أحمد بن طولون 11

(11)  "أحمد بن طولون" كان طموحه مالوش حدود، ولما الخلافة العباسية ما قدرتش تأدبه، شاف إن دي فرصته عشان يوسع نفوذه. خاصة بعد ما مات "موسى بن بغا"، و"الموفق العباسي" كان مشغول بحرب الزنج، و"ابن طولون" كان عنده جيش قوي ومستعد لأي حاجة. إنما العقل بيقول مش كل باب ينفتح تدخل منه، وده اللي عمله "ابن طولون".

في الغرب كان حكام إفريقية (اللي هي تونس دلوقتي)، بني الأغلب في عز قوتهم، و"ابن طولون" كان ذكي وطبيعي مش هيدخل في حرب معاهم من غير حساب. أما الجنوب كانت بلاد النوبة حكاية تانية خالص، كل ما الجيش الاسلامي يفتحها ويادوب يلف يديهم ضهره، النوبيين يرجعوا يتمردوا - اللي قضى على التمردات دي خالص كان "الظاهر بيبرس البندقداري" زي ما حكينا في سلسلته قبل كده - غير إن الأراضي هناك كانت صغيرة ومواردها مش مغرية لحد عايز يبني إمبراطورية. مكانش قدامه غير الشام. 

على طول الزمان في كل العصور من أيام قدماء المصريين، الحكام الأقوياء في مصر كانوا لازم يضموا لهم  الشام عشان يأمنوا وادي النيل من غزو الأعداء. مصر والشام بينهم مصالح تجارية وحربية واحدة، وكأنهم مكملين لبعض، والتجارة والطريق العالمي كان بيمر منهم.

في سنة 261 هجرية / 874 ميلادية، رجع القلق والتمردات في الصعيد. فاكرين "ابن الصوفي" المتمرد على "ابن طولون" راجع الجزء التامن والتاسع - طلع يقاتل غريمه المتمرد التاني" العمري" في شمال النوبة، لكنه انهزم هزيمة قاسية وجنوده سابوه وهرب على أسوان. ومن هناك سافر لميناء عيذاب على البحر الأحمر ومنها راح مكة، لكن "أحمد بن طولون" مسابوش وطلع جيش يجري وراه ويجيبه، عشان يقطع دابره خالص وميطلعش زي فرقع لوز كل شوية بعصبة من الناس ويعملوا عليه تمرد. وفي الآخر اتقبض عليه ورجع مصر، وسجنه "أحمد بن طولون" لفترة، وبعدها نفاه وسابه يعيش في المدينة المنورة لحد ما مات.

أما "العمري"، فكان وجع راس كبير ل"ابن طولون". "العمري" كان مفتوح عليه النار من جهتين، بيقاتل في جبهتين، جبهة ضد الطولونيين في الشمال، وجبهة ضد النوبيين في الجنوب. "أحمد بن طولون" بعت جيشه يخلص عليه، لكن قائد الجيش استعجل في الهجوم وما اداش "العمري" فرصة يشرح موقفه. "العمري" بعت لقائد جيش الطولونيين يقوله إنه مش خارج عن الطاعة ولا متمرد، وإنه بيقاتل أعداء الإسلام مش أكتر، لكن قائد الجيش مسمعش منه الكلام ومهتمش، ودخل معاه في حرب.

القتال كان عنيف جدا، ورغم إن الطولونيين كانوا أكتر عدد، لكن "العمري" انتصر عليهم نصر كبير. "أحمد بن طولون" غضب جدا على قائد جيشه وخصوصا لما عرف طلب "العمري" للتواصل معاه لتوضيح موقفه ورفض قائد الجيش طلبه، فصرخ في وش قائد الجيش وقال له: "أن الله منح العمري النصر لأن قواد الجند الطولونيين كانوا مستبدين". لاحظ أن "أحمد بن طولون" أساسا بيميل أكتر لجلسات التفاوض  الدبلوماسية أكتر من الحروب المباشرة. وفي النهاية، برده الحظ لعب لعبته وخدم "أحمد بن طولون" الراجل المحظوظ دائما، وحصل خلاف وانشقاق في صفوف مريدين وحلفاء "العمري"، وكانت نهايته على ايد غلمانه اللي غدروا بيه وقتلوه، وبعتوا راسه للقطائع عاصمة حكم "أحمد بن طولون".

"أحمد بن طولون" كان سياسي محنك، ما بيخاطرش من غير حساب. مش كل حاجة كانت بالسيف، إنما بالفكر والسياسة. وكان شايف مصر إمبراطورية لازم حدودها تكون في أمان، وده اللي خلى طموحه يتجه للشام، وخصوصًا طرسوس، المدينة اللي قضا فيها جزء من شبابه وكان والي عليها - راجع الجزء التاني - وليها مكانة خاصة في قلبه.

 في سنة 264 هجرية / 878 ميلادية، توفى "أماجور" حاكم الشام، ساعتها حس "ابن طولون" إن برده الحظ خدمه وأن دي فرصته الذهبية لتوسيع نفوذه.

الخليفة العباسي "المعتمد على الله" كان أصلا مدي "ابن طولون" ولاية الثغور الشامية، لكن "ابن طولون" كان محتاج خطوة جريئة يثبت بيها سلطانه هناك. حاول يعين أخوه "موسى بن طولون" والي على طرسوس، لكن "موسى" رفض، فاضطر يعين حد تاني. المشكلة كانت إن حكم "ابن طولون" في المناطق دي ماكانش قوي كفاية، خصوصا بعد خطابه العنيف ل"الموفق" - راجع الجزء العاشر - اللي خلى الخليفة يعزله من مسؤولية ثغور الشام رسميا.

"علي بن أماجور" اللي ورث الحكم عن والده، مكنش عنده حكمة ولا شطارة أبوه، ف"ابن طولون" شاف إنها فرصته للاستيلاء على المنطقة، بس بالطبع ما كانش ينفع يدخلها كده من غير سبب. غالبا الأبناء بيبقوا أضعف من الأباء الا نماذج قليلة مختلفة، وكأن العز والرفاهية بتضعف والمحن هي اللي بتقوي الرجال، وده مش بس على مستوى أولي الأمر، ده على المستوي الشخصي والأفراد.

"أحمد بن طولون" لعبها صح، عمل نفسه عايز يحمي حدود الدولة الإسلامية ويجاهد ضد البيزنطيين في آسيا الصغرى. وكتب ل"علي بن أماجور" خطاب تعزية، وبلغه إنه جاي للشام، وطلب منه يجهز المؤن لجيشه الطولوني. "ابن أماجور" مكنش قد "ابن طولون" ولا جيشه، فاضطر يوافق ويخضع له.

"أحمد بن طولون" لما أخد جيشه وخرج من مصر على الشام ساب مكانه على مصر لابنه الكبير "العباس بن أحمد بن طولون" - وياريته ماسابه عليها - وعينه والي عليها ومعاه الواسطي كمستشار وكاتب. بعدها طلع "ابن طولون" على راس جيشه للشام، مستغل انشغال "الموفق" بحرب الزنج.

وهنا نسأل سؤال مهم: الخليفة العباسي "المعتمد" كان موقفه إيه من الحملة دي؟. "ابن طولون" كان بيحاول دايما يثبت قوته قدام الخليفة، وكان عايز يقاتل الروم من زمان عشان يظهر قوته وكفاءته. لكن وجود "الموفق" كان عامله زي الشوكة في زوره، مخلى الموضوع معقد.

لما "ابن طولون" قرر يتوسع في الشام، كان عارف إن النجاح مش بس بالجيوش، لكن كمان بكسب قلوب الناس. كانت أول محطة ليه، مدينة الرملة في فلسطين، وهناك استقبله حاكمها "محمد بن رافع" بترحاب كبير وقدم له فروض الطاعة، من حبا فيه ده عشان برده عارف أنه مش قده ويخدش في ايده غلوة. "ابن طولون" بحنكته، حب يكسب الولاء، فثبّت "محمد بن رافع" في حكمه، ودي كانت أول خطوة لتوطيد نفوذه في الشام.

اتحرك "ابن طولون" على دمشق، وهناك استقبله "علي بن أماجور" ومعاه "أحمد بن دوغباش"، الوصي على "علي بن أماجور" لصغر سنه. واحتراما لهيبة "ابن طولون"، نزل الاتنين من على خيولهم قدامه أول ما وصل، وأمروا بالدعاء له في المساجد - عادة الدعاء في المساجد دي بتكون للحكام والخلفاء وبكده يكون أعتراف رسمي منهم بسيادة "ابن طولون" على دمشق - "ابن طولون" شاف إن "ابن دوغباش" أحق بالحكم من "علي" اللي لسه صغير، فعينه والي على الإقليم.

الحقيقة إن شخصية "ابن طولون" كانت مؤثرة - كان له كاريزما - لدرجة إنه كسب دعم كتير من المتطوعين، منهم ناس كانوا تابعين ل"أماجور" الراحل. بعد كده المدن واحدة ورا التانية خضعت ليه بسلمية، حمص، حماة، وحلب، من غير ما يضطر لحروب، كله على طاولة المفاوضات.

لكن الوضع كان مختلف في أنطاكية، لأن حاكمها "سيما الطويل" قرر ما يخضعش ل"ابن طولون". "سيما" كان قائد تركي، شايف إنه قوي كفاية، خصوصا إن أنطاكية مدينة حصينة بأسوارها، وجيشها كان كبير. "ابن طولون" في الأول وكعادته بعتله رسالة يعرض عليه الخضوع مقابل تثبيته في ولايته، لكن "سيما" رفض.

اضطر "ابن طولون" يحاصر المدينة، وكان الحصار صعب بسبب قوة الأسوار. ومع طول مدة الحصار السكان نفسهم تعبوا من الوضع. فكروني بالراعي اللي سلم "تشي جيفارا" للأمريكان، كان حجته أنه خاف على معيزه من صوت الغارات والقنابل. مجموعة من الناقمين على "سيما" قرروا يساعدوا "ابن طولون"، ودلوه على نقطة ضعف في الأسوار. وفي سنة 265 هجرية / 878 ميلادي، دخل "أحمد بن طولون" أنطاكية، وأمر بإعدام "سيما الطويل"، وأعلن أهل أنطاكية الطاعة ل"ابن طولون".

بعد ما سيطر "أحمد بن طولون" على مدن الشام، كان طبيعي جدا إن خطوته الأخيرة تكون طرسوس، المدينة اللي قضى فيها وقت من شبابه وسط العلماء والمجاهدين. طرسوس كانت مدينة عزيزة عليه، مليانة ذكريات ومواقف محفورة في باله. لما دخلها، زي ما بيحكي المؤرخ "ابن الداية"، دخل بـ"خلق كتير وعز منيع"، لكن للأسف، الأمور ما كانتش كلها وردية.

من المواقف المؤثرة في دخوله طرسوس، زيارته لصديق قديم من الصوفية. "ابن طولون"، رغم منصبه وسلطانه، ما نسيش صاحبه وراحله بنفسه. لكن للأسف، الصديق ما كانش مبسوط من اللي وصل له "ابن طولون"، شاف إن طموحه وسعيه للسلطة خلاه بعد عن طريق الدين. متنساش أن "أحمد بن طولون" كان في بدايته مشروع عالم فقيه، وأختار وجوده في طرسوس بالذات عشان كانت مليانة بعلماء الفقة والسنة وعلوم الحديثن لكن سبحانه مقلب القلوب. صديق "ابن طولون" القديم قاله لما شافه: "ما الذي أنكرت من ربك حتى شردت عنه هذا التشريد؟! انك مع تباعدك منه لم تخرج من قبضته، فارحم نفسك من تحميلها ما لا تحتمل".

دخوله طرسوس ما عداش بهدوء. المؤرخ "الكندي" بيحكي إن وجوده بجنوده في المدينة خلا الأسعار تغلى والناس تضطرب، لدرجة إن أهل طرسوس نفسهم قاموا عليه ورفضوا وجوده، رغم أنه كان واليهم المحبوب قبل كده، بس شتان بين شخصيته زمان ودلوقتي.ابن طولون" ساعتها اضطر يحاربهم، بس في الوقت نفسه أستغل الحرب دي لمصلحة تانية خالص، راجل بيحب يستغل كل الفرص، وكأنه بيحلبها لأخر مداها لمصلحته.

أمر "أحمد بن طولون" جنوده إنهم يتظاهروا بالهزيمة قدام أهل طرسوس. فيه حد عاقل يعمل كده، أيوه السياسة تعمل أكتر من كده. "أحمد بن طولون" كانت عينه ع الناحية التانية من شط طرسوس، مش باصص تحت رجليه، كان هدفه يخلي إمبراطور الروم يفتكر إن جيوشه، رغم قوتها، انهزمت في طرسوس. الخطوة دي كانت ذكية عشان يمنع الإمبراطور من الاستخفاف بالمدينة ويحميها من أي هجوم بيزنطي.

"أحمد بن طولون" رغم كل اللي حققه، كان دايما بيلاقي تحديات جديدة، سواء من أعداء برة أو حتى أقرب الناس ليه جوة. ورغم كده، فضل دايما ذكي في تصرفاته، عارف إمتى يحارب، وإمتى يتراجع، وإمتى يستخدم الحيلة. قصته في طرسوس بتأكد إنه مش مجرد قائد عسكري، لكنه كمان سياسي محنك بيقدر يشوف الصورة الكبيرة.

"أحمد بن طولون" كالعادة ما وقفش عند حدود طرسوس. جيوشه بقيادة "أحمد بن جيغويه" وصلت حران، وجيوش تانية بقيادة "لؤلؤ" وصلت الرقة. كانت خطته إنه يبدأ غزو جديد ضد البيزنطيين، لكن الحلم ده ما كملش. في مصر سنة 265 هجرية / 879 ميلادية، وهو بيخطط لتوسعاته جاله خبر ثورة ابنه "العباس" عليه في مصر. 
(يتبع)
مروة طلعت 
8/12/2024
الجزء الأول
https://www.facebook.com/share/p/15S5pbGhCy/
الجزء الثاني 
https://www.facebook.com/share/p/19YH9rSbEb/
الجزء التالت
https://www.facebook.com/share/p/1G6MQJ8jPA/
الجزء الرابع
https://www.facebook.com/share/p/19fGndQh69/
الجزء الخامس
https://www.facebook.com/share/p/1Ax7r7wwx1/
الجزء السادس 
https://www.facebook.com/share/p/13yWSkeVUZ/
الجزء السابع
https://www.facebook.com/share/p/1E6qCSabMT/
الجزء التامن
https://www.facebook.com/share/p/1QLRXzSG7g/
الجزء التاسع
https://www.facebook.com/share/p/1BTtT4WQJk/
الجزء العاشر
https://www.facebook.com/share/p/1B45f1rFHr/
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
#أحمد_بن_طولون
#القطائع
#السيرة_الطولونية
المصادر:
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ج2 ـ إبن تغري بردي.
الخطط المقريزية ج2 - المقريزي.
سير أعلام النبلاء الطبقة 15 - الامام الذهبي.
الطولونيون دراسة لمصر الاسلامية في نهاية القرن التاسع الميلادي - دكتور ذكي محمد حسن.
أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية - دكتور عبد العزيز سالم.
تاريخ مصر في عهد أحمد بن طولون - محمد كرد علي.
سيرة أحمد بن طولون - أبو محمد عبد الله محمد المديني البلوي.
أحمد بن طولون - دكتورة سيدة إسماعيل كاشف.
البداية والنهاية ج14 - ابن كثير.
مروج الدهب ومعادن الجوهر ج4 - المسعودي.
تاريخ الطبري ج9 - الامام الطبري.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الليث بن سعد 5

"ان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فأعبدون" الجزء الأول

هل تعلم أن جدك الأكبر كان من آكلي لحوم البشر؟