محمد كُريم 2
(2) فجر يوم 2 يوليو سنة 1798م، بدأ الجنود الفرنسيين ينزلوا من سفنهم بعد ما أخدوا أشارة الزحف من قائدهم "نابليون بونابرت". "نابليون" كان عاوز ينزل حملته مصر بسرعة، عشان خايف من أن الاسطول الانجليزي يلف ويرجع في أي لحظة، ويضطر يدخل في مواجهة مباشرة معاهم هو عارف ومتأكد أنه هيكون خسران فيها هدفه وحلمه بالمجد واللي بدايته من مصر. وبالفعل نزل الجنود من ثغر العجمي وعند شروق الشمس كانوا وصلوا وعسكروا عند عمود السواري.
من وقت ظهور الاسطول الفرنسي في البحر، ووقت ما كان فيه كلام ومهاترات حكيناها في الجزء الاول. كان "محمد كُريم" مجمع عساكره ونازلين في محاولة سريعة لترميم القلاع والحصون، وكان مشاركهم ايد بإيد أهل أسكندرية ولاد البلد، الكل خايف بس في نفس الوقت معندوش استعداد يستسلم، بس للأسف الوقت كان قليل أوي حتي الأسمنت ملحقش ينشف.
أول ما نزل الجنود الفرنسيين من سفنهم، بعت "محمد كُريم" 13 رسول جريوا يقابلوا "مراد بك" اللي لسه في الطريق جاي علي اسكندرية، يبلغوه أن الفرنسيين خلاص نزلوا. ووزع "محمد كُريم" الأسلحة علي كل راجل اسكندراني قادر يقاتل، وبقوا واقفين في صفوف الدفاع جنب عساكره، لحد ما يوصل "مراد بك" بجنوده من المماليك.
وألتحم الفريقين "محمد كُريم" بجنوده وأهل البلد في مقاومة عنيفة باسلة ضد الجنود الفرنسيين. لكن الكترة تغلب الشجاعة، والجنود الفرنسيين هنا كانوا الكترة في العدد والأسلحة الحديثة المتطورة - ماهو حتي الاسلحة كانت قديمة عشان العثمانيين مبيمدوهمش بالجديد خوف من الاستقلال منها - والأكتر تنظيم وتدريب في القتال واستخدام السلاح عن الحداد ولا النجار من أهل البلد. هي صحيح كانت مقاومة عنيفة ومحدش كان بيفكر في الموت علي اد تفكيره أنه يحمي بلده وبيته وأهله، لكنها كانت في النهاية مذبحة رهيبة وقع فيها كتير من ولاد البلد.
أقتحم الفرنسيين الأسوار ودخلوا البلد وسط البيوت والأسواق، لكن "محمد كُريم" برده مستسلمش وفضل يقاوم، ويلف ويشجع الناس اللي معاه ويحمسهم، وأستمروا يضربوا من حصنهم في طابية قلعة قايتباي. ولما أخر الحصون - الطابية - اتطربقت عليهم، لقي "محمد كُريم" نفسه خلاص كده مفيش في ايده حاجة، كل اللي كان متاحله استخدمه وأكتر، وبسبب هشاشة تحصينات اسكندرية وفقر الاسلحة والعتاد وتأخر "مراد بك" في السكة، كل ده أجبر "محمد كُريم" علي الاستسلام.
الفرنسيين لما قبضوا عل "محمد كُريم" قبضوا عليه وهو لسه ماسك سلاحه في ايده، فجردوه منه وحطوا في ايده الأغلال وجابوه عند قائدهم "نابليون بونابرت". "نابليون" علي الرغم من أن "محمد كُريم" يبقي عدوه وخسره جنود وبسببه مخدش اسكندرية بالساهل زي ما كان متوقع، لكنه كان مبهور بيه وبشجاعته ووطنيته. أول ما دخل "محمد كُريم" علي مجلس "نابليون" قامله الأخير زأمر جنوده يفكوا وثاقه، وأتقدم منه وسلمه سلاحه تاني وقاله: "لقد أخذتك والسلاح في يدك، وكان لي أن أعاملك معاملة الأسير، لكنك أستبسلت في الدفاع، والشجاعة والشرف صنوان لا يفترقان، لهذا أعيد اليك سلاحك، ورجائي أن تبدي للجمهورية الفرنسية من الاخلاص ما كنت تبديه لحكومة سيئة".
"نابليون" أستخدم طريقة دعائية لحملته ممتازة وكانت هتاكل معانا أوي في عصرنا الحالي، اللي هي طريقة لي الحقايق. شايفين يا مصريين بلدكوا مهملة ازاي ده حتي العثمانيين مكلفوش خاطرهم يحموكوا ولا يحصنوكوا، سايبينكوا كده في وش الخطر بقي دي حكومة دي. شايفين المماليك أهم جبنا أهم حتي مكلفوش خاطرهم يجوا يدافعوا عنكوا وسابوكوا لقمة سهلة بقي دي حكومة دي. فرنسا قوية وهتحميكوا وهتعلمكوا وتنضفكوا حتي معانا أهو علماء ورقاصات تفرشفشكوا وتعرفكوا الفن، هننتشلكوا من الجهل وندخلكوا في الحضارة. احنا مش مستعمرين، أحنا أصدقاء - السمك صحاب مش طواجن - وهنساعدكم.
بس الطريقة دي مكلتش مع المصريين وقتها مع أن الكلام كله في ظاهره صحيح، والناس فعلا غرقانة في الجهل والمرض والفقر، عارف ليه؟؟. لسبب مهم أوي أن الناس كانت هويتها الدينية أعلي بكتير أوي مننا، كانت الناس انتمائها للدين الاسلامي والخلافة الاسلامية حتي لو مغرقانا في الجهل. مكنش فيه معني للقوميات ولا الأوطان، وأهل البلد اللي ماتوا وهم بيقاوموا، مماتوش عشان بلد ولا عشان مصر، مكنش عندهم مفهوم يعني ايه مصر، كانت كلها أرض الله وأرض الخليفة بالنسبة لهم، أنما ماتوا دفاع عن شرفهم وعرضهم ودينهم ضد الفرنجة اللي علي غير دينهم. الفكرة أن لو فرنسا دي مسلمة مكنش أهل البلد أتدخلوا وسابوا الخلفاء يتصارعوا مع بعض واللي يكسب أحنا معاه زي ما حصل بين المماليك والعثمانيين.
"محمد كُريم" مكلش من كلام "نابليون" - أنت جاي بلد الازهر تقول فيها الكلام ده - لكنه كان ذكي. كان حاضر اللقاء ده "مسيو فيفان دينون" واحد من بعثة العلوم والفنون اللي كانت مع الحملة الفرنسية، ولما شاف "محمد كُريم" وصفه وقال: "لقد لاحظت علي ملامح هذا الرجل الذكاء والدهاء، وكأنما كان يكتم عواطفه عنا، علي أنه بدت عليه علامات التأثر من العفو الذي أسداه اليه القائد العام".
"نابليون" قدر في "محمد كُريم" روح الشجاعة والالكفاح، فتوسم فيه أنه يكون عون لهم يقدر من خلاله يأثر في ولاد البلد، زي ما أثر فيهم وبث فيهم روح المقاومة، يبث فيهم محبة الفرنسيين، خصوصا بعد ما هُيأ ل "نابليون" أنه قدر يقنعه بمنفعة فرنسا ليهم. طلب "بونابرت" من "محمد كُريم" يرجع منصبه تاني كحاكم أسكندرية، بس تحت ولاء فرنسا. قبل "محمد كُريم" ورجع لمنصبه ظاهريا متعاون معاهم، وباطنيا بيزرع الشوك تحت رجليهم.
أتحرك "نابليون" وجنوده متجه للقاهرة، وساب وراه الجنرال "كليبر" حاكم عسكري علي اسكندرية، ووصي "محمد كُريم" يتعاون مع "كليبر". " محمد كُريم" في سرية شديدة بدأ يبعت رسله للبلاد اللي حواليه يبلغهم بأخبار زحف الفرنسيين، ويشجعهم علي المقاومة، وبسببه قامت ثورة "حسن طوبار" في المنزلة واللي قرفت "نابليون" وجننته حرفيا، وبسببه برده قامت مقاومة رشيد الباسلة، ده غير العربان اللي وصلتلهم رسالة "محمد كُريم" وبقوا قارفين الفرنسيين يسرقوا جمالهم وأسلحتهم وقرب المياة لحد ما كانوا هيموتوهم من العطش. يعني بسبب "محمد كريم" غالبية وجه بحري - البلد الوحيدة اللي استسلمت من غير مقاومة أهلها كانت دمياط للأسف - شرب الفرنسيين المر بشاليموه.
بعد كل العكوسات دي كتب الجنرال "ديموي" واحد من قادة الحملات علي وجه بحري، تقرير ل "نابليون" بيحكيله في الوضع واللي بيحصل، وراح كاتب سطر في قلب تقريره قاله فيها: "وقد داخلني الشك من الاتفاق بين هجوم هذا الجمع علينا ومغادرتنا الاسكندرية، وخيل إلي أن هناك اتصالا بينهم وبين أهل الاسكندرية".
وبرده "كليبر" وافق "ديموي" في شكه في "محمد كُريم"، وبعت شكوكه في تقارير ل "نابليون". فبعت "نابليون" رسالة ل "كليبر" قاله فيها أنه أتأكد من خيانة "محمد كُريم" ليهم، وأنه كان المحرك الأساسي لكل الثورات والمقاومة الشعبية ضدهم. وأمر "كليبر"بالقبض عله ويكبله بالحديد، ويقبض علي كل أتباعه وحاشيته، ويحطهم في السجن، ويصادر كل أمواله وثروته. لكن الرسالة دي موصلتش ل "كليبر" عشان الجندي الفرنسي للي كانت معاه الرسالة المقاومة قتلته في السكة.
حتي وأن الرسالة موصلتش، "كليبر" أتصرف زي ما كان "نابليون" عاوز، وقبض علي "محمد كُريم"وأخده الأميرال "برويس" للجنرال "مينو" حاكم رشيد.
(يتبع)
مروة طلعت
تعليقات
إرسال تعليق