الظاهر بيبرس البندقداري 14

(14) فى سنة 624 هجرى / 1227 ميلادى، قسم زعيم المغول "جنكيز خان"، إمبراطوريته بين أبنائه الأربعة "جوجى وجغتاى وأوغيداى وتولوى" قبل وفاته بفترة قصيرة، عشان يجنبهم الصراع فيما بينهم علي الحكم. "جوجى" أكبر أبناء "جنكيز خان" كان نصيبه بلاد القفجاق وهى البلاد اللى بين نهر أرتش والسواحل الجنوبية لبحر قزوين - البلاد اللى جه منها "بيبرس" فى الأصل - وكان غالب أهل بلاد القفجاق ترك وتركمان، وأتسمت قبيلة "جوجى" بالقبيلة الذهبية، وده عشان خيام معسكراتهم فيها كان لونها ذهبى. فى نفس سنة موت "جنكيز خان" مات بعده أبنه "جوجى" وأتقسمت بلاده بين أولاده ال 14. أشهر أبناء "جوجى" كان "باطو" إبنه التانى. فى سنة 635 هجرية / 1237 ميلادية مكتفاش "باطو" بنصيبه من شرق بلاد القفجاق، فأنطلق يغزو أوروبا وتوغل فى روسيا وبولندا والمجر، وشهرته بقت فى السما، وكل قبائل المغول أعتبروا "باطو" هو زعيم القبيلة الذهبية كلها شرق وغرب - القوى دايما بيفرض سيطرته - وأخد لقب "خان". فى سنة 653 هجري / 1255 ميلادى مات "باطو خان" وأخد الحكم من بعده أبنه "طرطق" لكنه مات بعد أبوه فى نفس السنة. راحت ساعتها زعامة القبيلة الذهبية لأخو "باطو خان" وتالت أبناء "جورجى بن جنكيز خان"، وهو "بيركاى خان" أو بالنطق العربى لأسمه "بركة خان". أتكلمنا عنده بشكل مختصر فى الجزء ال11 ممكن تراجعه.

فى يوم من أيام سنة 650 هجرية / 1252 ميلادية، قبل ما يبقي "بيركاى" زعيم القبيلة الذهبية، صادف أنه أتقابل مع قافلة تجارية جاية من بخارى - فى أوزبكستان حاليا - وقعد مع أتنين منهم واحد تاجر والتانى كان " نجم الدين مختار الزاهدي" واحد من علماء السنة الخوارزميين. أستغل "بيركاى" قعدته معاهم وبدأ يسألهم عن الإسلام اللى كان شاده بسبب سلوك وأخلاق المسلمين الحميدة اللى شافها فى بلاد الخفقاق، فكان "بيركاى" يسأل و "الزاهدى" يجيب ويشرحله شرح مقنع لحد ما أعتنق "بيركاى" الإسلام. ولما رجع لقبيلته صارح أصغر أخواته وأقربهم ليه بأمر إسلامه، وقعد يقنعه بالإسلام لحد ما أخوه كمان أسلم. وبدأ "بيركاى" أو "بركة" يحضر دروس الدين الجديد ويحفظ القرآن الكريم فى مدينة خوقند - فى أوزبكستان برده - وواحدة واحدة ناس تانيين من المغول فى القبيلة الذهبية يدخلوا فى الإسلام علي ايد "بركة". وفى سنة 1255 ميلادية لما أصبح "بركة خان" زعيم للقبيلة الذهبية، كانت معظم القبيلة بقت مسلمة، وجيش "بركة خان" كل كان كله مسلم. كان "بركة خان" سنى شديد الإيمان والتمسك بدينه، وكان معظم مجالسه ومحاوراته مع العلماء والفقهاء والمفسرين، وكان عنده مكتبة ضخمة من كتب علم الفقه والحديث. لدرجة أن كان مشهور عن جيش "بركة خان"، أن كل جندى فيه شايل مع أمتعته سجادة صلاة، ولما يحين وقت الصلاة فى أى مكان، الجنود كلها بتنزل من على دوابهم ويفردوا السجاجيد ويقيموا الصلاة جماعة.

طبعا "بركة خان" كان جايب العصبى لإبن عمه "هولاكو"، وكان الشوكة فى زور "هولاكو"، وحصل تمزق بسبب "بركة خان" فى صفوف المغول لأنه كان رافض كل تصرفات "هولاكو" من غزو بلاد الاسلام بالوحشية دى، ووصلت الصراعات ما بينهم لقمتها لما غزا "هولاكو" بغداد وقتل الخليفة "المستعصم" فيها وقضي علي الخلافة العباسية. وبسبب وجع الراس اللى مسببه "بركة خان"، أعلن "هولاكو" أن القبيلة الذهبية خلاص كده مبقوش تبع المغول، وميحقلهمش نصيب من أى غنايم حرب.

فى سنة 659 هجرية / 1261 ميلادية، بعت "بيبرس" رسله ل"بركة خان" بيطلب منه التحالف، وبيغريه بقتال مشترك ضد"هولاكو" اللى وقتها كان بينه وبين "بركة خان" عشان ياخد منه أراضيه. مخدش "بركة خان" وقت فى التفكير ووافق على طول، وتحالف مع السلطان "الظاهر ركن الدين بيبرس" ضد "هولاكو".

"هولاكو" لما سمع بالتحالف ده تفتكر سكت، أبدا... ده قام "هولاكو" عمل تحالف مماثل بس مع الصليبيين وخصوصا مع الملك "هيثوم" - راجع الجزء ال 13 - ملك أرمينية. التحالف اللى حصل مع "بركة خان" مش بس ساعد "بيبرس" أن كل ما المغول يفكروا يغيروا علي بلد من مملكته، يجى "بركة" من وراهم بجيشه مديهم مقص مرجعهم تانى لورا، ده كمان نشر الإسلام أكتر فى القبيلة وبين الزعماء والقبائل اللى حوالين القبيلة الذهبية.

فى بداية التحالف اللى بين "بركة خان" و "بيبرس"، بعت "بركة خان" رسول ل"بيبرس" فى القاهرة برسالة قاله فيها: "فليعلم السلطان أننى حاربت هولاكو الذى من لحمى ودمى لإعلاء كلمة الله العليا تعصباً لدين الإسلام لأنه باغى والباغى كافر بالله ورسوله. وقد سيرت قصادى ورسلى صحبة رسل السلطان. ووجهت "ابن شهاب الدين غازى" معهم لأنه كان حاضراً فى الواقعة ليحكى للسلطان ما رآه بعينه من عجائب القتال، ثم ليوضح لعلم السلطان أنه موفق للخيرات والسعادات، لأنه أقام إماما من آل عباس فى خلافة المسلمين وهو الحاكم بأمر الله فشكرت همته وحمدت الله تعالي علي ذلك لا سيما لما بلغنى توجهه بالعساكر الإسلامية إلي بغداد وإستخلاص تلك النواحى من أيدى الكفار".

السلطان "الظاهر بيبرس" كتب رده على رسالة "بركة خان" علي 70 ورقة بغدادية، وما أدراك ما الورق البغدادى. الورق البغدادى ده ياسيدى كان أجود أنواع الورق وكانت الصفحة تخينة وكبيرة كده وعريضة، وكان بيستعمل فى كتابة المصاحف، وكان كبار الملوك بيكتبوا عليه مراسلاتهم للناس اللى تستاهل مش لأى حد، يعنى مجرد ما يوصل لملك رسالة مكتوبة علي ورق بغدادى معناها لوحده تشريفى كبير جدا. تخيل بقي ده بعتله رسالة فى 70 ورقة منه حاجة عظمة العظمة يعنى مش أى كلام. وكتبله "بيبرس" رسالة كلها مدح وشكر وبيشدد علي أنهم مسلمين زى بعض والمسلم أخو المسلم، إنما "هولاكو" ده عدو وميعتبرش خلاص من دمه ده وجب عليه محاربته بحكم الإسلام، ووصفله كمان جيشه وجنوده اللى فى دمهم حب الجهاد والدفاع عن الإسلام. وبعتله كمان مع الرسالة هدايا عبارة عن مصحف مكتوب بالخط العثمانى، وسجادات صلاة ملونة كتير، وسيوف وخوذ مذهبة، ومشاعل وسروج خوارزمية، وقناديل مذهبة، وخيول عربية، وملابس مطرزة فاخرة ليه ولحريمه والحاشية، وأوانى خزف وصوانى، وفوق منهم فيل وزافة، يلا بقي. وكمان أمر الخطباء علي كل منابر مكة والمدينة والقدس والقاهرة، يدعوا للملك "بركة خان".

خرج الأمير "فارس الدين أقوش المسعودى" والأمير "الشريف عماد الدين الهاشمى" رسل السلطان "الظاهر بيبرس" من القاهرة شايلين رسالته ل "بركة خان" علي راس قافلة شايلة كل الهدايا دى، وفى سكتهم عدوا علي القسطنطينية. فى الوقت ده كان السلطان "الظاهر بيبرس" عامل تحالف برده مع "ميخائيل باليولوجس" - راجع الجزء ال 11 - إمبراطور بيزنطة، وعاصمتها القسطنطينية. دخلت قافلة السلطان علي ملك بيزنطة، فرحب بيهم وأكرمهم وأكلهم وشربهم ونيمهم، ووعدهم يساعدهم بجنوده كحماية ليهم وهم بيعدوا للبلاد الشمالية عشان يوصلوا ل"بركة خان" فى بلاد القفجاق. لكن الملك "ميخائيل" فضل يماطل فى الرسل ويقولهم خليكوا لبكرة طب خليها بعده، أصل "هولاكو" بعتلى رسل وممكن يشوفوكوا وأنا خايف عليكوا، خليكوا لحد ما يمشوا. المهم أن الملك "ميخائيل" فضل راكن الرسل ورسالتهم وهداياهم جنبه فى القسطنطينية لمدة سنة و 3 شهور، لحد ما مات الفيل والزرافة اللى كانوا من ضمن الهدايا.

السلطان "الظاهر بيبرس" مكنش عاوز يعمل تصرف مع ملك بيزنطة مش لطيف يخسره حليف ويربيله عدو جديد، ففكر فى فكرة برة الصندوق. بعت السلطان "الظاهر بيبرس" للبطارقة والأساقفة اللى عنده فى مصر، وقعد معاهم يسألهم، قالهم إيه جزاء اللى ينقض العهد فى المسيحية، ردوا عليه وقالوله يحرم من دينه، قالهم حلو أوى إكتبولى بقي الكلام ده وأمضوا عليه. وبعت السلطان "الظاهر بيبرس" إقرار البطارقة والأساقفة و رسالة شخصية منه فيها كلام عنيف من كلامه اللى بيطير الجبهة، مع راهب يونانى وقسيس وأسقف يروحوا يسلموهم لملك بيزنطة "ميخائيل باليولوجس" فى القسطنطينية.

وصل الراهب والقسيس والأسقف لملك بيزنطة وسلموه إقرار البطارقة والأساقفة ورسالة "بيبرس"، وأول ما قراهم خرج رسل السلطان الظاهر من عنده مع كتيبة حماية لحد ما وصلهم عند "بركة خان" فى بلاد القفجاق. بس بجد ملعوبة عجبتنى الحركة.

أول ما وصل الرسل بقافلتهم وهداياهم ووقفوا بين إيد "بركة خان"، أستلم منهم الرسالة وسلمها لوزيره اللى بيجيد اللغة العربية عشان يقراهاله ويترجمهاله. وبعد ما سمع "بركة خان" الرسالة تهللت أساريره وأنبسط، وأحتفل برسل السلطان وأستضافهم فى قصر زوجته "ججك خاتون"، وكل شوية كان يستدعيهم ويقعد معاهم ويتكلم ويسألهم عن النيل وشكله، وشكل المطر فى مصر، وسألهم عن الفيل والزرافة اللى بعتهم السلطان عشان كان ذاكرهم فى الرسالة، فقالوله تعيش أنت يا حاج. قعد الرسل عند "بركة خان" 26 يوم بيحتفى بيهم، وبعدين خدوا بعضهم ورجعوا علي مصر. لما رجعوا مصر حكوا للسلطان "الظاهر بيبرس" وعبروله قد إيه كانوا منبهرين بمدى تدين القبيلة الذهبية، وقالوله تخيل يا مولاى أن كل أمير وأميرة فى بلاط "بركة خان" له إمام ومؤذنه الخاص، وإن كل الأطفال بيحفظوا القرآن الكريم فى المدارس.

فضلت المراسلات والهدايا رايحة جاية بين "بركة خان" و"بيبرس"، وفضلت أواصر الود والتعاون مابينهم، وفضل "بيبرس" شوكه فى زوره "هولاكو" و"بركة خان" شوكة فى ضهره. جننوه الاتنين بقي مش ملاحق، ياخد القلم من "بيبرس" يلف ياخد القلم التانى من "بركة خان".

فى يوم كان فيه 200 جندى من القبيلة الذهبية مكنوش علي الاسلام، أنشقوا من جيش "بركة خان" وهربوا علي سوريا ومنها علي مصر وهم متخفيين. لكن حراس السلطان كانوا مصحصحين وكشفوهم وقبضوا عليهم، قالوا بس كده جالك الموت يا تارك الصلاة. لكن السلطان "الظاهر بيبرس" أستقبلهم بحفاوة وترحاب عكس ما كانوا متوقعين خليتهم مندهشين، وخلاهم يقيموا معاه فى القلعة فى الأول، لحد ما جهزلهم بيوت أتبنت لهم مخصوص فى منطقة اللوق - باب اللوق يعنى- وبعت معاهم عطايا وفلوس وملابس. وشوية بشوية لما أختلطوا مع الناس فى مدينة الألف مئذنة، إقتنعوا بالإسلام وأسلموا. ساعتها دخلهم السلطان "بيبرس" فى سلك المماليك وملكهم إقطاعات زيهم زى بقى الجنود فى الجيش. وبسبب معاملة "بيبرس" الحسنة دى، شجعت بعد كده المغول المسلمين من القبيلة الذهبية أو غيرها من باقى القبائل أنهم يجوا القاهرة ويدخلوا كجنود فى جيش السلطان "الظاهر ركن الدين بيبرس".

فى سنة 663 هجرى / 1265 ميلادية مات زعيم المغول "هولاكو"، وأتولي مكانه أبنه "أباقا" أو "أباغا". وفى سنة 665 هجرى / 1267 ميلادى توفى زعيم القبيلة الذهبية "بركة خان"، وأتولي من بعده إبن أخوه "منكوتمر".

(يتبع)

مروة طلعت
5/10/2024
الجزء الاول 
https://www.facebook.com/share/p/dHKjqH82wXYD8m56/?mibextid=oFDknk
الجزء الثاني 
https://www.facebook.com/share/p/TcGE4e5npC63CfwS/?mibextid=oFDknk
الجزء الثالث
https://www.facebook.com/share/p/3CWpLYExqUEheRfM/?mibextid=oFDknk
الجزء الرابع
https://www.facebook.com/share/p/LQpTcWvusxvUi8bE/?mibextid=oFDknk
الجزء الخامس
https://www.facebook.com/share/p/gyhwmTQVhHJVLZuS/?mibextid=oFDknk
الجزء السادس
https://www.facebook.com/share/p/4Z49Uto1wiWAQiSv/?mibextid=oFDknk
الجزء السابع
https://www.facebook.com/share/p/Yx4vD6KK4PKPKbPd/?mibextid=oFDknk
الجزء الثامن
https://www.facebook.com/share/p/ZCwCKUew3ysnQyT2/?mibextid=oFDknk
الجزء التاسع
https://www.facebook.com/share/p/guCAqC8dUmzW9E9h/?mibextid=oFDknk
الجزء العاشر
https://www.facebook.com/share/p/8kRo4aJVYmADB68K/?mibextid=oFDknk
الجزء الحادى عشر
https://www.facebook.com/share/p/46VfUKJyLsr4e8zK/?mibextid=oFDknk
الجزء الثانى عشر
https://www.facebook.com/share/p/2xEdCeUKXKVoCobu/?mibextid=oFDknk
الجزء الثالث عشر
https://www.facebook.com/share/p/cQe3udaX474RNsDz/
المصادر:
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ج3،4 - ابن تغري بردي.
السلوك لمعرفة دول الملوك ج1 - المقريزى.
تاريخ الخلفاء - الامام السيوطى.
سير أعلام النبلاء الطبقة 34 - الامام الذهبي.
المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار ج2 - المقريزي.
دولة الظاهر بيبرس في مصر - د/ محمد جمال الدين سرور.
دولة المماليك في مصر - سير وليم موير - ترجمة سليم حسن.
عصر سلاطين المماليك - أ.د/ عطية القوصي.
الظاهر بيبرس مؤسس دولة سلاطين المماليك بمصر - أ.د/ محمد مؤنس عوض.





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الليث بن سعد 5

"ان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فأعبدون" الجزء الأول

هل تعلم أن جدك الأكبر كان من آكلي لحوم البشر؟