الظاهر بيبرس البندقداري 22

(22) دولة سلاجقة الروم أو سلاجقة الأناضول ـ أسيا الصغرى ـ واحدة من دول كتيرة خرجت من عباية دولة السلاجقة الكبار بعد وفاة آخر السلاطين السلاجقة العظام "السلطان جلال الدولة ملك شاه بن ألب أرسلان بن داود". لعب السلاجقة دور مهم في الحروب الصليبية الأولى، وقضوا السلاجقة بنفسهم على حملتين صليبيتين، وأجبروا الصليبيين على تحويل مسار الحملات الصليبية من البر للبحر، عشان السلجقة كانوا ملوك البر ومش قادرين عليهم.

نفس الدولة العظيمة دي بدأ الضعف والتفكك يدب في أوصالها بسبب الصراع على الحكم بين الأمراء، وبسبب هجمات التتار عليها من الشرق، والبيزنطيين من الشمال الغربي، وده سبب فقد مكانتها في المنطقة رغم موقعها الاستراتيجي الحساس والخطير. وفي سنة 646 هجرية / 1248 ميلادي وبعد وفاة آخر سلاطينها الأقوياء السلطان "علاء الدين كيقباذ" أصبحت دولة السلاجقة خاضعة للدولة الإيلخانية التترية في العراق وفارس.

في التاريخ الإسلامي، دايمًا صعود وسقوط الدول بيكون وراه حكم ومعاني كبيرة لو ركزنا فيهم. الدول بتبدأ بالصعود لما بيكون في عدل وقوة إيمان، لما الحكام بيخافوا ربنا وبيخدموا الناس ويطبقوا العدل بينهم، بتحس إنهم زي اللي بيزرعوا بذرة صالحة في الأرض، فربنا بيبارك فيهم وبيخليهم قادرين يحافظوا على دولتهم ويقووها. إنما لما الجشع، الظلم، والصراعات الداخلية يبدأوا يظهروا، بتحس إن الدولة دي بتبدأ تقع، وده مش بيكون مجرد أحداث صدفة، ده بيكون عقاب رباني من غير ما الناس تحس.

زي ما بيقولوا، "العدل أساس الملك". ولما الأساس ده يتشقق، الدولة بتبدأ تنهار. في نفس الوقت، رب العالمين قال في كتابه الكريم: "وتلك الأيام نداولها بين الناس"، حكمة دينية عظيمة فالدنيا دايمًا متغيرة، يعني الدولة مهما كبرت، هتيجي لحظة وتبدأ تضعف وتنتهي، وده من سنن ربنا في الكون عشان يكون درس لكل أمة.

اتعمد المغول أنهم يبثوا روح الفرقة والاختلاف بين الأمراء السلاجقة عشان ما تتوحدش كلمتهم ـ فرق تسد ـ ويستعيدوا هيبتهم وينالوا استقلالهم السياسي عن الحكم المغولي. فهنلاقي المؤامرات والانقلابات والاغتيالات والبيانات شغالة في الوقت ده الله ينور بين أمراء السلاجقة.

ايه بقي علاقة كل الكلام ده بالسلطان "الظاهر بيبرس البندقداري"، وهل كان فيه رابط مشترك بين الدولة السلجوقية والمماليك؟. البداية كانت سنة 656 هجرية / 1258 ميلادية، لما دخل المغول مدينة بغداد ودروها وقضوا على الخلافة العباسية. ساعتها قعد "هولاكو" على عرش بغداد، وبعت للأخين "عز الدين كيكاوس" و "ركن الدين قلج أرسلان"، اللي كان بينهم حروب وصراعات على مين فيهم يمسك حكم السلاجقة في الأناضول، وطبعا الحروب دي كان السبب الرئيسي فيها المغول نفسهم، زكانوا بيساندوا "قلج أرسلان" ضد أخوه، فلما بدأ "كيكاوس" ينتصر، أتدخل "هولاكو" عشان ميخسرش حليفه "قلج أرسلان". قعد "هولاكو" بينهم، وأمر بتقسيم بلاد الأناضول ما بين الاتنين، يبقي أحتفظ بحليفه وفي نفس الوقت بيستمر في سياسته بالتقسيم لمزيد من التفتت والضعف.

"هولاكو" عمل تقسيته وأعطى "كيكاوس" كل البلاد من حدود قيصرية لحد حدود بيزنطية، وعاصمته "قونية" - أراك توزع من مال أمك على رأي محمد هنيدي -  وأعطى "قلج أرسلان" من سيواس لحد ساحل البحر الأسود، عشان يبقى جنب حدود حلفاؤه المغول.

لما شاف "كيكاوس" الأمور كل شوية بتزداد سوء، وحقه بيروح، ودولته خلاص غرقت، بعت رسالة للسلطان "الظاهر بيبرس" وعرض عليه التحالف ضد المغول وأخوه حليفهم "قلج أرسلان". وافق السلطان "الظاهر بيبرس" فورا لأنه شاف في الحلف ده فرصة عظيمة يطوق فيها المغول من ناحية الأناضول. لكن الأمور ما مشيتش لصالح تخطيط "بيبرس" المرة دي، أخبار الحلف وصلت لعلم "هولاكو"، فبعت على طول جيش كبير حاصر مدينة "قونية" عاصمة "كيكاوس"، وخلعه من الحكم" ونفاه لبيزنطة. وبكدة أصبح أخوه حليف المغول "قلج أرسلان" حاكم الأناضول كلها نيابة عن المغول.  

في الفترة السياسية المضطربة دي في الأناضول، ظهرت شخصية سياسية خطيرة، حاجة كده شبيهة ب "بدران" رئيس الشرطة في فيلم "أمير الأنتقام"، أو "جعفر" في فيلم "علاء الدين"، وهو "معين الدين سليمان" الملقب ب"البرواناه" وهو لقب فارسي معناه المساعد الشخصي للسلطان، كنا أخدنا عنه لمحة سريعة في الجزء ال 21. "البرواناه" كان راجل ذكي وطموح، لكنه كان عديم الأخلاق وصولي لأقصى درجة، كل اللي يهمه يوصل للسلطة ويكون عنده النفوذ والمال بأي طريقة، يعني كان الشرير في قصة أحدهم، صفات الخاين في كل عصر وزمان.

"معين الدين بروناه" شاف إن "أبغا خان" ـ اللي حكم المغول بعد موت أبوه "هولاكو"ـ الخان الكبير للمغول في فارس، عنده نفوذ وقوة عسكرية كبيرة، فقال لنفسه "ليه ما أستغلش ده لصالحي؟". استغل "البرواناه" موت "هولاكو" سنة 663 هجرية / 1265 ميلادية، وسافر مع السلطان "قلج أرسلان" للبلاط المغولي في "تبريز" - شمال غرب ايران - لتقديم العذاء وفروض الطاعة والولاء ل"أبغا خان" الحاكم الجديد، ولما رجع "قلج أرسلان" للأناضول بعد ما خلصت الزيارة، فضل "البروناه" قاعد في "تبريز" عشان يوسوس ل "أبغا خان" ويقلبه على "قلج أرسلان". وبعد ما رجع "البروناه" للأناضول بقى يبعت رسايل سرية ل"أبغا خان" يقوله فيها إن "قلج أرسلان" بدأ ياخد قرارات مش في صالح المغول، وإنه ممكن يبقى خطر عليهم. وفضل برسايله يعزز فكرة ل"أبغا خان" إن "قلج أرسلان" مش قد الثقة وممكن يقلب عليهم في أي وقت.

"أبغا خان" مال لتصديق "البروناه"، وراح مديله نيابة السلطنة ببلاد الروم، إلى جانب مهمة التخلص من كل شخص يخالف "أبغا خان" أو يشك بولائه للمغول. في الوقت ده حس "قلج أرسلان" بخطر "البروناه" - ماهو متآمر قديم برده - وبدأ يخطط ويتحين الفرص عشان يوقع ويخلص منه. ولمَا حاول السلطان "قلج أرسلان" التخلص من هيمنة وزيره الخطير وازدياد نفوذه، لفق له "البرواناه" تهمة التخطيط لاغتياله وأنه بيراسل المماليك، فقبض عليه المغول وأمر "أبغا خان" بأعدامه خنقًا يوم الأربعاء 8 جمادى الأولى 664 هجرية / 1266 ميلادية، وحط "أبغا خان" مكانه ابنه الطفل "كيخسرو بن قلج أرسلان". وبكده حقق "البرواناه" هدفه وفرض سيطرته بشكل كامل على الأناضول باعتباره الوصي على "كيخسرو". 

في سنة 674 هجرية / 1276 ميلادية، بعد هزيمة جيش المغول على ايد الجيش المملوكي بقيادة السلطان "الظاهر بيبرس"، في معركة نهر الفرات - راجع الجزء ال 21 -جهز "أبغا خان" جيشه من جديد، وضم فيه 15 ألف من سلاجقة الروم، وعلي راس جيش السلاجقة "معين الدين سليمان البرواناه"، وطلع الجيش على "البيرة" تاني. وأول ما وصلتلهم الأخبار أن الجيش المملوكي جاي عليهم، أنسحب "البرواناه" بجنوده لوحدهم بشكل مفاجئ وغريب. وكانت النتيجة الطبيعية للي حصل هزيمة شنيعة للمغول زادت من  "أباقا خان" وزاد تصميمه على الهجوم تالت على بلاد الشام واحتلالهم، لكنه حصلت مشاكل داخلية وصراعات قبلية أخرت خططه شوية.

"البروناه" عمل كده عشان كون تحالف مع السلطان "الظاهر بيبرس" من وراه، فاكر لما قلنا أن "البروناه" بعت رسالة للسلطان "الظاهر بيبرس" وعرض عليه التحالف وشار عليه يغزو مملكة الأرمن - لو مش فاكر راجع الجزء ال 21 - ساعتها "البرواناه" قالك خليني ماشي على الحبلين طالما قوة "بيبرس" عالية، واللي يغلب أدينا معاه، واللي تغلب به ألعب به.

نتيجة الانسحاب المفاجئ ده، خلت "أبغا خان" يشك في خيانة "البرواناه"، وبعتله يستدعيه عشان يحقق معاه ويشوف إيه اللي وراه، لكن "البرواناه" أعتذر وأتحجج أنه مشغول في جهاز وترتيب حفل زفاف أخت السلطان "كيخسرو" وبنت "قلج أرسلان"، ده أنت بجح يا أخي.

في سنة 675 هجرية / 1277 ميلادية،  وصل وفد للسلطان "الظاهر بيبرس" عدد من أمراء البيت السلجوقي بيشتكوله من "البرواناه" بسبب سياساته وطغيانه ونهبه للأموال، وحذروه من أن المغول وبمعاونة "البرواناه" بيرتبوله هجوم كبير على حلب والشام، وأنه ميأمنش ل"البرواناه" لأن الخيانة طبع في دمه وملوش أنتماء ولا عزيز غير نفسه. وعرضوا على السلطان فكرة ضم بلاد الأناضول لحدود مملكته في مصر والشام ويقوي بيها حدود الدولة الإسلامية في مواجهة المغول. الحقيقة أن الفكرة عجبت السلطان "الظاهر بيبرس" وأقتنع بكلامهم ودلايلهم عن "البرواناه"، وبدأ في تجهيز الجيوش عشان يغزو بلاد الأناضول وطرد المغول والخونة منها.

 (يتبع)

مروة طلعت
28/10/2024
الجزء الاول 
https://www.facebook.com/share/p/dHKjqH82wXYD8m56/?mibextid=oFDknk
الجزء الثاني 
https://www.facebook.com/share/p/TcGE4e5npC63CfwS/?mibextid=oFDknk
الجزء الثالث
https://www.facebook.com/share/p/3CWpLYExqUEheRfM/?mibextid=oFDknk
الجزء الرابع
https://www.facebook.com/share/p/LQpTcWvusxvUi8bE/?mibextid=oFDknk
الجزء الخامس
https://www.facebook.com/share/p/gyhwmTQVhHJVLZuS/?mibextid=oFDknk
الجزء السادس
https://www.facebook.com/share/p/4Z49Uto1wiWAQiSv/?mibextid=oFDknk
الجزء السابع
https://www.facebook.com/share/p/Yx4vD6KK4PKPKbPd/?mibextid=oFDknk
الجزء الثامن
https://www.facebook.com/share/p/ZCwCKUew3ysnQyT2/?mibextid=oFDknk
الجزء التاسع
https://www.facebook.com/share/p/guCAqC8dUmzW9E9h/?mibextid=oFDknk
الجزء العاشر
https://www.facebook.com/share/p/8kRo4aJVYmADB68K/?mibextid=oFDknk
الجزء الحادى عشر
https://www.facebook.com/share/p/46VfUKJyLsr4e8zK/?mibextid=oFDknk
الجزء الثانى عشر
https://www.facebook.com/share/p/2xEdCeUKXKVoCobu/?mibextid=oFDknk
الجزء الثالث عشر
https://www.facebook.com/share/p/cQe3udaX474RNsDz/
الجزء الرابع عشر
https://www.facebook.com/share/p/iRV6U6Q3NzrqLqyi/
الجزء الخامس عشر
https://www.facebook.com/share/p/BC757btSNUH6uLZU/
الجزء السادس عشر
https://www.facebook.com/share/p/DPovuQ8iNUw1wwTY/
الجزء السابع عشر
https://www.facebook.com/share/p/aUyQZGA3Np3Jr7mu/
الجزء الثامن عشر
https://www.facebook.com/share/p/7xjxyj7ntK6wutCW/
الجزء التاسع عشر
https://www.facebook.com/share/p/bDhd6HZdsMp5qLkb/
الجزء العشرين
https://www.facebook.com/share/p/adpd1s38r4vmsYhh/
الجزء الواحد والعشرين 
https://www.facebook.com/share/p/PG1WgEpwue2yu93s/
المصادر:
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ج3،4 - ابن تغري بردي.
السلوك لمعرفة دول الملوك ج1 - المقريزى.
تاريخ الخلفاء - الامام السيوطى.
سير أعلام النبلاء الطبقة 34 - الامام الذهبي.
المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار ج2 - المقريزي.
دولة الظاهر بيبرس في مصر - د/ محمد جمال الدين سرور.
دولة المماليك في مصر - سير وليم موير - ترجمة سليم حسن.
عصر سلاطين المماليك - أ.د/ عطية القوصي.
الظاهر بيبرس مؤسس دولة سلاطين المماليك بمصر - أ.د/ محمد مؤنس عوض.
النهج السديد في تاريخ المماليك - علي بن عبد الله بن أيوب النويري.




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الراشد العمري 9

الليث بن سعد 5

الليث بن سعد 6