محمد كريم 3
(3) درسنا في منهج المدرسة أن الحملة الفرنسية علي مصر ترأسها 3 جنرالات ورا بعض بالترتيب "نابليون" و "كليبر" و "مينو". لكن أكثرهم خبث من وجهة نظري كان "مينو". يوم 6 يوليو سنة 1798م، لما وصل "مينو" رشيد، فوجئ بأستقبال الأهالي له ولفرقته بالترحاب وده بسبب "عثمان بك خجا" حاكم رشيد المملوكي اللي كان مشرب أهل رشيد المر، فلما شافوا سفن "مينو" أتعلقوا بيه زي الغريق اللي بيتعلق بقشة، وأستغل "مينو" الفرصة وبقي يتقرب من الناس ويتدحلب ويضحك عليهم ويوهمهم أنه زيهم وبيحب وبيحترم الدين الاسلامي، عشان عارف أن دي نقطة ضعف الناس الطيبة اللي علي الله حكايتهم - حكاية "مينو" بالتفصيل موجودة في كتابي "حدوتة مصرية" - وفضل الحال سمن علي عسل بين "مينو" وأهل رشيد، لحد يوم 4 أغسطس سنة 1798م، يعني أقل من شهر.
اليوم ده صحي الناس علي أخبار وصول مركب فرنسية من اسكندرية عليها الأميرال "برويس" ومعاه السيد "محمد كُريم". ومين في وجه بحري كله ميعرفش ومبيحبش "محمد كُريم". عشان كده أول ما وصل الخبر لأهالي رشيد خرجوا يستقبلوا "محمد كُريم" ويرحبوا بيه. وكانت صدمتهم كبيرة وعنيفة لما شافوه مكبل بالأغلال وراسه عريانة زي المساجين. هنا أتقلب حال أهل رشيد، وقامت ثورة غضب عنيفة وحرب شوارع بين أهل رشيد والفرنسيين، ما هم فاقوا وفهموا أن الفرنسيين ميفترقوش حاجة عن "عثمان بك خجا"، واحد ظلم ودول ظلمات. من شدة ثورة أهل رشيد، سرع "مينو" في تسيير مركب "محمد كُريم" من رشيد عشان منظره بيهيج الناس أكتر. يعني "محمد كُريم" وهو حر ولا مقبوض عليه، وهو بيحمس الناس وبيبعت رسايل ولا ساكت، كان مصدر القلق والثورات اللي مهنتش الفرنسيين علي يوم عدل طول ال 3 سنين اللي قضوها في مصر.
يوم 12 أغسطس سنة 1798م، وصل "محمد كُريم" القاهرة ونزل من مركبه في بولاق في سرية تامة عشان ميحصلش من أهل القاهرة زي اللي حصل من أهل رشيد لما يشوفوه، ورغم أنه وصل الصبح الا أنهم فضلوا مخبينه في المركب لحد بعد المغرب لما الدنيا ضلمت والناس نامت، نزلوه علي سجنه. قابله "نابليون" بوش غير الوش اللي قابله فيها أول مرة، المرة دي عامله كخاين مسجون يستحق الاعدام، ووجهله تهم التحريض علي المقاومة وخيانة الجمهورية الفرنسية. وبعت "نابليون" ل "كليبر" برسالة تانية يؤمره فيها بمصادرة كل ثروة و أملاك "محمد كُريم"، وتعيين "محمد الشوربجي الغرياني" حاكم علي اسكندرية. وأمر "نابليون" بأنعقاد محاكمة عسكرية خاصة ل "محمد كُريم".
فضل "محمد كُريم" مسجون كام يوم، لحد ما أتشكلت المحاكمة برئاسة الجنرال "ديبوي" حاكم القاهرة العسكري ومعاه 4 ضباط فرنسيين. وحضر المستشرق الفرنسي "فانتور" الجلسة عشان يترجم بين "محمد كُريم" وأعضاء هيئة المحاكمة. بدأت المحاكمة سأله الجنرال "ديبوى" وقال:-
"لقد أثبت التحقيق أنك خائن ولست أهلاً للثقة التى منحها لك القائد العام , وأنك حرضت الناس وأهل البحيرة على الثورة ضد الجمهورية".فرد ” محمد كُريم “ بكل ثبات وبلاغة وقال:-
"إن الجمهورية هى التى خانت مبادئها اغتصبت- وطنى و قتلت الناس بلا شفقة ولا رحمة , لا لذنب سوى أنهم يدافعون عن بلادهم و نسائهم و أموالهم . لقد حطمتم سجنكم الباستيل وانقذتم أنفسكم من طغيان ملوككم و أعلنتموها ثورة على الظالمين ثم ناديتم بشعاركم حرية ومساواة و إخاء ولكنكم سرعان ما تنكرتم لهذا الشعار ونسيتم ما قمتم من أجله عندما دان لكم النصر وتملكتم شهوة الطمع و الاغتصاب فأنطلقتم من بلادكم وحرياتها و أصبح شعاركم الموت للشعوب و الحياة لفرنسا وحدها “.
الكلام اللي قاله "محمد كُريم" أذهل الحضور، وأصابهم بالصدمة والتوتر لأنهم كانوا متوقعين أنهم بيحاكموا راجل جاهل من دولة متخلفة حضاريا ومع أول شخطة وتبريقة ركبه هتخبط في بعضها وهينهار، لكنهم فوجئوا بشخصية قوية كاسحة، ثابت ومنطقه بينم علي متابعته للأحداث العالمية وفهمه ليهم كويس وكمان بيحقر منهم ومن مبادئهم وحضارتهم بكل جرأة وهو روحه في ايديهم، لكن "محمد كُريم" كان عارف كويس أن روحه في ايد الله وهو راجل مبيخافش من الموت طالما علي حق وضميره مرتاح.
الجنرال "ديبوي" من لخبطته قصاد منطق "محمد كُريم" معرفش يقول ايه غير أنه يستخدم قوته الغاشمة وحظره أن كلامه ده هيقتله.
فرد عليه ” محمد كُريم ” فى جرأة وقال:-
أتجنن ” ديبوى ” اكتر من كلام ” محمد كُريم ” و مد ايده وخرج شوية ورق منها رسالة لوح بها ل ” محمد كُريم” وقاله:- "انها بخط يدك أرسلتها ضدنا الى قصر مراد بك وفيها تحرضه ضدنا وهذا أثبات لا يقبل النقاش المراوغة".
تاني يوم حضر "نابليون" المحاكمة وسمع كلام "محمد كُريم" اللي هو عارف ومتأكد أن كلامه كله حق، بس ده طبع المغتصب أنه يبص علي أهدافه بس حتي لو كانت ضد مبادئه اللي نادي بيها لشعبه، فالمغتصب دائما لايري البشر بشراً الا شعبه فقط، أما باقي بشر العالم ماهم الا قطيع يأخذ خيرهم ويفني منهم ما يريد ويبقي منهم من يرعي لمصلحته.
أمر "نابليون" مجلس المحاكمة بالحكم علي "محمد كُريم" بالاعدام رمياً بالرصاص، ويعتبر الحكم لاغي لو أفتدي نفسه ب 30 ألف ريال في مدة 24 ساعة، و"نابليون" كان واخد كل ثروة وأملاك "محمد كُريم" وعارف أنه مش معاه حتي عشر المبلغ ده. وهنا اتدخل المترجم المستشرق "فانتور" وقال ل "محمد كُريم" يتصرف ويجمع المبلغ ويفتدي نفسه.
هنا بقي التاريخ قال روايتين هعرضهم الاتنين وهسيب لكم الحكم أنهي رواية الصح علي حسب معطيات شخصية "محمد كُريم" اللي عرضتها في 3 أجزاء.
الرواية الأولي بتقول أن "محمد كُريم" قبل العرض، ونزل يلف علي الاسواق والتجار وهو بيصرخ وبيقول "غيتوني يا مسلمين" ويطلب منهم حد يدفع فديته، أو حتي يجمعوها من بعض. لكنه فِضل يلف ويهين نفسه ومحدش عبره والكل أداله ضهره، عشان كان محسوب من رجالة "مراد بك" المكروه من المصريين.
الرواية التانية بتقول أن "محمد كُريم" لما سمع الحكم وسمع كلام "فانتور" قال:- "أما حياتى فلست متمسكا بها , ولا حريصا عليها فهى منتهية فى وقتها المحدد لها. وقد قال كتابنا العزيز قل لن يصيبنا الا ماكتب الله لنا كما قال قرأننا المجيد فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. اذا كان مقدوراً علي أن أموت فلا يعصمني من الموت أن أدفع هذا المبلغ، واذا كان مقدراً لي الحياة فعلام أدفعه".
الرواية الأولي كتبها الجبرتي والرواية التانية كتبها "فانتور" في سجل المحاكمة اللي موجود في فرنسا ونقلها "الرافعي" ومن بعد منه أساتذة التاريخ المذكورة في المصادر، واللافت للنظر أن المستشرق الفرنسي اللي من مصلحته تشويه سمعة خائن لبلده مجبش سيرة شحاتة "كُريم" لفلوس من الناس، وكتب في سجلات محاكمته اللي يظهره بمظهر البطل عزيز النفس قوي الايمان وقوي الحجة والشخصية.
وفي ضهر يوم 6 سبتمبر سنة 1798م، خرج "محمد كُريم" راكب حمار مقيد اليدين خلف ضهره وسط حراسة مشددة يتقدمهم فرقة بتضرب علي الطبول ماشيين بيه علي طول شارع الصليبة لحد ميدان الرميلة - ميدان القلعة حاليا - وأتنصبتله حلقة الاعدام، وأتجمع أهل القاهرة يتفرجوا علي لحظة أعدام البطل بقلوب مكسورة ومقهورة ووقف البطل الثائر المؤمن عاشق الوطن "محمد كُريم" قصادهم بثبات مرفوع الراس وقال بصوت عالي للناس: " كونوا مثلا للتضحية. اصمدوا فى وجه المستعمر وقاموا جبروته و طغيانه مهما كان العنف و العناء “. وهتفتت الناس "الله أكبر الله أكبر". وتلا "محمد كُريم" الشهادة وقصاده صف من عساكر الفرنسيين وفي لحظة أطلقوا النار علي البطل الشهيد لتصعد روحه الطاهرة لبارئها.
وصف المؤرخين ومنهم فرنسيين أن أكبر غلطة عملها "نابليون" في حملته علي مصر، أنه أعدم السيد "محمد كُريم" لأنه أثبت بالعملة دي صحة كلام "محمد كُريم" أنهم شعب همجي خانوا مبادئهم عن الحرية والدفاع عن شرف الوطنية.
وبعد أعدام البطل قطعوا راسه وحطها الفرنسيين علي نابوت وطافوا بيها البلد مع منادي بيقول "هذا جزاء من يخالف الفرنسييس". لكن المشهد ده عمل عكس اللي كانوا الفرنسيين عاوزينه من ترهيب المصريين. المشهد ده فجر في وش "نابليون" ثورة القاهرة الأولي بكل أحداثها العنيفة، وبكده فضل "محمد كُريم" هو السبب في تفجير المقاومة والثورات سواء حي أو ميت.
وبالنسبة لجسد ورأس الشهيد، فهم رجعوا أسكندرية بلده وعشقه. ويقال أنه مدفون في منطقة بين المكس وقباري، والاهالي عاملينه هناك مقام مسمينه مقام سيدي كريم. رحم الله البطل الشهيد "محمد كُريم".
مروة طلعت
تعليقات
إرسال تعليق