أحمد بن طولون 5

(5) لما بنرجع بالتاريخ، مصر دايما ليها وضعها الخاص، مش بس علشان "أم الدنيا"، لكن كمان لأنها كانت دايما محور للحضارات ونقطة وصل بين الشرق والغرب. بس خلينا نفكر، إيه اللي بيحصل لما بلد زي مصر تقع تحت حكم أنظمة مش مصرية؟. مصر كانت بتتنقل بين أيدين حكام ومراكز سلطة خارجية. العباسيين كانوا مثال واضح، مركز الحكم بتاعهم في بغداد أو سامرا، ومصر بالنسبة لهم كانت أشبه بمحفظة مليانة فلوس بتمول الخلافة. حتى نظام الحكم اللي اتفرض وقتها ما كانش موجه لشعب مصر نفسه على قد ما كان مجرد وسيلة لضمان السيطرة عليها واستغلال مواردها.

لما العرب فتحوا مصر، كان شكل الحكم مختلف تماما عن اللي جه بعدها. الخلفاء الراشدين وبعدين الأمويين كانوا بيعتمدوا على ولادهم العرب في إدارة البلاد. "عمرو بن العاص" مثلا، كان راجل بسلطان ملك، ولو شفت دور "عبد العزيز بن مروان" ـ أبو "عمر بن عبد العزيز" ـ كوالي على مصر هتلاقيه كان عنده شبه حكم مستقل، الحرية كانت كبيرة، بس في النهاية كله بيصب في مصلحة الخلافة.

إنما مع وصول العباسيين، الوضع اختلف. العباسيين، زي ما اتكلمنا قبل كده، اعتمدوا بشكل كبير على الفرس، وده خلى ولادهم على مصر ياخدوا نفس طابع أولاد العرب قبل كده، وآخر والي عربي على مصر كان "عنبسة بن إسحاق". بعدها بدأنا نشوف ولاة من الفرس، وبعدين الترك لما الخليفة العباسي "المعتصم" زود عددهم في الجيش وتغلغل نفوذهم في كل مكان.

العباسيين كانوا خايفين من فكرة الاستقلال، وده كان واضح جدا. مقر الحكم بعيد عن مصر – في بغداد وسامرا – فكان صعب إنهم يسيبوا والي قاعد كتير في مكانه عشان ما يقلبش عليهم. بدل ما يمسك البلاد زي أي والي عادي، ممكن يفكر يبني نفوذه ويستقل بالحكم. عشان كده، الخلفاء العباسيين كانوا بيغيروا الولاة بسرعة، والمدة اللي بيقعدوا فيها كانت قصيرة جدا.

العباسيين ما اكتفوش بتغيير الولاة، كمان استخدموا البريد كوسيلة تجسس عشان يتأكدوا إن كل حاجة ماشية زي ما هما عايزين. لكن للأسف – أو من حسن حظ مصر – الخطة دي ما جابتش نتيجة، ليه؟ لأن سياسة الإقطاع اللي ابتدعوها من أيام الخليفة العباسي "هارون الرشيد" قلبت عليهم الترابيزة.

إيه هي سياسة الإقطاع؟ ببساطة، الخلفاء كانوا بيقسموا أراضي أو أقاليم معينة لبعض الشخصيات الكبيرة مقابل إنهم يدفعوا مبلغ معين للخلافة. الفكرة في الأول كانت ماشية، بس مع الوقت، الناس دي بدأت تحس إنها ليها الحق الكامل في الأرض أو الإقليم، وده شجع على فكرة الاستقلال اللي العباسيين كانوا خايفين منها أصلا.

مصر ماكانتش بلد سهلة إنها تتسيطر عليها بشكل كامل، وده بان بوضوح في وقت العباسيين، خصوصا لما حصل الخلاف الكبير بين الخليفة الأمين والمأمون. الفترة دي كانت فرصة ذهبية لأي حد عايز يمسك حكم البلد، وفعلا مصر قربت جدا إنها تستقل وتبقى برا سيطرة العباسيين.

واحد من اللي استغلوا الظروف دي كان "السري بن الحكم"، راجل من أصل خراساني، قدر يأسس لنفسه ولعيلته حكم شبه مستقل استمر حوالي 10 سنين. بس مش كل مصر كانت تحت سيطرته، العاصمة ومعظم الوجه القبلي بس كانوا معاه. وفي نفس الوقت تقريبا، ظهر "عبد العزيز بن الوزير الجروي"، اللي قدر يسيطر على شرق الدلتا، وكان بيحاول يمد نفوذه على باقي الدلتا والصعيد.

مصر وقتها كانت أشبه بالتورتة كل حد بياخد منها جزء. قبائل لخم وجذام سيطروا على غرب الدلتا، بما فيها الإسكندرية، مريوط، والبحيرة. وفي وسط الزحمة دي فجأة ظهرت مراكب جاية من الأندلس، عليها ناس اتطردوا من بلادهم بعد معركة كبيرة في قرطبة سنة 198 هـجرية / 813 ميلادي. المجموعة دي كانت حوالي 15 ألف شخص، غير النساء والأطفال، وأول ما نزلوا الإسكندرية، استغلوا حالة الفوضى في مصر وسيطروا عليها.

الإسكندرية بقت شبه جمهورية مستقلة للأندلسيين لمدة 10 سنين، حكموا المدينة وفرضوا سلطتهم، وكأنهم بيقولوا إحنا هنا وبنعرف ندير نفسنا، بيعوضوا اللي فشلوا فيه في الأندلس، في بلد خربانة. في نفس الوقت، كل منطقة في مصر كانت تحت سيطرة جهة مختلفة، والبلد كلها بقت زي القطع المفرقة، لا تحت حكم العباسيين ولا تحت حكم والي واحد مسيطر.

الخليفة العباسي "المأمون بن هارون الرشيد" ما سابش الوضع يكمل على كده. بعت قائده "عبد الله بن طاهر بن الحسين" عشان يرجع السيطرة العباسية على مصر، وده حصل فعلا سنة 212 هـجرية / 828 ميلادي، بعد معركة مع شرسة البشموريين، يعني الفلاحين باللغة القبطية القديمة.

اللي حصل وقت "السري بن الحكم" كان بداية فكرة إن مصر ممكن تكون مستقلة عن أي خلافة، وده كان مجرد بروفة للاستقلال الكبير اللي "أحمد بن طولون" هيحققه بعد كده.

لما الخليفة العباسي "المعتصم بن هارون الرشيد" مسك الخلافة سنة 218 هجري / 833 ميلادي، كمل على نفس سياسة الإقطاع اللي كان بدأها "الرشيد" و"المأمون". بس الجديد إن "المعتصم" كان معتمد اعتماد كبير على الأتراك، اللي وقتها بدأ نفوذهم يكبر جوه الخلافة العباسية. ومن هنا قرر إنه يقطع مصر لـ"أبي جعفر أشناس التركي" سنة 219 هجري / 834 ميلادي.

"أشناس" ده اسمه كمان كان بيتقال في خطبة الجمعة مع الخليفة "المعتصم"، وكأنه شريك في الحكم. ومن كتر ما كانت إيده طايلة، حدود دولته وصلت من بغداد لحد آخر المغرب، حرفيا كان ماسك نص العالم الإسلامي وقتها.

كمان "أشناس" عمل حاجة مميزة جدا، سك عملة بإسمه، يعني الفلوس اللي الناس بتستخدمها كان مكتوب عليها اسمه. ده غير إنه نقش اسمه على الموازين والمكاييل، عشان يضمن إن إسمه موجود في كل تفاصيل الحياة اليومية.

"أشناس" ما كانش والي عادي على مصر، كان صاحب القطاع، يعني دفع فلوس للخليفة عن إقطاعيته، وبالتالي هو اللي كان بيعين الولاة اللي يحكموا باسمه. والموضوع استمر كده لحد ما توفى سنة 230 هجرية / 845 ميلادي.

وفاة "أشناس" كانت بتعلن نهاية مرحلة من سيطرة الأتراك المبكرة على مصر، لكنها في نفس الوقت كانت مؤشر إن نفوذ الأتراك جوه الدولة العباسية لسه مكمل، وده اللي هيبان أكتر مع "أحمد بن طولون" بعد كده لما يستقل بحكم مصر بشكل كامل.

في عهد الخليفة العباسي "المعتز بالله"، مصر كانت مسرح لتغيير الولاة كل شوية، وكأنها لعبة كراسي موسيقية. في سنة 253 هجري / 867 ميلادي، الخليفة قرر يعزل الوالي التركي "يزيد بن عبد الله" وعين مكانه "مزاحم بن خاقان". بس "مزاحم" ما عاش كتير، وبعد سنة مات، فاستلم ابنه "أحمد بن مزاحم" المنصب. بس "أحمد" ما قعدش كتير، واتعزل هو كمان، وبداله جه تركي تاني اسمه "أزجور ظرخان"، هم المصريين كانوا بيرددوا الأسماء دي ازاي. الراجل ده رغم إنه قعد كام شهر بس، قدر يخمد ثورة خطيرة قادها واحد علوي اسمه "بغا" ورغم كده برده اتعزل. في سنة 254 هجرية / 868 ميلادي، مصر اتقطعت لقائد تركي كبير اسمه "باكباك"، واللي بعث مكانه نائبه "أحمد بن طولون"، زي ما حكينا الجزء اللي فات، وهنا كانت بداية فصل جديد.

سياسة الإقطاع دي اللي مشى عليها الأتراك في مصر عملت نتائج عكسية. القادة الأتراك الكبار كانوا بيفضلوا يقعدوا في عاصمة الخلافة، بعيد عن الولايات اللي تحت إيديهم، عشان كانوا خايفين من الدسائس والمكايد اللي ممكن تحصل لو خرجوا. والخلفاء نفسهم كانوا بيرحبوا بالفكرة، عشان ما يبقاش لأي قائد طموح إنه يستقل بأي ولاية، خصوصا لو زي مصر اللي مليانة خير وفلوس.

عشان كده القادة الأتراك كانوا بيعينوا نواب مكانهم، يشيلوا عنهم هموالولاية، ويجمعوا الفلوس، ويبعتوها للخلافة. وطبعا خطب الجمعة كانت بتدعي للخليفة ولصاحب الإقطاع، بس محدش كان بيراقب النواب دول ولا يحسبهم. وكانت دي بداية لثغرة كبيرة في النظام، لأن النواب بقوا هم اللي في وش المدفع وأقرب للناس، ومحدش بيركز مع النائب، وده فتح الباب ل"أحمد بن طولون" إنه يضرب ضربته في غفلتهم عنه ويستقل بعد كده ويكتب فصل جديد في تاريخ مصر.

اللي حصل ده كان مؤشر إن نظام الإقطاع بدأ يفقد سيطرته، وإن مصر كانت جاهزة لدخول عصر جديد تحت حكم "أحمد بن طولون"، اللي هيقلب الموازين تماما ويبدأ عهد الطولونيين.
(يتبع)
مروة طلعت 
24/11/2024
الجزء الأول
https://www.facebook.com/share/p/15S5pbGhCy/
الجزء الثاني 
https://www.facebook.com/share/p/19YH9rSbEb/
الجزء التالت
https://www.facebook.com/share/p/1G6MQJ8jPA/
الجزء الرابع
https://www.facebook.com/share/p/19fGndQh69/
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
#أحمد_بن_طولون
#القطائع
#السيرة_الطولونية
المصادر:
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ج2 ـ إبن تغري بردي.
الخطط المقريزية ج2 - المقريزي.
سير أعلام النبلاء الطبقة 15 - الامام الذهبي.
الطولونيون دراسة لمصر الاسلامية في نهاية القرن التاسع الميلادي - دكتور ذكي محمد حسن.
أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية - دكتور عبد العزيز سالم.
تاريخ مصر في عهد أحمد بن طولون - محمد كرد علي.
سيرة أحمد بن طولون - أبو محمد عبد الله محمد المديني البلوي.
أحمد بن طولون - دكتورة سيدة إسماعيل كاشف.
البداية والنهاية ج14 - ابن كثير.
مروج الدهب ومعادن الجوهر ج4 - المسعودي.
تاريخ الطبري ج9 - الامام الطبري.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الليث بن سعد 5

الليث بن سعد

الليث بن سعد 6