الظاهر بيبرس البندقداري 16

(16) من سنة 1265 ميلادية زادت قوة جيش السلطان "الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري"، وأتغيرت إستراتيجيته من الدفاع وتحصين مملكته، للهجوم وتطهير البلاد الاسلامية في الشام من الوجود الصليبي الغاصب واللي أستحلى القعدة فيها 170 سنة، واللي دوق المسلمين أصحاب الأرض فيهم أنواع من القتل والمهانة والتعذيب والأسر والاغتصاب وبيعهم عبيد. فعدو بلطجي زي ده، كان لازمله بطل بلطجي زيه وأقوى منهم كمان عشان يعرف يطلعهم، لا يفل الحديد إلا لحديد، وأدام الأدب منفعش يبقى نوريهم بطشنا.

بعد سلسلة أنتصارات السلطان "الظاهر بيبرس" على الجيوش الصليبية، وفتوحاته للبلاد الشامية، كان محتاج في الوقت ده يضرب فيه ضربة قاضية يوقع فيها معنويات وعزيمة الصليبيين للأرض، ويخليهم متأكدين أنهم مش قصاد بشري عادي ده يبقي الموت ذات نفسه. هنلاقي هنا تطبيق عملي للمثل اللي بيقول أضرب المربوط يخاف السايب. والمربوط هنا هي إمارة أنطاكية.

أنطاكية كانت واحدة من أهم وأقدم الإمارات الصليبية، واللي أتأسست بعد الحملة الصليبية الأولى سنة 1098 ميلادية، وليها قيمة كبيرة دينية واستراتيجية. أنطاكية - حاليا جنوب تركيا على الحدود مع سوريا - كانت على مفترق الطرق بين آسيا الصغرى وسوريا، يعني كانت مفتاح السيطرة على الطرق التجارية والعسكرية، والمسيطر على أنطاكية يبقى متحكم في حركة القوات والإمدادات بين المناطق الصليبية المختلفة. ده غير أن أنطاكية كانت مقر البطريكية الأرثوذكسية، فكانت ليها أهمية دينية كبيرة جدا عند الصليبيين. وعشان الضربة الجاية تبقى قاضية زي ما قلنا فكانت لازم ولابد تيجي في أنطاكية.

في رمضان سنة 666 هجرية / مايو 1268 ميلادية وقت السلطان "الظاهر بيبرس البندقداري" بجيشه قصاد أسوار أنطاكية. وألتقى جيش المسلمين بجيش الصليبيين ودار ما بينهم قتال شديد في معركة حامية الوطيس زي ما بيقولوا، وأنتهت المعركة في الأول بأسر المسلمين لحامي المدينة. فكر "بيبرس" أنه يعرض الصلح والتسليم مقابل حاكمهم الأسير عنده حقناً للدماء، لكن الصليبيين في أنطاكية رفضوا وأستمروا في القتال. "بيبرس" قالهم خلاص أنتم أحرار، أنا كده عملت اللي عليا وعداني العيب وقزح، الحق عليا كنت عاوز أحافظ على حياتكم.

أقتحم جيش المسلمين أبواب مدينة أنطاكية، ودخلوا عليهم دبح وتقتيل حتي الرهبان والقساوسة الصليبيين مسلموش من المذبحة اللي عملها "بيبرس" في أنطاكية، كانت ليلة رعب ما شافوش قبلها زيها، بس وروها للمسلمين زيها وأكتر كتير. المذبحة اللي عملها "بيبرس" فى أنطاكية كان المقصود بيها توجيه رسالة واضحة لباقى الأمارات الصليبية أنهم هيواجهوا نفس المصير لو ما سلموش بالذوق، و"بيبرس" هنا كان صاحب الحق وهم الباغيين، وعلى الباغي تدور الدوائر.

لما شاف رجال الحامية الصليبية اللي بيحصل وأن المدينة كده خلاص وقعت في إيد المسلمين. جريوا - وكان عددهم 8000 - على القلعة يتحاموا فيها، بس مكنش فيه حاجة قادرة توقف طوفان المسلمين، ومكنش فيه كمان في القلعة ماية، فأضطروا يسلموا القلعة تاني يوم مقابل الحفاظ على حياتهم، فأخدهم السلطان أسري. 

يقول "النويري" في كتابه "النهج السديد": "وأما القلعة فأجتمع بها ثمانية آلاف مقاتل غير الحريم والأولاد فتحاشروا بها ولم يكن بالقلعة ماء يكفيهم فسيروا يوم الأحد ثاني يوم الفتح يطلبون الأمان من القتل وأنهم يؤخذون أسري فللوقت طلع السلطان فصادف جميع من في القلعة قد خرج إلى ظاهرها وعليهم الملابس الحسنة، فاستغاثوا للسلطان فعفا عنهم من القتل وأحضرت الحبال فربطوا بها وتسلم كل أمير جماعة من الأسرى". أفراد حامية أنطاكية واللي معاهم فضلوا يبقوا أسرى، لأن الأسرى بيتعاملوا معاملة أدمية وكمان بيتم مبادلتهم مع أسرى مسلمين أو بيتدفع فيهم فدية وده مصير أحسن بكتير من القتل بعد ما أتقفلت قصادهم كل طرق المقاومة أو النجاة. وبكدة رجعت أنطاكية - بعد حصار 5 أيام - أخيرا للمسلمين تاني بعد أحتلال 170 سنة.

بعد ما أستقر وضع المسلمين في أنطاكية، بعت السلطان "الظاهر بيبرس" رسالة ل "بوهيموند السادس" حاكم طرابلس وأنطاكية، واللي كان وقتها موجود في طرابلس. رسالة "بيبرس" كانت كلها شماتة وسخرية وتحدي وتهديد قاله فيها:

"بسم الله الرحمن الرحيم، قد علم القومص الجليل المبجل المعزز الهمام الأسد الضرغام بيمند فخر الأمة المسيحية رئيس الطائفة النصرانية، ما كان من قصدنا من طرابلس وغزونا له في عقر الدار، وماشاهده بعد رحيلنا من إخراب العمائر والأعمار، وكيف كنست تلك الكنائس على بساط الأرض. وكيف قتلت الرجال وأسنخدمت الأول وتملكت الحرائر، وكيف نهبت لك ولرعيتك الأموال والمواشي، وكيف أستغنى الفقير وتأهل العازب. وأنت تنظر نظر المغشي عليه من الموت. وكيف فارقنا بلادك ولابقيت بها ماشية إلا وهي لدينا ماشية ولا جارية إلا وهي لدينا جارية. وها نحن نعلمك بما تم ونفهمك بالبلاء الذي عليك قد عم. رحلنا عنك من طرابلس يوم الأربعاء الرابع والعشرون من شعبان ونزلنا بأنطاكية في مستهل رمضان، وفي حالة النزول خرجت عساكرك إلى المبارزة فكسروا، وتناصروا فما نصروا، وأسر من بينهم كنداسطبل فسأل في مراجعى أقرانك ودخل إلى المدينة وخرج هو وجماعة من رهبانك وأعيان أعوانك فتحدثوا معنا فرأيناهم إلي رأيك من إتلاف النفوس بالغرض الفاسد. فلما رأيناهم قد فات فيهم الفوت وأنهم قد قدر الله عليهم بالموت رددناهم وقلنا نحن الساعة لكم نحاصر. فرجعوا متشبهين بفعلك ومعتقدين أنك تدركهم بخيلك ورجلك. وفتحناها بالسيف في الساعة الرابعة من يوم السبت رابع عشر من رمضان. وبعد هذه المكاتبة لا ينبغي لك أن تكذب خبراً كما أن بعد هذه المخاطبة يجب ألا تسأل غيرها مخبراً".

تفتكر "بيبرس" أكتفي بكده بس من أنطاكية، لا طبعا كان لازم يحط أخر تاتش، أهم من الشغل تظبيط الشغل. أمر "بيبرس" جنوده بأشعال النار في قلعة أنطاكيها، وزودوا فيها وخلوها نار عظيمة وعالية، شافتها كل الأمارات الصليبية من قرب أو على بُعد. 

كارثة أنطاكية عملت مفعولها، وأتهزلها كل الصليبيين في كل الإمارات الصليبية. كانت أولها لما هرب فرسان الداوية أو فرسان الهيكل الموجودين في بغراس على أوربا وسابوا الحصن فاضي أصلا. وبعت الملك "ديموند السادس" صاحب طرابلس رسالة للسلطان "بيبرس" رسالة بيطلب فيها منه التفاوض والصلح، وفعلا بدأ المفاوضات للصلح بين السلطان "بيبرس" مع الملك "بيموند السادس" حاكم قبرص واللي كان حاكم أنطاكية وطرابلس وبعد اللي حصل أصبح معاه في الشام طرابلس بس. 

الحقيقة أن السلطان "الظاهر بيبرس" كان بيعتبر الملك "بيموند السادس" هو أكبر عدو له، وده عشان "بيموند السادس" كان له دور فعال في الحروب الصليبية وكان صاحب تهديد مباشر لمصالح المسلمين في المنطقة. وكان بيخطط للتوسع وأستعادة الأراضي اللي راحت من الصليبيين تاني. 

 بعد ما فرض السلطان "بيبرس" سيطرته وهيبته على الإمارات الصليبية في سواحل الشام، وملا قلوب الصليبيين خوف وترقب من حركاته المفاجأة والعنيفة، فكل واحد لم نفسه جوا إمارته وأستخبوا في الشقوق. وده أدى الفرصة ل"بيبرس" أنه يبص على باقي مصالحه.

في سنة 667 هجرية / 1269 ميلادية، حصل خلاف ومشاحنات ونزاع بين أشراف مكة والمدينة، وكانت دي فرصة ذهبية ل"بيبرس" أنه يبسط نفوذه وسيادته فيها.في الأول بعت الشريف "بدر الدين ملك" رسالة للسلطان "الظاهر بيبرس" يدعوه فيها لحل النزاعات بينه وبين الأمير "جماز" في المدينة. بعتلهم"بيبرس" وقعد معاهم قعدة عرب ما بينهم وراضاهم، وقسم ما بينهم إمارة المدينة. وبعدها طلع بعت لأمراء مكة وفض الخلاف مابينهم وعقد معاهم إتفاق أنه هيبعتلهم ألف درهم كل سنة، بشرط أنهم مايخدوش مكوس - المكوس عبارة عن رسوم بتفرض على السلع أو التجارة أو الطرق والمعابر ودي غير الضرايب - من أهالي مكة نهائي، ومحدش له الحق في منع أي حاج جاي يزور بيت الله الحرام، ومحدش يتعرض للتجار، وترفع الخطبة بأسم السلطان في الحرم والمشاعر، وسك عملة مكة والمدينة عليها أسمه.

ولما الأمور أستقرت في الحجاز، خرج السلطان "الظاهر بيبرس" من مصر في شوال سنة 667 هجرية، وأتجه للحجاز عشان يحج، وأخد كسوة الكعبة في هودج المحمل السنوي اللي بيخرج كل سنة لمكة من مصر، ومعاه قاضي القضاة "صدر الدين سليمان الحنفي"، وصاحب ديوان الإنشاء "فخر الدين بن لقمان" و300 مملوك وحجاج مصر والمغرب وبعض الجنود لحماية قافلة الحجاج ومحمل كسوة الكعبة.

وفي أواخر ذي القعدة وصلت قافلة الحجاج المدينة المنورة، زار فيها السلطان والحجاج، قبر رسول الله صل الله عليه وسلم، وصلى في الروضة الشريفة. ومن بعدها أتحرك السلطان بقافلة الحجاج والمحمل لمكة، وأول ما دخلها علق بنفسه مع باقي المماليك كسوة الكعبة الشريفة. وبعد ما حج وخلصت الشعائر، أعطى لملماليك مبالغ كبيرة يوزعوها على كل حجاج بيت الله الحرام وأهل مكة. وبعدها قعد في مجلسه بمكة، وأعطى بنفسه لأكابر رجال الحجاز العطايا والفلوس، وزود فى الفلوس أكتر لأمير ينبع وأميرين مكة عشان يشجعهم يسهلوا للناس الحج لبيت الله الحرام، وعين نائب له في مكة. وبكدة قدر السلطان "الظاهر بيبرس" يرجع لمصر كمان نفوذها في الأراضي المقدسة بالحجاز.

(يتبع)

مروة طلعت
12/10/2024
الجزء الاول 
https://www.facebook.com/share/p/dHKjqH82wXYD8m56/?mibextid=oFDknk
الجزء الثاني 
https://www.facebook.com/share/p/TcGE4e5npC63CfwS/?mibextid=oFDknk
الجزء الثالث
https://www.facebook.com/share/p/3CWpLYExqUEheRfM/?mibextid=oFDknk
الجزء الرابع
https://www.facebook.com/share/p/LQpTcWvusxvUi8bE/?mibextid=oFDknk
الجزء الخامس
https://www.facebook.com/share/p/gyhwmTQVhHJVLZuS/?mibextid=oFDknk
الجزء السادس
https://www.facebook.com/share/p/4Z49Uto1wiWAQiSv/?mibextid=oFDknk
الجزء السابع
https://www.facebook.com/share/p/Yx4vD6KK4PKPKbPd/?mibextid=oFDknk
الجزء الثامن
https://www.facebook.com/share/p/ZCwCKUew3ysnQyT2/?mibextid=oFDknk
الجزء التاسع
https://www.facebook.com/share/p/guCAqC8dUmzW9E9h/?mibextid=oFDknk
الجزء العاشر
https://www.facebook.com/share/p/8kRo4aJVYmADB68K/?mibextid=oFDknk
الجزء الحادى عشر
https://www.facebook.com/share/p/46VfUKJyLsr4e8zK/?mibextid=oFDknk
الجزء الثانى عشر
https://www.facebook.com/share/p/2xEdCeUKXKVoCobu/?mibextid=oFDknk
الجزء الثالث عشر
https://www.facebook.com/share/p/cQe3udaX474RNsDz/
الجزء الرابع عشر
https://www.facebook.com/share/p/iRV6U6Q3NzrqLqyi/
الجزء الخامس عشر
https://www.facebook.com/share/p/BC757btSNUH6uLZU/
المصادر:
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ج3،4 - ابن تغري بردي.
السلوك لمعرفة دول الملوك ج1 - المقريزى.
تاريخ الخلفاء - الامام السيوطى.
سير أعلام النبلاء الطبقة 34 - الامام الذهبي.
المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار ج2 - المقريزي.
دولة الظاهر بيبرس في مصر - د/ محمد جمال الدين سرور.
دولة المماليك في مصر - سير وليم موير - ترجمة سليم حسن.
عصر سلاطين المماليك - أ.د/ عطية القوصي.
الظاهر بيبرس مؤسس دولة سلاطين المماليك بمصر - أ.د/ محمد مؤنس عوض.
النهج السديد في تاريخ المماليك - علي بن عبد الله بن أيوب النويري.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الليث بن سعد 5

"ان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فأعبدون" الجزء الأول

هل تعلم أن جدك الأكبر كان من آكلي لحوم البشر؟