أحمد بن طولون 4
(4) زمان كانت الخلافة بتاخد قوتها من وحدة بيت الخليفة ومن دعم العرب ليها. فالعرب كانوا شايفين إن قوتهم في قوة الخلافة، وإنها هي اللي بتحميهم وبتحفظ كرامتهم. كل ده كان شغال مظبوط زي الساعة في عصر الأمويين. لكن لما العباسيين جم للحكم، الدنيا اتشقلبت. أول ما استلموا السلطة، البيت العباسي نفسه بدأ يتفكك. الصراعات بين أفراد العيلة بدأت من بدري، من أول ما الخليفة "الأمين بن هارون الرشيد" دخل في حرب ضارية ضد أخوه "المأمون بن هارون الرشيد". تخيل ده مش بس شق الصف العباسي، لا ده قسم العالم الإسلامي كله وسبب ضعف كبير.
العباسيين مش بس خسروا الوحدة، ده كمان لعبوا دور كبير في إضعاف العصبية العربية. بدل ما العرب يفضلوا هما المسيطرين والمساندين الأساسيين للخلافة، بقوا زي أي عنصر تاني في الدولة العباسية الكبيرة دي، وده عشان العباسيين شافوا إنهم يضعفوا سيطرة العرب، فميبقاش فيه حد أقوى منهم، بس ده قلب ضدهم في النهاية.
بكده العباسيين فقدوا دعم العرب اللي كان ممكن يشد ضهرهم وقت الأزمات، وده خلاهم مكشوفين وضعاف قدام التحديات اللي قابلتهم بعد كده. القصة دي بتبين لنا إزاي الانقسامات السياسية وضعف الولاء والانتماء ممكن يهد دولة كبيرة كانت في عز مجدها.
واللي زود الطين بلة إن العباسيين كمان ما وثقوش في الفرس، رغم إنهم كانوا السبب الأساسي في إن دولتهم تقوم، يعني الناس اللي ساندوهم من الأول وتعبوا عشان يوصلوهم للحكم، العباسيين قلبوا عليهم ونكبوا الزعماء الفرس وكمان الأسر الفارسية اللي دعمتهم. فكانت النتيجة أنهم فقدوا ثقة العرب، وبعدها فقدوا كمان ثقة الفرس.
طب يعملوا إيه عشان يحافظوا على خلافتهم؟. قرروا يدوروا على قوة جديدة. وهنا جت فكرة الترك. الترك دول كانوا معروفين عند العرب من زمان، من أيام ما فتحوا بلاد ما وراء النهر - ماوراء نهر جيحون في آسيا الصغرى حاليا تركستان الروسية - في عهد الخليفة الأموي "الوليد بن عبد الملك بن مروان". العرب كانوا شايفين إن الترك ناس بتحب الحرب والقتال، بس لا عندهم عصبية زي العرب، ولا عندهم طموح لإحياء ملك قديم زي الفرس. بمعنى أصح، العباسيين شافوا في الترك حل مثالي، مقاتلين أقوياء يحموا الخلافة من غير ما يهددوها. لكن السؤال اللي يفضل مطروح هل الاعتماد على الترك فعلا كان الحل المناسب، ولا العباسيين كانوا بيبدلوا مشكلة بمشكلة أكبر؟.
ومن هنا بدأ الترك يدخلوا في الحياة الإسلامية شوية بشوية، وده حصل من أيام الخليفة العباسي "هارون الرشيد". لكن الموضوع بقى أوضح مع الخليفة "المأمون بن هارون الرشيد". "المأمون" كان شايف إن العرب واقفين في صف أخوه "الأمين"، وماكنش مطمن للفرس اللي كانوا بيساعدوه، على الرغم من أن أمه فارسية، وكان اخواله الفرس مراهنين عليه من الأول وكان أملهم في استعادة ملكهم. قرر "المأمون" يلعبها سياسة ويعمل توازن بين الطرفين. شاف أن الحل الأنسب إنه يستخدم المحاربين الترك، بس في الأول على نطاق محدود. هسيبلك لينك حكاية الأمين والمأمون في الكومنتات.
لحد ما جه أخوهم "المعتصم بن هارون الرشيد"، واللي أمه كانت تركية، فقلب الموازين تماما. الخليفة "المعتصم" اعتمد على الترك بشكل كبير جدا في الجيش، لدرجة إن الناس في بغداد زهقوا منهم ومن كترتهم في البلد. وكان الحل اللي فكر فيه "المعتصم" عشان يهدي اشتباكات العامة بالترك في بغداد، إنه يبني لهم عاصمة جديدة بعيد عن بغداد سنة 221 هـجرية / 836 ميلادية، واللي سماها "سر من رأى" أو سامرا. لكن الخليفة "المعتصم" ما اكتفاش بكده، ده كمان شال العرب من ديوان الجيش وقطع عنهم الرواتب، وده كان تغيير كبير وخطير في التركيبة العسكرية للدولة.
الموضوع ماوقفش عند الجيش بس، الأتراك بدأوا يدخلوا كمان في الإدارة. الخليفة "المعتصم" سلمهم مناصب مهمة في الدولة، وبعد ما مات، الأتراك لقوا نفسهم في الساحة لوحدهم. ومع الوقت وبالتحديد في النص التاني من القرن الثالث الهجري، بقوا هما المسيطرين على كل حاجة، سواء في الجيش أو في الإدارة. العباسيين نفسهم بقوا تحت رحمتهم، والخلافة اللي كانت في إيد العرب بقت لعبة في إيد الأتراك.
بعد وفاة الخليفة "المعتصم"، مسك الحكم أخوه "الواثق بالله" (227 - 232 هـجري/ 842 - 847 ميلادي)، والترك زاد نفوذهم أكتر، خصوصا اتنين من كبارهم، وهم "إيتاخ" و"وصيف". الاتنين دول كانوا ليهم كلمة كبيرة جدا، لدرجة إنهم اللي أختاروا يولوا "المتوكل على الله" خليفة بعد وفاة "الواثق".
لكن الخليفة "المتوكل" ما كانش زي "المعتصم" أو "الواثق"، وماقبلش يكون لعبة في إيد الترك. أول حاجة عملها إنه سجن "إيتاخ"، اللي كان من أكبر زعماء الترك وكمان ماسك بيت مال الدولة. وبعدها عين "محمد بن عبد الله الطاهري" حاكم على العراق، عشان يقلل نفوذ الترك في المنطقة.
"المتوكل" كمان فكر ياخد خطوة أكبر، وهي إنه ينقل العاصمة من سامرا لدمشق، يمكن يبعد عن مشاكل الترك ودسائسهم. وكان شايف إن جو دمشق يناسبه أكتر، وفعلا نقل معسكره قرب المدينة. لكن الأمور ما مشتش زي ما كان مخطط لها، فالجند الترك عملوا ثورة بحجة إن رواتبهم ما تصرفتش. "المتوكل" ما لاقاش حل غير إنه يدفع لهم الفلوس ويرجع لسامرا.
المؤرخ المسعودي ذكر في كتابه "مروج الذهب" إن الجند الترك كانوا مش طايقين الإقامة في الشام، وده بيوضح قد إيه الترك كانوا عاملين صداع ل"المتوكل"، لدرجة إن كل خططه كانت بتفشل بسبب نفوذهم ومؤامراتهم. وهنا بنشوف إزاي الترك مش بس سيطروا على الجيش، لكن بقوا عقبة قدام أي محاولة لإعادة السيطرة للخليفة العباسي.
الخليفة "المتوكل على الله" للأسف ارتكب غلطة عمره اللي قضت عليه. في الأول أعلن ابنه الكبير "المنتصر" ولي عهده، لكن فجأة غير رأيه وشال "المنتصر" من الولاية، وقرر يديها لابنه الأصغر "المعتز" - راجع الجزء التاني - طبعا ده خلا "المنتصر" يولع نار من جواه ويدور على طريقة ينتقم بيها، فاتفق مع الجند الترك على التخلص من أبوه.
الجند الترك كانوا شغالين بمكر وذكاء، وعشان يخلصوا من الخليفة "المتوكل" كان لازم يخلصوا من أي حد حواليه ممكن يعيقهم، فلفقوا تهمة الخيانة لواحد من القادة المخلصين ل"المتوكل"، اللي كان ممكن يدافع عنه وقت اللزوم. وفعلا نجحوا في إقناع الخليفة إن الراجل ده خاين، فأبعده، وساعتها الجو بقى مهيأ للجند. في ليلة كان فيها المتوكل مستمتع مع وزيره ونديمه "الفتح بن خاقان"، اقتحموا عليهم وقتلوهم هما الاثنين سنة 247 هجرية، وممكن تراجع مشهد النهاية ده بالتفصيل في الجزء التاني.
لكن عشان يهدوا الناس، نشروا إشاعة إنهم قتلوا الفتح بن خاقان لأنه كان هو اللي قتل الخليفة، وبكدة يبان إنهم كانوا بينفذوا العدل والقصاص. الخليفة "المنتصر" أخد الخلافة بعد ما قتل أبوه، لكنه حكم أشهر قليلة، ركز فيهم على حماية الجند اللي ساعدوه، وكان خايف إن إخوته ينتقموا منهم، فأخد منهم أي سلطة أو أملاك، وأجبرهم يمضوا تنازل رسمي عن حقهم في العرش. ولما مات "المنتصر"، الجند الترك كانوا لسه مرعوبين من ولاد "المتوكل"، فقرروا يجيبوا حفيد "المعتصم"، اللي هو "المستعين بالله"، خليفة جديد عشان يبعدوا أي تهديد عن نفسهم. الدنيا في العصر العباسي كانت لعبة كراسي موسيقية، بس على نار مشتعلة.
الخلاف ما وقفش عند كده، الجند الترك، اللي كانوا المفروض يبقوا درع الدولة، قلبوا على بعض. الخلاف بين أحزابهم المختلفة عمل شغب ما حدش قدر يسيطر عليه. اتنين من زعمائهم الكبار، "بغا" و"وصيف"، قرروا يتخلصوا من زعيم ثالث. الزعيم ده لما نجي من محاولة الاغتيال مسكتش، عمل عليهم ثورة، وقال مش هاسيبكم تستبدوا وتتحكموا في الدولة كأنها عزبة.
الثورة دي كانت عنيفة جدا، وانتهت بهروب "بغا" و"وصيف" على بغداد ومعاهم الخليفة "المستعين بالله"، وسابوا ولاد "المتوكل"، (المعتز والمؤيد)، محبوسين في سجن سامرا. الجند الترك اللي ضدهم وقتها قالوا إحنا هنا عشان نعدل الموازين، وطلعوا "المعتز" و"المؤيد" من السجن، وبايعوا "المعتز بالله" على الخلافة.
وبرده الدنيا ما هدتش، وبدأت معركة بين أنصار الخليفتين، "المستعين بالله" من جهة، و"المعتز بالله" من جهة تانية. "المستعين" اتحاصر في بغداد، ولما الموقف بقى صعب، اضطر يسلم المدينة سنة 252 هـجري / 866 ميلادي، بعد ما أخذ الأمان لنفسه ولأهله، واتعهد إنه يقعد في مكان بعيد. بس الأمور ما مشيتش زي ما خطط، واضطر يفضل شوية في واسط. وهنا ظهر على مسرح السياسة "أحمد بن طولون"، اللي أختاروه لمرافقة "المستعين" في اللحظات العصيبة دي. راجع الجزء التالت. الصراع ده كان بداية مرحلة جديدة مليانة دسائس وتحولات كبيرة في تاريخ العباسيين.
لما رجع "أحمد بن طولون" على سامرا، بعد مقتل "المستعين بالله، دخل في الحياة السياسية فيها، وقدر من خلال جوز أمه "باكباك"، أنه يتقرب من القادة الترك المحاوطين الخليفة "المعتز بالله". وفي سنة 254 هجري / 868 ميلادي أتولى "باكباك" حكم إمارة مصر. وفي ظل الظروف المريبة اللي بتحصل، والصراعات في سامرا، كان فيه تقليعة غريبة بيعملها قادة الترك اللي بيتولوا حكم إمارات، كانوا بيبعتوا نائب ليهم يحكم بدالهم فيها بأسمهم، ويفضل القائد التركي الحاكم الأصلي في سامرا، عشان يفضل جوا المطبخ السياسي متابع الأحداث، ويراقب كل شاردة وواردة، عشان ميلقيش نفسه في لحظة يا مخلوع يا مقتول يا بعيد عن تقسيمة التورتة. وعشان كده بعت "باكباك" لمصر، "أحمد بن طولون" كنائب له.
وفي 23 رمضان سنة 254 هجري / 15 سبتمبر 868 ميلادي، وصل "أحمد بن طولون" لمصر، وهو في دماغه فكرة خطيرة يستغل فيها ضعف وتفكك الدولة العباسية، وفوضى الجنود الأتراك.
(يتبع)
مروة طلعت
23/11/2024
الجزء الأول
https://www.facebook.com/share/p/15S5pbGhCy/
الجزء الثاني
https://www.facebook.com/share/p/19YH9rSbEb/
الجزء التالت
https://www.facebook.com/share/p/1G6MQJ8jPA/
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
#أحمد_بن_طولون
#القطائع
#السيرة_الطولونية
المصادر:
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ج2 ـ إبن تغري بردي.
الخطط المقريزية ج2 - المقريزي.
سير أعلام النبلاء الطبقة 15 - الامام الذهبي.
الطولونيون دراسة لمصر الاسلامية في نهاية القرن التاسع الميلادي - دكتور ذكي محمد حسن.
أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية - دكتور عبد العزيز سالم.
تاريخ مصر في عهد أحمد بن طولون - محمد كرد علي.
سيرة أحمد بن طولون - أبو محمد عبد الله محمد المديني البلوي.
أحمد بن طولون - دكتورة سيدة إسماعيل كاشف.
البداية والنهاية ج14 - ابن كثير.
مروج الدهب ومعادن الجوهر ج4 - المسعودي.
تاريخ الطبري ج9 - الامام الطبري.
تعليقات
إرسال تعليق