محمد كُريم
(1) التاريخ له أكتر من وجه، لأن التاريخ عبارة عن حكايات ناس زينا، بشر يعني مش أساطير، بيتحكم فيهم طبيعة المكان وعوايد الزمان ونفسهم البشرية ونشأتهم الاجتماعية والتعليمية والدينية. فاللي بيتعامل مع التاريخ من مبدأ أسباب ونتائج بس، أو اللي صح واللي ميصحش من منظور زمنا، من غير ما يحلل النفس البشرية اللي أصدرت الفعل من خلال حياتها وبيئتها، يبقي بيظلم التاريخ ومش هيستفاد منه بشئ.
يمكن ده السبب في تأخر حكايتي المرة دي عن ميعاد ما اتفقنا، حكاية السيد "محمد كُريم" علي أد ماهي مكنتش محتاجة بحث كتير، علي أد ما كانت محتاجة تفكير وتأمل كبير. حكاية "محمد كُريم" محافظ اسكندرية البطل مقاوم الفرنسيين، كلنا درسناها في المقررات الدراسية. وفيه اللي قرا حكايته علي صفحات التاريخ، وفيه اللي قراها في كتاب "الجبرتي". لكن أسمحولي تقروها معايا زي منا قريتها جايز أكون علي صواب أو خطأ، بس ده أحساسي وتحليلي، يلا بينا.
الزمان: نص القرن ال 18
المكان: حي الأنفوشي في أسكندرية.
الحدث: أتولد "محمد كُريم" يتيم الأب وعاش في رعاية عمه.
العم أهتم بتعليم أبن أخوه الصغير، وكانت بداية تعليمه في الكُتاب مع باقي أطفال المنطقة، حفظ فيه القرآن الكريم وأتعلم القراءة والكتابة. ولما كبر شوية بدأ يتردد علي المساجد ويواظب علي حلقات العلم، قدر عن طريقها يكتسب كتير من العلوم الاسلامية. كل ده الي جانب مساعدة عمه في التجارة في المحل بتاعه.
لما أشتد عود "محمد كُريم" ودخل في مرحلة الشباب، قدر ياخد ورثه من أبوه، وعن طريقه قدر يفتحله محل صغير وتجارة خاصة بيه، وأشتغل قباني يعني بيصنع الموازين اللي بتستخدم في السوق. في نفس الوقت كان "محمد كُريم" بيتردد علي الساحات الشعبية اللي بيتجمع فيها شيوخ وأكابر البلد، وبيقعد وسطهم بشكل مستمر. وكان "محمد كُريم" لبق في الكلام وبشوش ودبلوماسي وعنده خفة في الحركة وخدوم لدرجة الجدعنة. الصفات دي كلها لفتت العيون والأنظار ليه، وبدأت تجارته تزدهر وأتوسعت في كذا مجال - طبيعي ألف واحد يبقي زبون للبياع البشوش المجامل صاحب اللسان الحلو - ومنها معارفه وعلاقته تكبر أكتر وأكتر، لحد ما بقي من أصغر لأكبر شخص في اسكندرية يعرف "محمد كُريم".
مين وصله الكلام عن "محمد كُريم"؟. الكلام عن صفات "محمد كُريم" الحميدة وخصاله أخلاقه الطيبة وحب الناس له طار من أسكندرية للقاهرة لحد مسامع "مراد بك"شيخ البلد اللي جه من بعد موت "محمد بك أبو الدهب". وعلي الاساس ده ولاه "مراد بك" مسؤولية الديوان والجمرك بالثغر، وشوية كمان وبقي حاكم أسكندرية أو المحافظ.
وجت سنة 1798م، وجت معاها حدث عظيم شقلب حياة المصريين رأسا علي عقب. في الزمن ده كان الدول العظمي فيها هم أنجلترا وفرنسا، دولتين استعماريتين يدايرين يلاحقوا بعض علي زعامة الكوكب وفرض سيطرتهم علي البلاد، وأنتزاعها من بعض. وبعد خسارة فرنسا مستعمراتها في أمريكا وخدتها منها، فكرت فرنسا ازاي تعكنن علي انجلترا. وبما أن الهند أكبر مستعمرات انجلترا وأهمهم علي الاطلاق لأن معظم مواردهم وتجارتهم بتيجي منها، فكان النكد لازم يصيب انجلترا من ناحية الهند.
- طيب يلا يا فرنسا أحتلي الهند.
- يابني هو أنا عرفت أحافظ علي مستعمراتي في امريكا قصادها عشان أدخل في مواجهة مباشرة تانية قصاد انجلترا اللي أكيد مرشقة عدد كبير من جيشها لحماية اكبر مستعمرة ليها.
- طب ما نتي عارفة كده يا فرنسا متلمي نفسك وأحترمي أمكانياتك.
- لا لا أنا هحتل مصر.
- انتي مش عاوزة الهند مالك ومال مصر.
- ماهي مصر علي خط تجارة سفن انجلترا ومصر في نص البحر المتوسط مابينهم يا ناصح، أنا بقي هبقي لانجلترا شوكة في قلب البحر عن طريق مصر، وهعكنن عليها.
- متأكدة يا فرنسا.
- عيب عليك يا جدع.
في يوم 19 مايو سنة 1798م، طلع الأسطول الفرنسي من المينا وهم مكتمين تماما رايحين علي فين تقريبا "نابليون بونابرت" بس هو اللي كان عارف. وفعلا زي ما توقع "نابليون" الأسطول الانجليزي خد خبر بتحرك الاسطول الفرنسي في البحر المتوسط بس مكنش عارف رايحين فين. وعلي غرار توم وجيري، طلع الاسطول الفرنسي يجري والاسطول الانجليزي يجري وراه. وصل الاسطول الفرنسي مالطة وأتزود منها بالمؤن من الأكل والشرب وطلع يستخبي في ثغر من الثغور القريبة. فلما وصل الأسطول الانجليزي مالطة يدور علي أسطول فرنسي كان معدي من هنا، فقالوله أهل مالطة أنه فعلا جه وأشتري أكل وشرب ومشي ناحية الشرق من 5 أيام.
قائد الاسطول الانجليزي "نلسون" لما سمع كلمة الشرق، فرد خريطته وبص فيها وراح مشاور علي مصر، وقالهم "بونابرت" رايح هنا. وفي يوم 28 يونيو سنة 1789م، وصل الاسطول الانجليزي سواحل اسكندرية - ماهو الاسطول الفرنسي فضل مستخبي ولابد في الدرة علي ما الاسطول الانجليزي يعديه - وبعت "نلسون" وفد لحاكم اسكندرية السيد "محمد كُريم" برسالة قاله فيها أنه متوقع أن الاسطول الفرنسي بيحوم في البحر المتوسط وقاصد ميناء اسكندرية، ونية الفرنسيين مش خير خالص، فلو تسمح تزودنا ببالأكل والشرب مقابل فلوس وتسمحلنا نركن في المكان هنا شوية بغرض الحماية من الفرنسيين.
"محمد كُريم" مصدقش كلام الانجليز، قالك هي الحداية بتحدف كتاكيت من أمتي يعني انجلترا هتخاف علينا من فرنسا حاجة متدخلش العقل، هو كل اللي جه في دماغه أنها حركة من انجلترا القصد منها الركنة وبعد الركنة نلاقيهم فوق دماغنا، ماهو مكنش يعرف أن حنية الانجليز دي وراها مصلحة ليهم أكبر من احتلال مصر في الوقت الحالي، وهي أستطياد أسطول فرنسي شارد. المهم أن "محمد كُريم" رفض وبعت ل "نيلسون" رساله قاله فيها: "هذه بلاد السلطان، ليس للفرنسيين أو سواهم شيء في هذا البلد فاذهبوا أنتم عنا". وقصاد رفض "محمد كُريم" أتحرك الاسطول الانجليزي وساب اسكندرية وأتجه لشواطئ الاناضول.
مفيش أسبوع وبلغ مراقبين المينا "محمد كُريم" أنهم شايفيين أسطول هالل عليهم من بعيد رافع أعلام فرنسا. ساعتها أتنطر "محمد كُريم" من مكانه ودق ناقوس الخطر في دماغه، ماهو كده يبقي كلام "نيلسون" كان حقيقي مكنش خدعة. وفي الحال كتب رسالة طارت ل"مراد بك" و "ابراهيم بك" في مشيخة البلد في القاهرة، يبلغهم فيها بخطر الاسطول الفرنسي.
ماهو من عجايب القدر أن في الوقت ده كانت مشيخة البلد مقسومة عل اتنين "مراد بك" و "ابراهيم بك" وزي ماهو معروف أن المركب أم ريسين بتغرق. وبعد مشاورة أتفقوا علي أن "مراد بك" يطلع بجنوده من المماليك علي أسكندرية، و"ابراهيم بك" يفضل بجنوده من المماليك في القاهرة علي استعداد.
وفي يوم 30 يونيو سنة 1798م، وصل الاسطول الفرنسي وعسكر في العجمي، وبعت "نابليون" مندوب لحاكم اسكندرية بيطلب منه احضار القنصل الفرنسي لمباحثة أمر مهم. فهم "محمد كُريم" أن الغرض سحب القنصل بعيد عن منطقة الخطر أو يقع أسير في ايديهم يساوموا عليه وقت اجتياحهم، فرفض "محمد كُريم" الطلب.
عاوزين بس مننساش أن مصر في الوقت ده كانت ولاية عثمانية، صحيح هم سايبينها للماليك لكن عشان تأكيد فرض السيطرة كان العثمانيين سايبين سفينة عثمانية دائمة الوقوف في الثغر. ولما رفض "محمد كُريم" طلب الفرنسيين"، طلعله - خير اللهم اجعله خير - "ادريس بك" قومندان السفينة العثمانية اللي أمر "محمد كُريم" بالسماح للقنصل الفرنسي بمقابلة القادمين. وأضطر ساعتها "محمد كُريم" يوافق بس بشرط يروح مع القنصل مجموعة من البحارة السكندرانية وأوصاهم يرجعوا بيه للثغر تاني.
لما راح القنصل الفرنسي وقابل "نابليون"، وصفله وصف دقيق جدا للحاميات في اسكندرية واللي كانت هزيلة وضعيفة جدا قصاد قوة الحملة الفرنسية، فأسوار وقلاع وحصون اسكندرية كانت مهدمة وخربانة. حد هيسألني طب ليه العثمانيين موضبوهاش وحصنوها كويس، هقولك عشان خايفيين تبقي ضدهم مش ليهم، يعني حد يطلع زي "علي بك الكبير" تاني ويستقل بمصر وتبقي الحصون والقلاع دي ضدهم. ومحدش جه في خياله أن ممكن مصر تتاخد منهم خارجيا مش داخليا زي اللي حصل كده.
(يتبع)
مروة طلعت
تعليقات
إرسال تعليق