جهاركس الخليلي
فاكرين فيلم "أخر الرجال المحترمين" بطولة الفنان العظيم "نور الشريف" رحمة الله عليه، الفيلم اللي أتسبب في أني عمري ما طلعت رحلة مدرسية في حياتي. طب فاكر ازاي أستاذ "فرجاني" قدر يعرف "نسمة" البنت اللي أتخطفت من الرحلة مكانها فين؟. أيوه طبعا فاكر ما هو فيلم علامة في جيلنا الحقيقة، هو لقي فستانها لبساه بنت في مقلب الزبالة - أعزكم الله - الرئيسي للقاهرة الكبري. أحنا بقي حكايتنا عن المقلب ده أصله له حكاية عمرها 600 سنة.
كان يا مكان في سالف العصر والأوان كان فيه مشكلة بتواجه المصريين كل ما تحصل أمطار غزيرة أو سيول، كانت مياة السيل دي بتتجمع وبتنزل بغزارة شديدة من فوق المقط علي القاهرة. ساعتها الخليفة الفاطمي "الحاكم بأمر الله"، واللي حكم من 19 أكتوبر 996 م الي 19 فبراير 1021م، فكر في حل للمشكلة اللي بتغرق عاصمته القاهرة مع كل سيل. أمر "الحاكم بأمر الله" بتجميع الرمل والأتربة والحجارة من كل مكان بكميات كبيرة جدا، وتشكيلهم علي شكل كذا كومة عالية وضخمة في الناحية الشرقية من أبواب القاهرة بينها وبين المقطم في منطقة أسمها البرقية علي مساحة 80 فدان تقريبا، عشان تحجب مياة المطر والسيول عن القاهرة. فحطوهم كومة جنب كومة جنب كومة فبقت "كيمان البرقية".
وفي سنة 1176م مع بداية حكم "صلاح الدين الأيوبي"، أمر ببناء وتكملة أسوار القاهرة وخلاها تلف وتحاوط عواصم مصر الاسلامية كلها مش بس القاهرة وهم ( الفسطاط - العسكر - القطائع - القاهرة ) واللي هم حاليا (مصر القديمة، السيدة زينب، الخليفة، الدرب الأحمر، الجمالية)، السور كان علي شكل مثلث قاعدته في الشمال وضلعه الغربي علي نهر النيل وضلعه الشرقي في نصه قلعة الجبل أو قلعة صلاح الدين، وبالتالي السور ضم معاهم "كيمان البرقية". فضلت من بعدها "كيمان البرقية" منطقة مهجورة وبالتدريج أتحولت لخرابة كبيرة لأنها منطقة شاسعة جدا، وبما أنها خرابة فبقت المكان المفضل والمميز لتجمع الزبالة.
في سنة 1994م، أتفق برنامج دعم المدن التاريخية مع الحكومة المصرية علي تنضيف المقلب واستغلال المساحة الواسعة دي في انشاء حديقة عامة علي نفقة البرنامج الخاصة. وفعلا أشتغل المشروع وأتكلف 100 مليون جنية عشان في سنة 2005م يتم أفتتاح أضخم وأجمل حديقة عامة للزائرين علي مساحة 80 فدان، وهي "حديقة الأزهر". يعني "كيمان البرقية" ومقلب الزبالة الرئيسي للقاهرة زمان هو دلوقتي "حديقة الأزهر".
يجي بقي السؤال المهم، ايه اللي يخلي برنامج دعم المدن التاريخية يتكلف بمبلغ كبير أوي كده ومشروع متعب كده عشان يعمل حديقة عامة؟. برنامج دعم المدن التاريخية ده تابع لصندوق الاغاخان للثقافة، وصاحبها الأغاخان كريم الحسيني حفيد الخليفة الفاطمي "المستنصر بالله" وكبير طائفة الاسماعيلية النزارية، اللي أسسها "الحسن بن الصباح" مؤسس طائفة الحشاشين - حكاية الحشاشين كاملة في 7 أجزاء في صفحة عايمة في بحر الكتب - وده معناه أن غرضه أحياء الاثار الفاطمية اللي عملها أجداده. بس في منطقة حديقة الأزهر مكنش الغرض الأساسي "كيمان البرقية" اللي عملها جده الأكبر "الحاكم بأمر الله" ده فيه أمر تاني أكبر من كده.
لما دخل "المعز لدين الله الفاطمي" مصر سنة 972م، كان جايب معاه توابيت فيهم رفات والده وأجداده عشان يدفنهم في القاهرة عاصمته الجديدة اللي أنشأهاله قائده "جوهر الصقلي". وأختار مكان قريب من جامع الأزهر اللي بناه برده "جوهر الصقلي" من ضمن منشآت القاهرة وقريب من قصر الخلافة، وعملها مقبرة دفن فيها الجثامين وأتسمت بال"تربة المعزية" نسبه لأسم "المعز لدين الله"، وأتسمت كمان "تربة الزعفران" وده بسبب أهتمام "المعز بيها وبشكلها الجمالي وحولها من جمالها كأنها حديقة، لدرجة أنه خلا الزيارة لتربة الزعفران بتذاكر، تربة ترد الروح. قال عنها "المقريزي": "كان من جملة القصر الكبير التربة المعزية، وفيها دفن المعز لدين الله آباءه الذين أحضرهم في توابيت معه من بلاد المغرب وهم الإمام المهدى عبيد الله وابنه القائم بأمر الله محمد وابنه الإمام المنصور، واستقرت مدفنا يدفن فيه الخلفاء وأولادهم ونساؤهم وكانت تعرف بتربة الزعفران، وهو مكان كبير من جملتها الموضع الذي يعرف اليوم بخط الزراكشة العتيق ومن هناك بابها". ادفن فيها بعدهم "المعز لدين الله" نفسه وكل خلفاء الفاطميين وزوجاتهم وأولادهم لحد ما أنتهت الخلافة الفاطمية.
- طيب وايه علاقة الكلام ده بحديقة الأزهر وأغاخان؟.
= ياعم حلمك بس، صبرك بالله أديك بتسمع أنت خسران حاجة.
لما أنتهي الفاطميين وبدأ العصر الأيوبي، أهمل "صلاح الدين الأيوبي" عن عمد كل المعالم الفاطمية، عشان ينسي الناس المذهب الشيعي وأيامه وذكرياته. وكان من ضمن المعالم الفاطمية اللي أهملت كانت تربة الزعفران، فتحولت من جنة لخرابة، مكان مخيف موحش يتخاف منه ومحدش بيقربله. وأتسرق منه كل نفيش وغالي من دهب وأحجار كريمة وقناديل كانت بتزين المقابر والأبواب.
هنجري كده بالزمن بعد الفاطميين وبعد الايوبيين وندخل علي المماليك لحد عصر "السلطان برقوق" (1382م – 1389م) أول سلطان في المماليك الشركسية. "السلطان برقوق" كان معين الأمير "شمس الدين جهاركس الخليلي" في وظيفة أمير أخور يعني المشرف علي كل الأسطبلات والخيل والجمال والبريد. "جهركس الخليلي" أصله من مدينة الخليل بفلسطين، عشان كدة لقبه "الخليلي".
الأمير "جهاركس الخليلي" كان معاه قرشين حلويين ونفسه يستثمره ويعمل بيه مشروع، فملقاش أحسن من أنه يعمله سوق تجاري، وده لأن القاهرة كانت في الوقت ده تعتبر مركز تجاري عالمي قبل اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح كانت كل السفن بتحط رحالها في مصر قبل ما تكمل رحلتها، فكانت القاهرة مليانة بالتجار من الشرق والغرب. "جهاركس الخليلي" كان عاوز مكان مميز في قلب القاهرة في وسط البلد يعني، عشان يبقي سهل الوصول ليه. بص "جهاركس الخليلي" حواليه ملقاش أنسب من مكان "تربة الزعفران" يشيد فيه مشروعه التجاري. بس المكان مكان مقابر وللموت حرمة مقدسة عند المسلمين.
حب "جهاركس الخليلي" يرضي ضميره أو يكون في ايده حجة يسكت بيها جموع العامة اللي هتغضب أكيد لنبش قبور الموتي، فراح يستفتي شيخ حنفي - علي مذهب الامام "أبي حنيفة النعمان" - بيشتغل في الافتاء أسمه "شمس الدين محمد القليجي"، وقاله ياشيخ عاوز أنبش قبور الفاطميين وأهدها عشان أبني مكانهم سوق تجاري هيعود بالفايدة علي البلد. رد عليه الشيخ "القليجي" وقاله أنبش ووهد وأردم عادي دي رفات كفار رفضة.
أخد "جهاركس الخليلي" الموافقة والحجة اللي عاوزها ونزل العمال علي تربة الزعفران يهدوا وينبشوا القبور ويطلعوا الرفات والعضم، ولموهم علي عربيات كارو، والعربجية لمتهم ورموهم في مقلب زبالة "كيمان البرقية".
ورغم أن الفتوي موجودة إلا أن العامة كانوا مدايقين وقلبهم مقبوض من اللي بيحصل ده ورافضين لأسلوب أهانة الموتي بالشكل ده، لكن ما باليلد حيلة ميقدروش يقفوا في وش المماليك، ففضلوا يحسبنوا علي "جهاركس الخليلي" بصوت واطي عشان الحيطان لها ودان.
"جهاركس الخليلي" بعد ما جهز الأرض ومهدها ووضبها بني عليها مشروعه اللي بيحلم بيه، وعمل أكبر خان سنة 1382م، والخان ده زي المول التجاري كده أيامنا بس بيبقي ملحق بيه أماكن لأقامة التجار الأجانب بأجر زي الفنادق كده، وأتسمي الخان بأسمه وبقي "خان الخليلي".
بعد ما حقق "جهاركس الخليلي" حلمه وبقي من أصحاب الأملاك الواسعة، أمره "السلطان برقوق" يطلع ب 500 مملوك علي دمشق عشان يقضي علي الأمراء اللي خرجوا من طاعة السلطان هناك في معركة الناصري سنة 1389م، لكنه أنهزم هناك في المعركة والمماليك اللي تبعوا طلعوا يجروا ويهربوا بحياتهم، حتي "جهاركس" نفسه طلع يجري لكنه تاه في الصحرا، ومات "جهاركس الخليلي" من الجوع والعطش والشمس وجثته أكلتها الحيوانات المفترسة. المقريزي شمت في "جهاركس الخليلي" وكتب وقال: " أفضل جزاء على ما فعله من نبش لقبور الموتى والاستهانة بها وإلقائها في المزابل". وكتب وقال برده: "“وقتل الخليلي وترك على الأرض عاريا وسوءته مكشوفة، وقد انتفخ وكان طويلا عريضا إلى أن تمزق وبلي عقوبة من الله تعالى بما هتك من رمم الأئمة وأبنائهم، ولقد كان عفا الله عنه عارفا خبيرا بأمر دنياه، كثير الصدقة، ووقف هذا الخان وغيره على عمل خبز يفرّق بمكة على كل فقير، منه في اليوم رغيفان، فعمل ذلك مدّة سنين، ثم لما عظمت الأسعار بمصر وتغيرت نقودها، من سنة ست وثمانمائة، صار يحمل إلى مكة مال ويفرّق بها على الفقراء”."
حتي "خان الخليلي" اللي كان فرحان بيه متهناش بيه، وكمان لما السلطان "قنصوة الغوري" حكم من 1500م الي 1516م، هدم الخان وخلاه محلات تجارية وبس وغير شكله وكتب علي بابه الموجود لحد الآن " أمر بانشاء هذا المكان السلطان الملك الاشرف ابو النصر قنصوة الغورى عز نصره ".
يبقي الأغاخان "كريم الحسيني" لما صرف وكلف مكنش بس عشان "كيمان البرقية" ده عشان رفات أجداده من الخلفاء الفاطميين. يبقي أنت لما تروح تتفسح في حديقة الأزهر أبقي خليك عارف أنك ماشي علي رفات "المعز لدين الله الفاطمي" وسلساله من بعده من الفاطميين اللي كانوا في تربة الزعفران اللي اتنبشت علي ايد "جهاركس الخليلي" وبقي مكانها "خان الخليلي".
مروة طلعت
تعليقات
إرسال تعليق