الظاهر بيبرس البندقدارى 9
(9) فكر السلطان "الظاهر بيبرس البندقدارى" الطموح لتأسيس قواعد دولة تعيش أجيال، أن حلمه مش هيتحقق بالطريقة دى مهما كان فالكترة بتغلب الشجاعة، وهيجى الوقت اللى ممكن يضعف فيه أو يتخان ويلاقى نفسه بين يوم وليلة برة كرسى السلطنة أو برا الحياة عموماً. "بيبرس" كان مدرك كويس أنه تسلق الحكم من باب القوة لكنه والمماليك طلعوا ولا نزلوا مجرد عبيد، ملهمش جدر ولا أصل يتحاموا فيه ويتسندوا عليه. "بيبرس" كان محتاج سند يتحامى فيه ويخرس بيه كل الألسنة ويوأد بيه كل التمردات. والمثل بيقول اللى ملوش كبير بيشتريله كبير، حتى لو الكبير ده خيال مآتة بس الناس بتحترمه. وهنا جت الفكرة ل "بيبرس" أنه يعيد أحياء الخلافة العباسية وتكون مقرها فى القاهرة.
لو رجعنا بالزمن لورا شوية، لحد يوم 3 يناير سنة 1258 ميلادية، كان ده اليوم اللى أنتصر فيه جيش المغول بقيادة "هولاكو" على جيش الخليفة العباسى "المستعصم". ودخل "هولاكو" بغداد عاصمة الخلافة العباسية من غير أى مقاومة، وعاث المغول فى بغداد فسادا، بين قتل ونهب وسلب وحرق وأغتصاب وخطف، وأتدمرت تماماً بلد الرشيد وضاع تراثها وكتير من التراث الاسلامى علي أيد جيش المغول الوحشى. وقبض "هولاكو" علي الخليفة العباسى "المستعصم" وقتله هو وكل أهل بيته ماعدا اللي قدر يهرب منهم ودول كانوا قلة جدا. وبكدة أنتهت الدولة العباسية بعد 500 سنة فى الخلافة.
علي الرغم من أن الدولة العباسية كانت ضعيفة وهشة من وقت طويل والبلاد الاسلامية اللى مفروض تابعة ليها أتقسمت لدول كتيرة وتعاقب عليها سلاطين كتير، وعلي مدار التاريخ كانت فيه دول بتظهر وتختفى ويرجع غيرها يظهر ويختفى، لكن فضل السلاطين متمسكين برداء الخلافة العباسية يستظلوا بيه، رغم أنه كان رداء شاش مش قطن حتي، لكن كانت الخلافة العباسية مجرد رمز للدولة الاسلامية السنية. وزاد أهمية وجودها فى الصورة لما قامت الدولة الفاطمية والحركات الاسماعيلية "الحشاشين"، كعنوان لوجود سنة فى المنطقة وليها زعامة - المؤرخين عصر حكم وقت الدولة الفاطمية بعصر الشيعة لأنها كانت واخدة كل البلاد من المغرب لحد الجزيرة العربية - ولما أنتهى الفاطميين شال سلاطين البلاد برده راية الخلافة العباسية كدولة اسلامية سنية موحدة حتى لو كل سلطان خدله حتة. فكانت الخلافة حاجة مهمة جدا لتثبيت الحكم الاسلامى السنى الشرعى.
"بيبرس" لما فكر يشتريله كبير، مكنش فيه بقى أكبر من خيال مآتة الخلافة العباسية ورداءها الشاش، اللى بوجودها جنبه ومعاه هتخرس كل الألسنة عنه. بس أجيبها منين دى دلوقتى يا عبد الرحيم.
ربك لما يريد بيسبب الأسباب، وربنا أراد أنه يبعت ل"بيبرس" الحل فى نفس وقت تفكيره. وصلت ل"بيبرس" رسالة من الأميرين "علاء الدين أيدكين البنقدارى" و "علاء الدين طيبرس"، أن فيه راجل وصل دمشق بيدعى أنه "أبو القاسم أحمد بن الخليفة الظاهر أبو النصر محمد بن الخليفة الناصر لدين الله أحمد بن الخليفة المستضئ لدين الله العباسى" ومعاه جماعة من قبيلة عرب خفاجة. "بيبرس" قرا الرسالة من هنا وسجد شكر لله، وبعت الرد فى الحال علي وجه السرعة، بيطلب من الأمراء يحسنوا وفادته ويكرموه، وبعدها يبعتوه علي مصر وسط حرس تشريفة وموكب.
في سنة 659 هجرية / 1261 ميلادية، وصل "أبو القاسم أحمد العباسى" فى موكبه للقاهرة، وعلى أبواب القاهرة كان واقف فى أستقباله تشريفة ضخمة ومحترمة، على رأس موكب الاستقبال كان "بيبرس" والوزير "بهاء الدين بن حنا" وقاضى القضاة "تاج الدين بن بنت الأعز" وأمراء المماليك والجنود والعساكر، والعامة من المسلمين واليهود واقفين شايلين التوراه والمسيحيين واقفين وشايلين الانجيل. أستقبال عظيم ومهيب لخليفة المسلمين اللى هيرجع الخلافة العباسية تانى للصورة السياسية. وأول ما ظهر "أحمد العباسى" نزل "بيبرس" من على حصانه وأستقبله وهو ماشى على رجله دليل على الاحترام الشديد، ولما نزله "أحمد العباسى" من حصانه، أحتضنه "بيبرس" ولبسه وشاح الخلافة العباسية. وأتحرك الموكب الضخم العظيم ده ورا الخليفة الجديد "وبيبرس" وسط العامة اللى بتهتف بحياة خليفة المسلمين وترمى عليه الورد، وهم بيكبروا ويهللوا، لحد ما وصلوا لقعلة الجبل. ولما وصلوا أصر "بيبرس" على دخول الخليفة قصاده الأول، ولم دخلوا قاعة الحكم قعد "بيبرس" الخليفة على كرسى العرش، وقعد "بيبرس" علي وسادة فى الأرض عشان ميبقاش على نفس مستوى قعدة الخليفة، خبيث أوى "بيبرس" ده.
وبعد الترحيب بالخليفة، وفرد الموائد والولائم للخليفة والأمراء ولعامة الناس فى الشوارع، وبعد ما أستريح الخليفة من مشواره من تعب اليوم، أمر "بيبرس" بعقد مجلس فى قاعة الأعمدة، ضم فيه القضاة والعلماء والأمراء وكل رجال الدولة وحضر المجلس ده الشيخ "العز بن عبد السلام"، وحضر كمان جماعة عرب خفاجة اللي كانوا مع الخليفة فى دمشق. فلما أنتظم المجلس نادى "بيبرس" على عرب خفاجة يشهدوا ويحلفوا على المصحف بأن الراجل ده هو نفسه "أبو القاسم أحمد بن الخليفة الظاهر أبو النصر محمد بن الخليفة الناصر لدين الله أحمد بن الخليفة المستضئ لدين الله العباسى" قصاد قاضى القضاة "تاج الدين ابن بنت الأعز"، فأقروا وشهدوا أنه هو المذكور سليل العباسيين. فقِبل قاضى القضاة شهادتهم وحكم بصحة نسبه وبايعه بالخلافة، وقام "بيبرس" يقبل يد الخليفة الجديد وبايعه بالخلافة، ومن وراه قام كل الحضور يقبلوا يد الخليفة ويبايعوه بالخلافة، وأتلقب الخليفة بلقب "المستنصر بالله العباسى".
بعت "بيبرس" رسايله لكل البلاد الخاضعة لمملكته فى مصر والشام بيأمرهم بإرسال مبايعاتهم للخليفة "المستنصر بالله العباسى"، وأمر كمان سك العملة عليها أسمه جنب أسم الخليفة، وأمر بالدعاء للخليفة قبل الدعاء له فى كل جوامع مصر والشام فى كل خطبة جمعة. مش بس كده ده طلب "بيبرس" من الخليفة "المستنصر بالله العباسى" أنه يخطب ويصلى بالناس بداله يوم الجمعة فى جامع القلعة، وكانت خطبة الخليفة عبارة عن شكره لفضل الملك "الظاهر بيبرس" فى رد الخلافة لبنى العباس.
على الرغم من أن "بيبرس" كان حريص على التأكد من نسب "المستنصر بالله" لبنى العباس، إلا أن فيه بعض المؤرخين شككوا فى نسبه، عشان "المستنصر بالله أحمد" كان أسود اللون عكس خلفاء بنى العباس، لدرجة أن "أبو الفدا" صاحب كتاب المختصر فى أخبار البشر وصف الخليفة وقال عليه: "المستنصر بالله الأسود". لكن معظم المؤرخين هدموا التشكك ده وقالوا أن الخليفة "المأمون" كان أسمر، وكمان أم "المستنصر بالله" أصلا كانت حبشية، فلونه الأسود ده عادى وطبيعى.
"بيبرس" شاف أنه يتمم مراسمه فى أعادة أحياء الخلافة العباسية، بحاجة تقوى عرشه ضد أعداؤه من المماليك وتحاوط عرشه بسياج من الهيبة والاحترام، وده عن طريق عقد اجتماع تانى بس المرة دى عشان يخلى الخليفة "المستنصر بالله" يفوضه بالسلطة، وهو ده السبب الرئيسى فى كل الهيصة اللى عملها دى.
في يوم 4 شعبان سنة 659 هجرية / 1261 ميلادية، خرج "بيبرس" للمطرية وهناك أقاموا خيمة كبيرة، وقعد فيها الخليفة "المستنصر بالله" والملك "الظاهر بيبرس" وبين أيديه الأمراء المماليك. وقام صاحب ديوان الانشاء القاضى "فخر الدين بن لقمان" يقرأ على الأمراء منشور الخليفة "المستنصر بالله" اللى بيفوض فيها الملك "الظاهر بيبرس" بالسلطة. ولما خلص "بن لقمان" القراءة، قام الخليفة "المستنصر بالله" يلبس الملك "الظاهر بيبرس" خلعة السلطنة - عبارة عن جبة بنفسجى وعمامة سودا وطوق دهب وسيف - وبعدها طلع موكب احتفالى بالمبايعة ماشيين على سجاد من باب النصر في الجمالية - لقلعة الجبل، وعلى راس الموكب كان الملك "المظفر بيبرس" على حصانه وهو لابس خلعة السلطنة، وجنبه الخليفة "المستنصر بالله" على حصانه، ووراهم الوزير "بهاء الدين حنا" على حصانه ورافع منشور التفويض بايديه - عشان كل العيون تشوفها ومحدش يفتح بقه تانى - ووراهم كل الأمراء والحضور ماشيين على رجليهم.
وبكدة تم للملك "الظاهر بيبرس" مراده، وأصبحت سلطنته شرعية ووجوده راسخ بتفويض رسمى من الخليفة العباسى خليفة المسلمين "المستنصر بالله".
(يتبع)
مروة طلعت
تعليقات
إرسال تعليق