرية / 714 ميلادية) في عهد الخليفة الأموي "الوليد بن عبد الملك بن مروان"، كان بيبعت عمال مصريين يشتغلوا في الجامع الأموي في دمشق، وفي جامع بيت المقدس، وحتى في قصر أمير المؤمنين في بغداد. وده غير مشاركتهم في توسعة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة. وصلتلنا برديات "قرة بن شريك" كان بيكتب فيها المصاريف اللي هتتصرف على العمال الفواعلية المصريين والمهندسين المهرة منهم، وكان نقل الصناع والفنانين بين أقاليم الدولة الإسلامية حاجة طبيعية جدا، بأعتبار أن كل البلاد الإسلامية بلد واحدة.

لما العرب فتحوا مصر (20 هجرية / 641 ميلادية)، كان مركز الحكم في الفسطاط، اللي "عمرو بن العاص" اختطها سنة 21 هـ / 642 م، وبنى فيها جامعه الشهير اللي لحد النهارده يعتبر من أهم المعالم الإسلامية. الفسطاط كانت هي العاصمة والمقر الرئيسي للحكم العربي في مصر.

لكن لما العباسيين جم مصر سنة (132 هجرية / 750 ميلادي)  بقيادة" صالح بن علي العباسي" وأبو عون عبد الملك بن يزيد"، كانوا بيطاردوا "مروان بن محمد الأموي"، آخر خليفة أموي، عشان ينهو الحكم الأموي تماما. وبعد ما العباسيين سيطروا على مصر سنة (133 هجرية / 750 ميلادية)، قرروا يعملوا عاصمة جديدة بعيدة عن الفسطاط، وده لسببين، أولهم عشان حبوا يكون عندهم عاصمة جديدة تخصهم لوحدهم. وتانيهم عشان "مروان بن محمد" ولع في الفسطاط وحرق وخرب جزء كبير منها.

المنطقة اللي اختاروها العباسيين كانت في الصحراء شمال شرق الفسطاط، وكانت معروفة باسم "الحمراء القصوى" - منطقة عين الصيرة وضواحيها حاليا - مكنش فيها غير شوية أديرة وكنائس، فقرر "أبو عون" إنه يبدأ حركة البناء هناك. بنوا محلات وأسواق وبيوت، و"صالح بن علي" شيد دار للإمارة، وبقت العسكر هي العاصمة الجديدة. ولما "الفضل بن صالح" مسك ولاية مصر من الخليفة "المهدي" سنة (169 هجرية / 785 ميلادية)، بنى جامع العسكر اللي كان مركز ديني كبير في الوقت ده.

ولما جه "أحمد بن طولون" سنة (254 هجرية / 868 ميلادي) على مصر وأسس الدولة الطولونية، حصلت نقلة نوعية في الفنون والصناعات. ظهر في مصر حاجة جديدة اسمها الفن الطولوني، نسبة للطولونيين، وكان ليه طابع خاص ومميز. صحيح إنه كان متأثر بفن الخلافة العباسية اللي كانت مسيطرة وقتها، لكنه في نفس الوقت نافسها بقوة. "أحمد بن طولون" كان عايز يعمل بلاط يضاهي بلاط الخليفة العباسي في سامرا وبغداد، بل يتفوق عليه في الشياكة والعظمة. وفعلا مصر في الوقت ده بقت رمز للبذخ والترف، وده كان حديث الناس في كل البلاد الاسلامية. في الوقت اللي الدولة العباسية كانت بتعاني من ثورة الزنج والفتن اللي استنزفت أموالها، مصر كانت في قمة عظمتها الفنية. ومن حسن الحظ إننا لحد النهارده عندنا آثار وتحف من العصر الطولوني، مش بس اللي كتبته المصادر التاريخية عن عظمة الطولونيين. الفنون دي كانت بداية الابداع المعماري للي هييجي بعد كده في عصور مصر الإسلامية.

لما "أحمد بن طولون" استلم الحكم في مصر، بدأ يخطط لحاجة أكبر. في سنة 256 هجرية / 869 ميلادي، خرج لمحاربة "ابن الشيخ" في الشام، لكن جاله أمر من الخليفة إنه يرجع لمصر، وفعلا رجع - راجع الجزء التامن -  وبعد ما رجع قرر يعمل حاجة جديدة تماما. قال لنفسه ليه ما يكونش ليا مدينة خاصة بيا؟ حاجة تعبر عني وعن دولتي؟. قال "الكندي" في كتابه: "وابتدأ أحمد بن طولون في بنيان الميدان في شعبان سنة ستة وخمسين، وأمر بحرث قبور اليهود والنصارى وبنى موضعها". ومن هنا بدأ حلمه اللي هيغير خريطة مصر ويخليها تدخل عصر جديد. الفكرة إن "أحمد بن طولون" مكنش مجرد والي عادي، ده كان عنده رؤية، وكان شايف إن مصر تستحق أكتر من مجرد مقر حكم تقليدي. عشان كده شوفنا الفن الطولوني غير شكل الفنون الإسلامية.

لما "أحمد بن طولون" بنى القطائع وخلاها عاصمته، ده ما كانش معناه إنه هجر العسكر أو الفسطاط. مدينة العسكر ومدينة القطائع كانوا أشبه بضواحي بتكبر حوالين مدينة الفسطاط اللي فضلت المركز الرئيسي للحياة في مصر. الناس وقتها كانوا بيشوفوا العسكر والقطائع مدن مستقلة، لكن الحقيقة إنهم كانوا امتداد للفسطاط. حتى المباني الحكومية القديمة ما تهجرتش كلها. يعني عندك مثلا دار الإمارة اللي كانت مقر لحكام العباسيين في العسكر، اتحولت في عصر الطولونيين لديوان الخراج. أما "أحمد بن طولون" فقرر يبني عاصمته الجديدة في منطقة عند سفح جبل يشكر، شرق العسكر وشمال شرق الفسطاط، المكان اللي فيه دلوقتي القلعة وميدان صلاح الدين والدرب الاحمر والسيوفية لحد جامع أحمد بن طولون.

الحكمة في إنشاء القطائع كانت في بعدها عن أحياء العرب والمصريين. "أحمد بن طولون" كان عارف كويس إن جنده اللي جمعهم من خلفيات وأصول مختلفة ممكن يتسببوا في مشاكل لو اختلطوا بالتجار والناس العادية، وهو أتعلم من اللي حصل مع جند الخليفة العباسي "المعتصم" - راجع الجزء الرابع - في بغداد واللي خلاه يبني مدينة سامرا عشان يتجنب الفوضى. ومن هنا "أحمد بن طولون" قرر إنه يبدأ صفحة جديدة بعيدة عن الفسطاط والعسكر. فكرة تركه لدار الإمارة القديمة كانت جزء من توجهه للاستقلال عن العباسيين، وكمان لرغبته في إنه يكون عنده بلاط ينافس بلاط بغداد، بكل العظمة والترف اللي يحلم بيه أي حاكم.

القطائع كانت متقسمة تنظيم محترف. كل طائفة كان ليها منطقة خاصة بيها، وأتسمت على حسب اللي ساكنين فيها. فكان فيه قطيعة للروم، قطيعة للسودان، قطيعة للبزازين، وقطيعة للجزارين وغيرهم، وقطيعة بمعنى جزء أو منطقة أو حي. وعشان كده المدينة بقت معروفة باسم "القطائع" جمع قطيعة. والاسم والتخطيط ما كانوش غريبين، لإن تخطيط القطائع كان شبه مدينة سامرا اللي بناها "المعتصم"، واللي كان بيطلق عليها نفس الاسم "القطائع" برضو، باستثناء القصور الملكية.

القطائع المصرية مكنتش مجرد مدينة، دي كانت انعكاس لطموح "أحمد بن طولون" وشخصيته اللي بتدور دايمًا حوالين العظمة والتنظيم. مدينة بتقول: "أنا هنا، ومستقل، وعندي رؤية خاصة بيا، زيي زيكم وأعظم منكم!.

للأسف القصور الطولونية اللي كانت يوم من الأيام رمز للعظمة والترف ما فضلش منها غير حكايات ومعلومات في الكتب. كل القصور دي اتخربت وضاعت آثارها على ايد العباسيين بعد سقوط الدولة الطولونية، لكن بيقولوا في المصادر والمخطوطات إن مهندسيها كانوا ماشيين على نفس نهج قصور سامرا بتاعة الخلفاء العباسيين. قصر "أحمد بن طولون" نفسه كان حاجة فخمة جدا، بأبواب ضخمة وكل باب ليه اسم يدل على وظيفته أو الجهة اللي بيؤدي ليها.

كان فيه مثلا باب الميدان اللي بيمر منه الجند، وباب الخاصة للمقربين من الأمير، وباب الصوالجة اللي بيؤدي للميدان الكبير المخصص للعبة الصوالجة (رياضة زمان زي البولو كده)، وباب الحرم المخصص للنساء والخصيان، وباب الصلاة اللي بيوصل مباشرة لجامع أحمد بن طولون، وباب دعناج وباب الدرمون ودول على أسم الحراس المخصصين لحراسة البابين، وباب الجبل اللي بيطل على تلال المقطم، وباب السباع اللي كان على جنبيه سبعين كبيرين مصنوعين من الجبس، كأنها بوابة أسطورية جاية من أساطير ألف ليلة وليلة.

القطائع مكنتش مجرد مكان للأمير وخدمه ورجاله، دي اتوسعت بسرعة جدا وبقت مدينة كبيرة مليانة حياة. المؤرخين بيحكوا عن مساجدها، وحماماتها، والشوارع اللي كانت مليانة بالأفران والطواحين والمحلات والبيوت. لدرجة إن عمران القطائع امتد لحد ما بقت متصلة بالفسطاط نفسها، اللي هي مصر القديمة حاليا.

"أحمد بن طولون" مكنش عايز يخلي القطائع مدينة عسكرية، زي بغداد اللي بناها الخليفة العباسي "أبو جعفر المنصور" (136هجرية / 754ميلادي) عشان تبقى عاصمة العباسيين وحصن ضد أعدائهم. "أحمد بن طولون" كان بيدور على الإبداع والجمال في العمارة، زي الخليفة العباسي "المعتصم" لما بنى سامرا. "أحمد بن طولون" استقدم أمهر الصناع والفنانين المصريين عشان يعملوا من القطائع مدينة تنافس سامرا وبغداد في الفخامة. وفي نفس الوقت، كان مجهز خطط احتياطية، زي إنه عامل من جزيرة الروضة حصن ليه ولأسرته وفلوسه احتياطي لو حصلت أي أزمة كبيرة، زي ما حصل لما كان متوقع هجوم جيش "موسى بن بغا" على مصر، راجع الجزء العاشر.

وفي صيف سنة 1932 ميلادي، حفريات دار الآثار العربية لقت أطلال بيت طولوني في التلال القريبة من أبو السعود، ولقوا فيه زخارف جصية فخمة جدا، معروض جزء منها دلوقتي في متحف الفن الإسلامي. كمان الحفريات كشفت جدران بيت كبير معمولة بالآجر وعليها نفس الزخارف اللي شفناها في الجامع الطولوني. الناس في الأول كانوا فاكرين إن الأطلال دي ممكن تكون دار الإمارة، لكن المساحة الصغيرة للبيت خلتهم يستبعدوا الفكرة، مع إن الزخارف بتأكد إن البيت كان لواحد من كبار رجال الدولة.

للأسف، مع سقوط الأسرة الطولونية، المدينة الجديدة دي وقعت واتخربت. بس ذكراها لسه عايش لحد النهارده بفضل جامع أحمد بن طولون اللي فضل شاهد على عظمة الزمن ده، واللي هنحكي عنه بالتفصيل الجزء اللي جاي ان شاء الله.
(يتبع)
مروة طلعت 
14/12/2024
الجزء الأول
https://www.facebook.com/share/p/15S5pbGhCy/
الجزء الثاني 
https://www.facebook.com/share/p/19YH9rSbEb/
الجزء التالت
https://www.facebook.com/share/p/1G6MQJ8jPA/
الجزء الرابع
https://www.facebook.com/share/p/19fGndQh69/
الجزء الخامس
https://www.facebook.com/share/p/1Ax7r7wwx1/
الجزء السادس 
https://www.facebook.com/share/p/13yWSkeVUZ/
الجزء السابع
https://www.facebook.com/share/p/1E6qCSabMT/
الجزء التامن
https://www.facebook.com/share/p/1QLRXzSG7g/
الجزء التاسع
https://www.facebook.com/share/p/1BTtT4WQJk/
الجزء العاشر
https://www.facebook.com/share/p/1B45f1rFHr/
الجزء الحادي عشر
https://www.facebook.com/share/p/18GLuvDrf5/
الجزء الثاني عشر
https://www.facebook.com/share/p/15Fxh2G6mK/
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
#أحمد_بن_طولون
#القطائع
#السيرة_الطولونية
المصادر:
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ج2 ـ إبن تغري بردي.
الخطط المقريزية ج2 - المقريزي.
سير أعلام النبلاء الطبقة 15 - الامام الذهبي.
الطولونيون دراسة لمصر الاسلامية في نهاية القرن التاسع الميلادي - دكتور ذكي محمد حسن.
أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية - دكتور عبد العزيز سالم.
تاريخ مصر في عهد أحمد بن طولون - محمد كرد علي.
سيرة أحمد بن طولون - أبو محمد عبد الله محمد المديني البلوي.
أحمد بن طولون - دكتورة سيدة إسماعيل كاشف.
البداية والنهاية ج14 - ابن كثير.
مروج الدهب ومعادن الجوهر ج4 - المسعودي.
تاريخ الطبري ج9 - الامام الطبري.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الليث بن سعد 5

الليث بن سعد

الليث بن سعد 6