أحمد بن طولون
(1) في مصر زمان، كل حاكم كان بيسيب بصمته، بس قليل منهم اللي تاريخهم عاش بعد مئات السنين بنفس القوة. "أحمد بن طولون" كان من النوعية دي، شخصية بتمزج بين القوة والحنكة والغموض، راجل بدأ من الصفر وبنى دولة بقت من أقوى دول زمانها. مش بس كده، ده كمان بنى مدينة كاملة (القطائع) وعمل جامع بن طولون اللي لسه شايفينه واقف شاهد على عبقريته. في السلسلة دي هنرجع بالزمن، ونعرف إزاي "أحمد بن طولون" صنع مجده، وإيه هي حكاية مصر اللي اتحولت على إيديه.
"أحمد بن طولون" من الشخصيات المهمة والمميزة اللي تستاهل الدراسة ومعرفة تاريخه، فهو مؤسس أول دولة مستقلة في مصر، من أيام أنتصار "أغسطس قيصر" على الملكة "كليوباترا" في موقعة أكتيوم البحرية سنة 31 قبل الميلاد، اللي من بعدها بقت مصر تابعة للإمبراطورية الرومانية، وتوالت التبعات على مصر لحد حركة "أحمد بن طولون" الاستقلالية الجريئة.
الأول نسمي الله ونصلي على النبي الهادي، يا سامعين الحكاوي وحواديت زمان، تعالوا نعيش مع بعض في الحواديت ونحكي عن الشجعان.
في سنة 200 هجرية / 815 ميلادية، "نوح بن أسد بن سامان" واللي كان في الوقت ده موظف مسؤول عن الرقيق في بيت مال خراسان، في زمن الخليفة العباسي "عبد الله المأمون بن هارون الرشيد" (المولود في 15 ربيع الأول 170 هجرية – 14 سبتمبر 786 / والمتوفي في 18 رجب 218 هـجرية – 8 أغسطس 833 م). قدم "نوح بن أسد" تقارير خراسان الدورية للخليفة في بغداد، وقدمله كمان بعض الهدايا من خراسان، واللي كان من ضمنها "طولون" مولى "نوح بن أسد" بعد ما أعتقه وقدمه هدية لخدمة الخليفة "المأمون" في البلاط العباسي.
قبل ما ننتقل من النقطة دي عاوزة بس أوضح صورة الحدث، ف"نوح بن أسد" ده كان الأخ الكبير للأشقاء الأربعة ولاد "سامان بن خدات"، والأخوات الأربعة دول كانوا فرس مسلمين، وهو ومن بعده أخواته اللي أسسوا "الدولة السامانية" سنة 819 ميلادية، ودي كان مكانها دلوقتي بعد توسعاتها في أقصى أتساع ليها في أفغانستان، وأجزاء واسعة من إيران، وطاجكستان، وتركمنستان، وأوزبكستان، وقيرغيزستان، وأجزاء من كازاخستان، وباكستان. ودولتهم قامت بمباركة الخلافة العباسية وتحت وصايتها، نظير قدرتهم على قمع التمردات اللي حصلت ضد الخلافة هناك، وحمايتها من البدو الوثنيين الأتراك اللي كانوا عايشين جنب حدود "الدولة السامانية".
يعني نقدر نقول أن مجئ "نوح بن أسد" وهداياه للخليفة "المأمون" كان تقرب، ونوع من أكل لحم الكتوف، في وقت كان فيه النقطة الأولى لبداية تفسخ الخلافة العباسية. وأختيار "نوح بن أسد" ل "طولون" بالذات كان أختيار دقيق وموفق، عشان كان عارف ذوق الخليفة "المأمون" في خدمه وتابعيه. "طولون" كان مملوك من أصل تركى من أهل طغزغز في منغوليا - الترك كانوا عايشين في الوقت ده بنظام قبلي زي الأعراب في خيام في مناطق شرق ووسط آسيا - وأسمه معناه بالتركية "البدر الكامل". "طولون" كان طفل وقتها، بس كان محارب - راجع جزء النظام العسكري للمماليك في سلسلة "السلطان الظاهر بيبرس" هتعرف أن طفل 14 سنة سنة بيحارب عادي - وكانت مواهبة وقدراته القتالية عالية، عصب يعني، والنوع ده من المماليك كان بيحبه الخليفة "المأمون".
سامعاك ياللي بتقول هو كان فيه مماليك وقتها؟! أيوه كان فيه بس مش دول بتوع "الدولة المملوكية"، وقتها كان بداية تقليعة شرا العبيد وتحويلهم لمماليك، كانوا موجودين بس مش بكثرة، كان لسه فيه العصبية تجاه العرق العربي الهاشمي الخالص في الجيش وبلاط الحكم، لما كتروا بقى والفرس والترك وغيرهم، وتخللوا بكترة، ضعفت الدولة العباسية وتفسخت.
بمرور الأيام والسنين، أظهر "طولون" كفاءة ومهارة كبيرة في خدمة الخليفة، لدرجة لفتت نظر الخليفة نفسه وبقى مبهور بيه، فرقاه في الجيش، وفضل يرقيه، لحد ما وصل لوظيفة رئيس الحرس الخصوصي بتاع الخليفة ذات نفسه. كبر "طولون" وأتجوز جارية من جواري الخليفة، أسمها "هاشم أو قاسم". وفي (رمضان سنة 220 هجرية / سبتمبر 835 ميلادية)، ولدتله أبنه البكر "أحمد بن طولون".
الحقيقة أن أعداء "أحمد بن طولون" ومهاجمينه، خاضوا كتير في نسبه، وشككوا أنه ابن "طولون" يعني مش مولود حر من أساسه. فرقة من المشككين قالوا أنه كان مجرد عبد و"طولون" أتبناه. وفرقة تانية قالت أنه ابن "يلبخ التركي" وأمه "قاسم" جارية "طولون". حتى الحكايات الشعبية المصرية، أتنسجت وطالت نسب "أحمد بن طولون". فيه حكاية كتبها "بن تغري بردي" في كتابه "النجوم الزاهرة"، ونسبها المؤرخ لحكايات المصريين اللي بيحكوها في الشوارع، فقال:
(قال بعض المصريين إن طولون تبناه لما رأى فيه من مخايل النجابة. ودخل عليه يوما وهو صغير، فقال: بالباب قوم ضعفاء فلو كتبت لهم بشئ! فقال له "طولون": أدخل إلى المقصورة وأتني بداوة، فدخل أحمد فرأى بالدهليز جارية من حظايا طولون قد خلا بها خادم، فأخذ أحمد الدواة وخرج ولم يتكلم، فحسبت الجارية أنه يسبقها إلى طولون بالقول، فجاءت إلى طولون وقالت: إن أحمد راودنى الساعة في الدهليز، فصدقها طولون، وكتب كتابا لبعض خدمه يأمره بقتل حامل الكتاب من غير مشورة، وأعطاه لأحمد وقال: أذهب به إلى فلان، فأخذ أحمد الكتاب ومر بالجارية، فقالت له: إلى أين؟. فقال: في حاجة مهمة للأمير في هذا الكتاب، فقالت: أنا أرسله، ولي بك حاجة. فدفع إليها الكتاب فدفعته إلى الخادم المذكور وقالت له: أذهب به إلى فلان. وشاغلت أحمد بالحديث، أرادت بذلك أن يزداد عليه الأمير طولون غضبا. فلما وقف المأمور على الكتاب قطع رأس الخادم وبعث به الى طولون، فلما رآه عجب واستدعى أحمد وقال له: أصدقني ما الذي رأيت في طريقك إلى المقصورة. قال: لا شئ. قال طولون: اصدقني وإلا قتلتك. فصدقه الحديث، وعلمت الجارية بقتل الخادم فخرجت ذليلة، فقال لها طولون: اصدقيني. فصدقته فقتلها، وحظى أحمد عنده).
لو بصينا لحكاية المصريين دي هنحس فيها بحكاية سيدنا "يوسف" والعزيز، حاجة كده مستمدة من القرآن الكريم، ومن التراث المصري للحكايات. لكن اللي نفى كل الأدعاءات دي، في التشكيك في بنوة "أحمد" ل "طولون"، وخلاها مجرد أباطيل ومكايدات، هي شتيمة "الموفق" ل"أحمد بن طولون"، حاجة غريبة صح. "الموفق" يبقى "الموفق بالله أبو أحمد طلحة بن المتوكل"، أخو الخليفة العباسي "المعتمد على الله"، واللي كان أشد أشد أعداء "أحمد بن طولون". فمرة من المرات اللي شتم فيها "أحمد بن طولون" ولعنه نسبه لإبن "طولون" عادي كإبن، وده راجل عايش طول عمره في القصر العباسي وعارف أصل وفصل كل اللي فيه. يبقى أي أقاويل تانية تتقال في نسب "أحمد بن طولون" هو مجرد تشويه وتقليل منه وغيرة من شأنه.
كبر "أحمد بن طولون" في البلاط العباسي، وسط الجنود والأمراء، ونشأ على المذهب السنى الحنفي - مذهب الإمام أبي حنيفة - وحفظ القرآن الكريم بالكامل من صغره، وكان صوته حلو جدا في تلاوة القرآن، وكان عنده شغف كبير في طلب العلم، وميال لعلوم الدين والتعلم أكتر من فنون القتال، وده السبب اللي خلاه بعيد عن الدسائس والمؤامرات والانقلابات في القصر العباسي، اللي حصلت في الوقت ده، لفترة طويلة، وكأنه ترتيب رباني له أنه ميتاخدش في الرجلين وهو لسه عضمه طري منشفش كفاية.
في سنة (240 هجرية / 854 ميلادية)، بيتوفي "طولون"، ويسيب ولاده الاتنين "أحمد" و "موسى" مع أمهم "قاسم". ومن عادة الجند الأتراك لما بيموت رئيسهم، الرئبي من بعده بيتجوز أرملة اللي مات، كنوع من صون العهد عشان يحفظله أولاده. وعشان كده أتجوزت "قاسم" أرملة "طولون" من بغا الأصغر"، وبعد وفاته أتجوزت لتالت مرة من "باكباك" وكلهم كانوا أمراء حراس الخليفة العباسي. وبكدة فضل "أحمد بن طولون" عايش في البلاط العباسي، ومشمول برعاية وأهتمام وتربية الجند الأتراك تلاميذ والده "طولون"، لحد ما أتجوز من "خاتون بنت يارجوخ"، بنت أعز أصدقاء أبوه، وكان بيطلق عليه لقب العم، عشان كده المؤرخين قالوا عليها بنت عمه. وفي سنة (242 هجرية / 876 ميلادية) ولدت "خاتون" أبن "أحمد بن طولون" البكر "العباس".
(يتبع)
مروة طلعت
19/11/2024
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
#أحمد_بن_طولون
#القطائع
#السيرة_الطولونية
المصادر:
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ج2 ـ إبن تغري بردي.
الخطط المقريزية ج2 - المقريزي.
الطولونيون دراسة لمصر الاسلامية في نهاية القرن التاسع الميلادي - دكتور ذكي محمد حسن.
أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية - دكتور عبد العزيز سالم.
تاريخ مصر في عهد أحمد بن طولون - محمد كرد علي.
سيرة أحمد بن طولون - أبو محمد عبد الله محمد المديني البلوي.
أحمد بن طولون - دكتورة سيدة إسماعيل كاشف.
تعليقات
إرسال تعليق