الظاهر بيبرس البندقداري 17
(17) زعيم المغول "أبغا خان" كان وسط ضغوطات كتيرة من كل ناحية. كان عنده صعوبات داخلية في السيطرة علي المناطق التابعة ليهم، بسبب النزاعات والخلافات على السلطة بينه وبين أخواته، ولاد "هولاكو". ده غير الهزيمة المتكررة اللي عمال المغول ياخد الواحدة ورا التانية من جيش المماليك بقيادة السلطان "الظاهر بيبرس البندقداري". حط فوقيهم حرب المغول ضد الدول القوية التانية في المنطقة زي السلاجقة والأتراك، ده غير كمان الثورات الداخلية المشتعلة ضده من القبائل التركية البدوية في الأناضول. "أبغا خان" بص لقى نفسه في أستنزاف مستمر وحاد لموارده الأسية اللي بتساعده على إقامة جيش قوي، وده بسبب صراعاته المستمرة برا وجوا، وياريته محقق أي أنتصارات، ده مهزوم ومستنفز الأتنين. عشان كده فكر "أبغا خان" يقلل التوتر اللي من حواليه، ويتنازل ويطاطي للريح، ويهادن جبهة من الجبهات اللي مفتوحة عليه دي كلها. فأختار أقوي جبهة مش قادر عليها وهي جبهة المماليك.
في سنة 667 هجرية / 1269 ميلادية، كان السلطان "الظاهر بيبرس البندقداري" في قلعة أرسوف - مدينة ساحلية شمال يافا بفلسطين حاليا - لما وصلته رسالة من الملك "هتوم" الأرمني حاكم مدينة سيس، بيبلغه فيها أن فيه رسول من "أبغا خان" عاوز يجيله، وخايف منه أكيد. الملك "هيثوم" كان ظبته "بيبرس" قبل كده - راجع الجزء ال 13 - وخلاه يعرف مقامه ويلزم حده، خصوصاً بعد ما تحالف قبل كده مع المغول، والمرة دي تدخل الملك "هيثوم" ولعب دور الوسيط، في محاولة منه يصلح ما بين المغول و"بيبرس"، عشان كان بيحلم أنه يأمن مملكته من تهديد "بيبرس" عن طريق الصلح ده.
لما قرأ السلطان "الظاهر بيبرس" رسالة الملك "هيثوم"، كان مفروض ده وقت خروج "بيبرس" من أرسوف" عشان يطلع على دمشق، وطبعا سلطان بقوة ونفوذ "بيبرس" مش هيوقف جدوله الزمني ومخططه في متابعة شئون إماراته عشان يقابل رسول مغولي. فبعت واحد من أمراء حلب يروح يجيبله الرسول وراه علي دمشق، وأهو يلففه كعب داير ويمرمطه برده، يحمد ربنا أصلا أنه رضي يقابله.
لما وصل الرسول المغولي لدمشق، ودخل للسلطان، قدمله رسالة مولاه "أبغا خان" واللي كتب فيها: "إن الملك أبغا لما خرج من الشرق تملك جميع العالم وما خالف أحد ومن خالفه هلك وقتل. فأنت لو صعدت إلي السماء أو هبطت إلى الأرض ما تخلصت منا، فالمصلحة أن تجعل بيننا صلحاً".
رسالة غريبة من شخص بيطلب الصلح، فبالرغم من طلب "أبغا" للصلح لكن الرسالة كانت فيها تهديد ضمني - مش عارفة الصراحة على أي أساس - ف"أبغا" بدأ الرسالة بتقديم نفسه كقائد قوي وأستعرض قوته وهيبته، وبعدين رجع لأسلوب التهديد بأنه ممكن يرجع للحرب تاني - علي أساس أن "بيبرس" هيخاف كده - وفي الآخر خالص لما أفتكر هو عاوز إيه، عرض حل الصلح.
السلطان "الظاهر بيبرس" كان فاهم كويس أنه في الوقت ده بالذات اللي فرض فيه قوته وسطوته علي البلاد في الشام والحجاز، لو قبل عرض الصلح ده مع المغول هيقلل كتير من هيبته ويضر بمكانته في العالم الإسلامي، لأنه هيتفسر على أنه ضعف منه وتراجع موقف المماليك من المغول. وكمان "بيبرس" كان عارف أن "إبن هولاكو" زي أبوه، غدار ملوش عهد ولا أمان، خبراته مع المغول من زمان بتأكد كده، ولهجة الخطاب العنجهية مؤشر واضح. ومننساش طموح "بيبرس" وخطته التوسعية اللي أبتداها من سنة 1265 ميلادية، وقبول الصلح هيعطل خطواته التوسعية في المنطقة، و"بيبرس" أصلا كان بيعتمد على الروح القتالية لجنوده وبيحافظ على معنويات جيشه العالية، وشعبه في مصر والشام، عن طريق أستمراره في حروبه مع المغول والصليبيين ودفاعه عن الإسلام، بمعنى أن رصيده عن الناس دايما عالي ومحبته في قلوب المسلمين في مصر والشام والحجاز زايدة لدرجة التقديس طول ماهو واخد المغول والصليبيين غسيل ومكوة. ده كله إلى جانب نفسية "بيبرس" نفسه الكارهة للمغول اللي شافت بعينيه وعانى من مجازرهم زمان قبل كده - راجع الجزء الخامس والسادس - فبالتالي نفسه راغبة في الانتقام والثأر منهم، يعني ممكن يهادن ويصالح الصليبيين لفترة إنما المغول مستحيل.
السلطان "الظاهر بيبرس" بعد ما قرا الرسالة بتاعة "أبغا خان بن هولاكو" بص للرسول حامل الرسالة وقاله: "أعلم أني وراءه بالمطالبة، ولا أزال أنتزع من يده جميع البلاد التي أستحوذ عليها من بلاد الخليفة وسائر أقطار الأرض".
رد "بيبرس" الواثق من نفسه المختصر، وضح مدى قوته كقائد عسكري وتصميمه علي محو المغول خالص من البلاد الإسلامية، وإعادة الأرض لأصحابها الشرعيين، ويأكد قوة موقفه ورفضه لأي تنازل، وكأن رده الهادي الرصين ده، ممكن نلخصها في جملة رفاعة الدسوقي "بس يا بابا".
في سنة 668 هجرية / 1270 ميلادية، والسلطان "الظاهر بيبرس" في أسكندرية، جاتله أخبار أن "أبغا خان" تحالف مع الصليبيين وأتفقوا سوا يهجموا علي أراضي السلطان في الشام. أتحرك السلطان "الظاهر بيبرس" في سرعة وخرج من اسكندريه راح لقلعة الجبل في القاهرة، وأول ما دخل القلعة وصلته أخبار أن المغول أغاروا على الساجور - نهر صغير في سوريا حاليا بيمر قرب حلب - وأول ما دخل السلطان قاعة حكمه، بعت رسالة للأمير "علاء الدين أيدكين البندقداري" أمير حلب، وأمره يخرج بجيشه لمواجهة المغول، على ما السلطان يجهز جيشه ويخرج من مصر. وأول ما وصل السلطان "الظاهر بيبرس" لدمشق وصلته أخبار أنتصار "علاء الدين البندقداري" وجيشه على المغول وأنسحابهم بيجروا مهزومين.
نفض السلطان "الظاهر بيبرس" ايده مؤقتا من المغول، ولقي نفسه في دمشق، فستخسر جيشه اللي خرج بيه من مصر كده ع الفاضي، فقالك طب منجزلي أي مصلحة. في شعبان 669 هجرية / فبراير 1271 ميلادية، حاصر السلطان "الظاهر بيبرس" حصن الأكراد - واحد من الحصون الخارجية لمدينة طرابلس حلم بيبرس بعد ما قضى على إمارة أنطاكية - وفضل جيشه محاصر الحصن، وفي حالة حرب وضرب متبادل بين المسلمين والصليبيين، لحد ما قدر "بيبرس" يقتحم الحصن يوم 30 مارن 1271 ميلادية، بعد ما الحامية رفعت راية الاستسلام وسلمت الأسلحة والحصن، ونتيجة لتسليمهم الأسلحة وأحترام شروط التسليم، عاملهم "بيبرس" معاملة كويسة وأطلق سراحهم لا أخدهم أسري ولا قتلهم، ودي رسالة تانية بيبعتها لباقي الحصون، هتسلمني نضيف وبأدب تبقى Good boy هعاملك بأحترام وهعفو عنك.
شوية كده وظهر الفرسان الهوسبتاليين - عرفناهم قبل كده في الجزء ال 12 - اللي رجعوا يحاربوا جيش "بيبرس" ويحاولوا ياخدوا منهم حصن الأكراد تاني، وكانت دفاعهم عنيف جدا، فأضطر "بيبرس" يجيب آلات الحصار جوا الحصن، وبدأ جيش المسلمين يهجم ويضرب في حصون الهوسبتاليين، مع الحفاظ قدر الإمكان على تحصينات حصن الأكراد. وفي الآخر برده مقدرش يصمد الهوسبتاليين قصاد جيش المسلمين وسلموا - ماهو كان من الأول - وعقدوا صلح مع السلطان. وبعد ما أستلم السلطان "الظاهر بيبرس" حصن الأكراد بشكل نهائي، كتب رسالة لرئيس فرسان الأسبتار اللي كان صاحب حصن الأكراد، وقاله فيها: "إلى افريرأوك جعله الله ممن لا يعترض على القدر ولا يعاند من سخر لجيشه النصر والظفر. ولا نعتقد أنه ينجى من أمر الله بالقدر ولا يحمي منه محجور البناء ولا مبنى الحجر. نعلمه بما سهل الله من فتح حصن الأكراد الذي حصنته وبنيته وخليته وكنت الموفق لو أخليته واتكلت في حفظه على إخوتك فما نفعوك، وضيعتهم بالإقامة فيه فضيعوه وضيعوك. وما كانت هذه العساكر تنزل على حصن وتبقى أو تخدم سعيدا وتشقى".
رسالة جديدة من رسايل السلطان "الظاهر بيبرس" الساخرة والمستهزئة بعد الأنتصار، الرسالة بينت بوضوح شخصية "بيبرس" القوية والثقة بالنصر، ودي تعتبر كمان رسالة دعائية بامتياز، مزيج مابين التوبيخ والسخرية والتأكيد على أن اللي بيعمله "بيبرس" هو أمر محتوم ومقدر. وطبعا زي ما هو واضح أن هدف الرسالة كسر معنويات العدو وتقليل ثقته بنفسه من خلال إظهار حتمية الهزيمة لما حد قليل البخت منهم بيواجهة جيش المسلمين اللي بقيادة السلطان "الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري".
(يتبع)
تعليقات
إرسال تعليق