أحمد بن طولون 10

(10) "أحمد بن طولون" قعد يفكر في الخطوة الجاية بعد ما وصل له رسالة شديدة اللهجة من "الموفق". الرسالة كان واضح فيها نبرة التهديد، وكان لازم ياخد قرار سريع ومؤثر. فقرر "ابن طولون" يعقد مجلس حربي مع أعوانه ورجال الدين في البلد، ويكتب رد قوي على رسالة "الموفق".

رد "ابن طولون" مكانش مجرد كلام والسلام، كان قطعة أدبية بجد، مليانة براعة وذكاء، وبيوضح مهارة كاتبه، اللي خلت الرسالة مش بس قوية في محتواها، لكن كمان ذكية في طريقة صياغتها. كانت اللحظة دي بداية لصراع جديد، وقرار "ابن طولون" ده كان خطوة بتقول إنه مش هيقف ساكت قدام أي تهديد.

رغم كل المؤامرات اللي كان بيعملها "الموفق" ضد "أحمد بن طولون"، إلا إن "ابن طولون" أثبت إنه رجل دولة بمعنى الكلمة. مش بس اكتفى بالدفاع عن نفسه، ده كمان كان كريم جدا في تعامله مع "الموفق". بعت له مال وخيل وأقمشة، عشان يخفف عن الدولة العباسية اللي كانت بتواجه خطر كبير من تمرد الزنج. "ابن طولون" كان شايف إن مصلحة الدولة فوق كل حاجة، حتى لو كان في خلاف مع "الموفق".

لكن للأسف، "الموفق" بدل ما يقدّر اللي عمله "ابن طولون"، رجع كتب له رسالة شديدة اللهجة، مليانة تهديد وعتاب، وبيطلب منه أموال أكتر، وبيقلل من اللي عمله قبل كده.

هنا رد "أحمد بن طولون" برسالة طويلة ومؤثرة، كتبها كاتب محترف بأسلوب مهذب لكن لاذع في نفس الوقت. الرسالة دي مكنتش بس مجرد رد، كانت توضيح لفضل "ابن طولون" على الدولة العباسية، وازاي هو واقف جنبها وبيحميها، لكن "الموفق" مش قادر يواجه الخطر الحقيقي اللي هو تمرد الزنج. عاتب "ابن طولون" في الرسالة "الموفق" وفي نفس الوقت بأسلوب حازم، وفكره إن القوة والجند في إيده، وإنه بيدافع عن العباسيين بإخلاص رغم كل اللي بيتعرض له من جفاء.

"أحمد بن طولون" كتبله في رسالته وقاله: (على اني لا اعرف السبب الذي يتيح الوحشة ويوقعها، ولا الأمر الذي يدعو إليها ويوجبها إذ لم يكن بيني وبينه معاملة توقع مشاجرة أو تحددت منافرة، وكان العمل الذي انا بسبيله ليس له، والمكاتبة في أموره ليست اليه، وتقليدية ليس من قبله ولا ولاته، والأمير قد قسم الاعمال والعمال، وصار لكل واحد قسم تفرد له دون صاحبه، وعمل تجرى عليه دون غيره، وشرط لكل منهما في وقت أخذ البيعة يتولى أموره من نصيبه المخصص له. وكان ما عاملني به الأمير، على ما انا بسبيلا من قبل غيره من تجهيز الجيوش نحوي، وأعمال الحيل في إفساد عملي، ناقضا لشرطه، ومفسدا لعهده).

الرسالة اللي كتبها "أحمد بن طولون" ل"الموفق" تعتبر واحدة من أكتر الوثائق اللي بتكشف مش بس عن السياسة في عصره، لكن كمان عن شخصيته كحاكم قوي وعارف هو بيعمل إيه. "أحمد بن طولون" هنا كان بيعاتب بشكل واضح على طريقة تعامل "الموفق" معاه، بكلام من حاكم فاهم قواعد اللعبة ومش هيسيب حد يتجاوز حدوده.

الرسالة بتظهر "الموفق" شخص بيستخدم أساليب مش نزيهة عشان يضيق الخناق على "ابن طولون"، زي تجهيز جيوش ضده ومحاولات تخريب أعماله. وده كان بالنسباله خيانة واضحة للاتفاقات اللي اتعملت وقت أخذ البيعة. "أحمد بن طولون" كان شايف إن ده تصرف بيقلل من مصداقية "الموفق"، وبيظهره شخص ناقض لكلامه ومش بيحترم كلمته.

من أسلوب الرسالة، تقدر تحس قد إيه "أحمد بن طولون" كان حاكم ذكي وبيعرف يتكلم بأسلوب دبلوماسي قوي. هو مش بيهاجم "الموفق" بشكل مباشر، لكن بيحطه قدام مراية أفعاله، كأنه بيقوله شوف إنت بتعمل إيه ومقارنته بالكلام اللي قلته في الأول. الرسالة كمان بتبين إن "ابن طولون" مش بس حاكم عسكري، لكنه كمان سياسي بيعرف إزاي يدير الأمور بالكلام قبل السيف.

الرسالة دي مثال واضح عن أهمية الالتزام بالاتفاقات واحترام العهود في إدارة الدولة. "أحمد بن طولون"، رغم قوته العسكرية، كان بيعتمد في الأول على الدبلوماسية، وده بيدل على إنه كان فاهم إن الحاكم الحقيقي هو اللي بيكسب ولاء الناس واحترامهم قبل ما يفرض قوته عليهم.

رسالة "أحمد بن طولون" ل"الموفق" كانت حاجة مختلفة تماما عن اللي اتعودنا عليه من رسايل ولاة الدولة العباسية. "ابن طولون" ما اتكلمش بلغة متواضعة زي ما كان متوقع، ده رد بلغة أمير عارف قوته ومسيطر على أموره. كان واضح إنه بيهاجم "الموفق" من نقطة ضعفه الأساسية، اللي هي وضعه القانوني ما يسمحش له يتدخل في شؤون القسم الغربي من الدولة.

كمان "ابن طولون" بذكاء ركز في رسالته على إظهار "الموفق" كأنه ناقص لشروط البيعة، وده كان ضربة قوية من الناحية السياسية. بس طبيعي بعد الرد الناري ده إن الأمور ما توقفش عند الكلام. بدأت مواجهة قوية بينهم، لكنها مش مجرد خلاف شخصي بين أميرين، دي كانت معركة بين سلطة مركزية بتحاول تفرض سيطرتها على كل الولايات الإسلامية، وسلطة إقليمية بتدافع عن حقها في الاستقلال.

"الموفق" بدأ الهجوم أولا، وحاول يضفي الشرعية على أفعاله. لجأ إنه ياخد موافقة الخليفة "المعتمد" أو يدّعي إن وصاية "موسى بن بغا" على "جعفر المفوض" - مسؤول الاقاليم الغربية - بتدي أعماله صفة قانونية.

لما وصل رد "ابن طولون" ل"الموفق"، الغضب كان شديد، ووصل لدرجة إن الخليفة "المعتمد خاف من غضب أخوه "الموفق" وقرر أنه يهديه بعزل "ابن طولون" عن العواصم والثغور. الموقف ده بيوضح إزاي السياسة وقتها كانت معركة مفتوحة بين القوة والشريعة، وبين مركزية الدولة واستقلال الولايات.

هنا أتحرك "موسى بن بغا" بجيشه ناحية مصر، فالكلام لحد هنا خلاص انتهى ولازم ينتقل لمواجهة عى أرض الواقع. لما وصل ل"ابن طولون" خبر إن "موسى بن بغا" بيتقدم بجيشه ناحيته، بدأ يتحرك بسرعة لتحصين مصر وتأمينها. لكنه، بذكاء وحذر، ما اختارش يبدأ الهجوم بنفسه أو يعلن العصيان بشكل مباشر. يمكن كان شايف إن التوقيت مش في صالحه، أو كان بيحاول يظهر للشعب إنه مش هو اللي بيبدأ الصراع، وإن السلطات في العراق هي اللي عايزة تحاربه.

ورغم كده، استمر في تجهيز جيشه واستعداداته الحربية، لكنه فضل كمان بيبعت  المراسلات مع الحكومة المركزية في العراق على أمل إنه يحسم النزاع من غير حرب. وسبحان الله الحظ لعب معاه المرة دي كمان لعبته لصالحه - واضح أنه كان بار اوي بأمه وكانت دعياله - جيش "موسى بن بغا" أول ما وصل لبرقة، حصل فيه اضطراب كبير، والجنود ثاروا علشان مرتباتهم المتأخرة. "موسى" أدرك إنه مش هيقدر يهزم "ابن طولون" بجنود في حالة تمرد، فانسحب واعتزل في العراق، ومات بعدها بشهرين.

بفشل الجيش في الوصول لمصر، "ابن طولون" أصبح الحاكم الفعلي للبلاد، وسيطر بشكل كامل على وادي النيل. وخلال الأزمة دي، كان "ابن طولون" بنى في جزيرة الروضة حصن لأسرته وللكنوز اللي جمعها، وجهز أسطول لحماية العاصمة، لكنه وقف العمل في المشاريع دي بمجرد ما عرف إن جيش "ابن بغا" تفرق.

الحروب المرهقة اللي كانت على "الموفق" بسبب حروب الزنج أجبرته يتراجع عن طموحاته في السيطرة على مصر. وده كان نقطة تحول مش بس في حياة "ابن طولون"، لكن كمان في تاريخ مصر الإسلامية.

اللي بيذهل في الموضوع إن "ابن طولون"، اللي بدأ كوالي بسيط سنة 254 هجرية / 868 ميلادية، قدر في خلال خمس سنين يبقى أمير قوي محدش يقدر ينازعه، حتى "الموفق" نفسه اللي كان في إيده السلطة الفعلية للخلافة. "ابن طولون" بفضل جيشه القوي ونظامه المالي المنظم منع الحكومة المركزية من فرض سيطرتها عليه. وفي نفس الوقت، الحكومة المركزية كانت منهكة بسبب ثورة الزنج ومطالب الجند الترك في ظل خزينة شبه فاضية. العبقرية بقى إن رغم كل ده، ورغم مشاريعه الاستقلالية، "ابن طولون" خفف الضرائب عن الشعب، وده خلاه يكسب تأييد الناس ويثبت أقدامه أكتر.
(يتبع)
مروة طلعت 
7/12/2024
الجزء الأول
https://www.facebook.com/share/p/15S5pbGhCy/
الجزء الثاني 
https://www.facebook.com/share/p/19YH9rSbEb/
الجزء التالت
https://www.facebook.com/share/p/1G6MQJ8jPA/
الجزء الرابع
https://www.facebook.com/share/p/19fGndQh69/
الجزء الخامس
https://www.facebook.com/share/p/1Ax7r7wwx1/
الجزء السادس 
https://www.facebook.com/share/p/13yWSkeVUZ/
الجزء السابع
https://www.facebook.com/share/p/1E6qCSabMT/
الجزء التامن
https://www.facebook.com/share/p/1QLRXzSG7g/
الجزء التاسع
https://www.facebook.com/share/p/1BTtT4WQJk/
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
#أحمد_بن_طولون
#القطائع
#السيرة_الطولونية
المصادر:
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ج2 ـ إبن تغري بردي.
الخطط المقريزية ج2 - المقريزي.
سير أعلام النبلاء الطبقة 15 - الامام الذهبي.
الطولونيون دراسة لمصر الاسلامية في نهاية القرن التاسع الميلادي - دكتور ذكي محمد حسن.
أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية - دكتور عبد العزيز سالم.
تاريخ مصر في عهد أحمد بن طولون - محمد كرد علي.
سيرة أحمد بن طولون - أبو محمد عبد الله محمد المديني البلوي.
أحمد بن طولون - دكتورة سيدة إسماعيل كاشف.
البداية والنهاية ج14 - ابن كثير.
مروج الدهب ومعادن الجوهر ج4 - المسعودي.
تاريخ الطبري ج9 - الامام الطبري.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الليث بن سعد 5

"ان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فأعبدون" الجزء الأول

هل تعلم أن جدك الأكبر كان من آكلي لحوم البشر؟